“هكذا لا تعرفُ شيئًا؟ أأنتَ الآن أيضًا مُغرى للغاية؟”
ومع أنّ الحاجز السحري الذي يحجب النافذة ما زال على حاله، إلّا أنّه إن لم يقم الكونت بأبعاده فسيزول في يومٍ ما.
وليس بالضرورة أن تكون نافذةً بالذات، فقد ينتقل إلى مكانٍ آخر، أو يختفي بحجّة نزهةٍ بسيطة.
هذا ما كان فيليون يُحذّر منه، وقد أدرك الكونت الأمرَ فورًا.
‘هل أُقيّده فورًا بالسحر؟’
ومضَ هذا الصراع لحظةً في عينيه البنفسجيّتين الشبيهتين بعيني فيليون.
ظلّ فيليون يحدّق به بهدوء، ثم أزاح يده عن إطار النافذة.
“فلنؤجّل الأمرَ قليلًا، خصوصًا وأنّ العجوز يتوسّل الي بالدموع.”
“…… لم أصل إلى حدّ ذرف الدموع.”
“يبدو أنَّ ما زال لديّ الحدّ الأدنى من صفات البشر. أليس ذلك مفرحًا؟”
وضع الكونت يده على جبهته وزفر أنفاسًا عميقة.
رغم أنّ نبرة فيليون المتهكّمة كانت تُثير الضيق، إلّا أنّ أوضح شعورٍ لديه كان الراحة.
“إذًا، متى ستعلّمني السحر؟”
وحين سأله فيليون ذلك، ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ سعيدة.
“لنبدأ غدًا فورًا، ما رأيك؟”
“موافق.”
كان من الواضح أنّه يتذكّر أيام تدريبه لفيليون الصغير،
ولهذا لم يُدرك أنّ فيليون ما زال يضمر فكرة الهرب.
***
السبب الوحيد الذي جعله يطلب تعلّم السحر كان واحدًا:
‘إن عرفتُ السحر، سيكون الهرب أسهل.’
ومع ذلك، كان صحيحًا أنّ رغبة الرحيل قد خمدت قليلًا.
فليس كلّ ما يقوله الكونت كذبًا، فشروحه كانت واضحةً وسلسة للغاية.
ونظراته المليئة بالودّ أحيانًا بدت حقيقيةً أيضًا.
الأمر نفسه مع الأمّ والأقارب، فقد شعر بأنّهم يعتنون به.
لكن لماذا إذًا…
‘لماذا أشعر أنّه ينبغي أن أترك هذا المكان؟ هل لأنّهم اتهموني ظلمًا بسرقة كتابٍ محرّم؟ أم لأنّي قلقٌ من أنَّ أحدهم قد يلاحقني؟’
حتى أثناء تلقّي دروس السحر من الكونت ديلاريك، وأثناء الأحاديث الدافئة مع الأمّ والعائلة، ظلّ هذا التساؤل جاثمًا في داخله.
وحتى وهو يتعلّم السحر، ظلّت الحيرة تلازمه.
كان فيليون يكتسب كلّ شيء بسرعة، ولو كان تعافي طاقته السحرية أسرع قليلًا، لتمكّن من استخدام كلّ ما علّمته إيّاه والدته.
لكن لم ينتابه شعور ‘لقد مررتُ بهذا من قبل’ أبدًا.
وتقدّمه السلس لم يكن بفضل ذكريات الماضي، بل بسبب فهمه العالي ومهارته الفطرية في السحر.
‘ربما لم أستطع إحراق أوراق الماضي البيضاء بالقدر الذي ظننته.’
فمع كثرة ما اطّلع عليه من سحر، لم يشعر ولو مرّةً بلمحة مألوفة.
ولهذا ازداد فضوله أكثر فأكثر.
فبحسب كلام الكونت، فإنّ ما تبقّى في داخله من أوراق بيضاء كان متينًا وسميكًا للغاية،
لكن لماذا لم تُمحَ هذه المشاعر وهذا القلق، وبقيا عالقَين بداخله؟
ماذا حدث بالضبط؟
‘هل الأمر متعلّق بتلكَ المرأة؟’
إن كان كذلك، فلن يخبره أفراد العائلة بالحقيقة على الأرجح.
عليه أن يبحث عنها أوّل ما أن يخرج من القصر.
ترك فيليون هذه التساؤلات في ركنٍ من قلبه، وانغمس في تعلّم السحر.
خصوصًا سحر التتبّع، إذ بحث في الكتب المتعلّقة به ودرسه بإلحاحٍ أكبر.
وفي أحد الأيام، كان يقرأ في مكتبة الجدّ كعادته، فشاهد من النافذة عربةً يراها لأوّل مرّة تدخل المكان.
“من هذا؟”
حتى دوّى صوت طرقٍ على الباب، ودخل الخادم إلى المكتبة.
“سيّدي الكونت، السيّدة إيريون ليفيل حضرت.”
“إيريون؟”
اسم لم يسمع به من قبل.
هل يمكن أن تكون…
“إيريون هي المرأة التي أحضرتني إلى هنا؟”
“…… لا، إيريون تلميذتكَ.”
وبما أنَّ الكونت اقترح أن ينزلا معًا، نزل فيليون معه إلى الطابق الأوّل.
كانت إيريون ليفيل، التي التقياها عند المدخل، تبدو غاضبةً بعض الشيء.
لم تلقِ التحيّة على فيليون، بل ضيّقت عينيها الزرقاوين وهي تتفقّد الحاضرين في المدخل،
ثم أعادت نظرها إليه قائلة:
“أين هب؟”
أمال فيليون رأسه متسائلًا: ماذا تقصدين بـ”أين”؟
“هذا الوجه… يبدو أنّكَ فقدت ذاكرتكَ مجدّدًا.”
رغم أنّه لم يقل شيئًا، إلّا أنّ إيريون بدت وكأنّها وجدت جوابها.
وحصل فيليون أيضًا على معلومةٍ جديدة:
‘إذًا هي أيضًا تعرف عن لعنَتي.’
“إذًا عليّ أن أغيّر مَن أطرح عليه السؤال.”
قالت ذلك وهي تلتفت نحو الكونت ديلاريك.
“أين هي؟”
“…… لا أعرف عمّن تتحدثين.”
“لا تتظاهر بالجهل! أعني تلكَ السيّدة! هل عليَّ أن أذكر اسمها بلساني؟”
ثم جالت بنظرها حول المكان، وكأنّها تقول: “هنا أناسٌ كثيرون.”
فرك الكونت جانب جبينه بضجر.
“ولماذا تظنّين أنّها هنا؟”
“لأنّك أنتَ هنا، يا مُعلمي. لقد رأيتكما معًا من قبل، لم أُدرك وقتها أنّك أنتَ يامُعلم، أو أنّها هي تلك السيّدة…”
“حسنًا، لندخل ونتابع الحديث.”
استدار الكونت نحو الداخل، وتبعته إيريون.
أما فيليون، فلمّا همّ بالدخول معهما إلى المكتبة، هزّ الكونت رأسه رفضًا بحزم.
وكانت هناك حاجزٌ عازل للصوت، فلم يتمكّن حتى من التسلّل عبر الممرّ السرّي للتنصّت.
لم تمكث إيريون طويلًا في المكتبة، وحين خرجت وأغلقت الباب، حيّت الكونت بأدب، لكن ملامحها ظلّت غير مُرضية.
كان فيليون بانتظارها عند المدخل طوال الوقت، ومع ذلك، لم تقل له شيئًا حين التقت به، ارتجف كتفها لحظةً بدهشة، لكنها، كما فعلت مع الكونت، انحنت قليلًا،
ثم تجاوزته بخطى سريعة في الممرّ.
قطّب فيليون حاجبيه وتبعها.
“ألن نتحدّث قليلًا؟”
“ليس لديّ ما أقوله لمريضٍ فاقدٍ للذاكرة.”
“وهل يجوز أن ترفضي مريضًا هكذا ببرود؟”
“نعم، والمُعلم ليس مِمّن يجرحهم الرفض، ولو كان أشدّ برودًا من ذلك.”
كلامها كان مستفزًّا… لكنه صحيح.
لم يجد فيليون بُدًّا من استجداء نبرةٍ متوسّلة.
“إنّه رجاء.”
عندها فقط توقّفت إيريون.
قال فيليون بألطف وجه وأهدأ صوت.
“كما قلتِ، أنا لا أتذكّر شيئًا قبل مجيئي إلى هذا القصر.
سألتُ الجدّ، لكن… لم يخبرني بوضوح.”
صحيح أنّه سمع الكثير من الكونت ديلاريك، لكن الفراغات لا تزال كثيرة، خصوصًا ما يتعلّق بـ ‘تلك المرأة’.
‘أشعر أنّ تلكَ السيّدة التي تقصدها هي ذاتها تلك المرأة… حدسي يقول ذلك.’
كان عليه أن يُمسك بإيريون هذه المرّة، فقد تكون هذه آخر فرصة.
“أنتِ الوحيدة التي يمكن أن تخبريني. أرجوكِ.”
بدت إيريون غارقةً في التفكير، رمقته، ثم التفتت نحو مكتبة الكونت التي ابتعدت عنها، عضّت شفتها، ونظرت نحو الممرّ الذي أتت منه، وبقيت صامتة.
وحين بدأ فيليون يتمتم في نفسه:
“ألا ترين أنّكِ أطلتِ التفكير أكثر من اللازم؟”
قالت أخيرًا:
“لنذهب إلى الغرفة.”
لكن حتى بعدما دخلا الغرفة، لم تجلس إيريون، وبقيت واقفةً عند الباب.
وعندما بدأ فيليون الحديث وهو يواجه نظراتها الحادّة، قالت:
“آسفة، لكن لا أستطيع أن أخبرك بما تحدثت عنه مع الكونت.”
“…… ماذا؟ ولماذا؟”
“لأنّي وعدت الكونت بذلك.”
أومأ فيليون برأسه. لا بأس، فهناك طرق كثيرة لاستخلاص الجواب دون سؤالٍ مباشر.
“قلتِ إنّكِ قابلتِني، متى كان ذلك؟”
“منذ أكثر من شهر.”
“وأين التقينا؟”
“في جبال الجنوب… كان اللقاء صدفةً حقًّا.”
جلس فيليون على مسند الأريكة ونظر إليها.
“وماذا قلتُ لكِ حينها؟”
“…… لم تقل شيئًا. وأنا أيضًا، فلم أعرف أنّك أنت يا مُعلمي.”
سأل فيليون بنبرةٍ مشدودة قليلًا:
“وهل كانت تلكَ المرأة معكِ؟”
بعد صمتٍ قصير، أجابت إيريون:
“هناك سحرٌ يُسمّى سحرَ التشويش على الإدراك،
كنتَ ترتدي نظاراتٍ مُسحورةً به.”
“……”
“أما هي فلم تكن ترتدي نظارات، لكنّ ملامحها تغيّرت كثيرًا، فلم أتعرف عليها بغبائي. كما أنّكما بدوتما قريبَين جدًّا….”
“بدونا قريبَين جدًّا، فلم تتعرّفي عليها؟”
“…… نعم، فالعلاقة بينكما لم تكن جيّدةً أصلًا، ولا يمكن تصوّر أنكما ستكونان معًا.”
رغم تردّدها، إلّا أنّ نبرتها كانت واثقة.
شعر فيليون بانزعاجٍ غريب، وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ ساخرة مائلة.
“هل تلك المرأة أيضًا مصابة بلعنة فقدان الذاكرة؟”
“لا، ليست كذلك، وقد سمعتُ أنّها كانت تستخدم السحر بشكلٍّ طبيعي.”
“إذًا فهي تجاهلتكِ.”
“…… لا بدّ أنَّ لديها سببًا وجيهًا.”
رغم نبرتها المتفهّمة، بدت ملامح إيريون تحمل بعض الخيبة.
واصل فيليون طرح الأسئلة:
“كيف عرفتِ أنَّ الشخصين اللذين التقيتِ بهما حينها هما أنا وهي، وأنتِ تقولين إنّكِ لم تتعرّفي علينا؟”
“رأيتُ منشورات المطلوبين.”
أجابت وهي ما تزال بوجهٍ كئيب.
“لكنني لم أكتشف ذلك من الأمر مباشرة، بل على العكس، حاولتُ أن أقبض عليكما… كنتُ أريد مساعدة صديق… أو بالأحرى، كان صديقي سابقًا.”
“……”
“لذلك بدأتُ تحرياتي بطريقتي الخاصة، تتبعتُ آثاركما من الجنوب حيث التقينا أوّل مرّة.”
“……”
“لكن الأمر كان صعبًا، فقد كنتما بارعَين في إخفاء أثركما.”
“إذًا كيف اكتشفتِ الحقيقة؟”
رفعت إيريون عينيها الزرقاوين نحو فيليون.
“الإعصار.”
رفع فيليون حاجبًا واحدًا: الإعصار؟
“كان هناك من شاهد الإعصار الضخم، طفلٌ كان يجمع الفطر في الغابة. وكأنّ أحدهم حاول إسكاتَه، لكن كانت بيني وبينه معرفةٌ سابقة، فاستطعتُ أن أسمع منه.”
“وهل لذلك معنى كبير؟”
“نعم، فالقادرون على استدعاء إعصارٍ بهذا الحجم
لا يزيد عددهم على عشرةٍ في برج السحر. ومن بينهم، النساء الشابات أربعٌ فقط: اثنتان ما زالتا في البرج، والثالثة ليست في الإمبراطورية، أما الرابعة فهي…”
فجأة ضعفت نبرتها، واهتزّ بصرها قليلًا، ثم أطبقت شفتيها.
أدرك فيليون فورًا:
‘يبدو أنَّ الكونت ديلاريك طلب منها ألّا تتحدث عن تلك المرأة.’
صحيح أنّها لم تمتنع تمامًا عن ذكرها، لكن بعدما تنبّه إلى هذا، بات من الصعب استخلاص المزيد من المعلومات عنها.
ابتسم فيليون: يا لها من مشكلة.
فهذا لا يزيده إلّا فضولًا.
“على أيِّ حال، أنتِ تظنّين أنّها هي.”
“…… نعم، وعندما أعدتُ النظر إلى أمر القبض، وجدتُ أنّ الرجل المرافق يشبهكَ أنت، يا مُعلمي. فأبلغتُ ديلاريك، وبما أنّي تلميذتك، أخبرني بالأمر بسهولة.”
وهكذا وصل الأمر إلى ما هو عليه الآن.
سأل فيليون بصوتٍ منخفض:
“هل ستذهبين للبحث عن تلك المرأة؟”
إن قالت نعم حقًّا، فحينها…
‘هل عليّ أن أتبَعها؟’
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 73"