وبعد لحظة تفكيرٍ قصيرة، تذكّرتُ ما كنتُ قد نسيتهُ.
“أنتَ نسيتَ أن تُعطيني الكتابَ الّذي حصلتَ عليه في المؤتمرِ الأسبوع الماضي، أليس كذلك؟ لقد أوصيتُكَ قبل ذهابي إلى نقابةِ المرتزقة بأنّي أُريدهُ جدًّا…”
“غير هذا.”
“غيرُه… شيءٌ آخر؟”
“غيرُ السِّحر.”
تأمّلتُ فيليون قليلًا.
شيءٌ آخر أُريده منه غيرُ السِّحر…
في الحقيقة، كان هناك شيء.
شيءٌ لم يكُن موجودًا من قبل، لكنه ظهر قبل ساعاتٍ فقط.
‘أَعِدْ كونت ديلاريك إلى القارّةِ الغربية.’
لكنّني لن أنطقَ بهذا أبدًا.
فالكونت ديلاريك هو من عائلةِ فيليون.
ولا يمكنني أن أطلبَ طردهُ لأنّي أشعرُ بالحرج منه. هذا تصرّفٌ طفوليٌّ جدًّا.
وقد يُصاب فيليون بخيبةِ أملٍ منّي.
ولا أستطيعُ أيضًا قول: إنّي لا أريدُ مقابلةَ الكونت مُجدّدًا… فهذا أيضًا طفوليٌّ وساذج.
طالما أنني سأظلُّ مع فيليون… فلابدّ من مواجهتهِ يومًا ما.
وحتى هذا النوع من التعبيراتِ الّتي رأيتُها اليوم… سأراها عشراتِ المرّاتِ مجدّدًا.
‘عليّ أن أتحمّل.’
هززتُ رأسي مرّةً أخرى.
“لا… ليس هناك شيء.”
“…….”
“اذهب بسرعة. سَتتأخّر.”
لكنّ فيليون لم يتحرّك.
وكان لا يزالُ متردّدًا في شيءٍ ما.
كان واضحًا أن الصراعَ يتردّد في عينيه في كلِّ لحظة، وهو شخصٌ يُتقنُ إخفاءَ مشاعره… لذا فهذا ليس أمرًا بسيطًا بالنسبة له.
ومضى وقتٌ لا أدري كم دام، ثمّ أخيرًا انفرجت شفتاه.
“…سأعودُ الليلة. سأحاولُ القدوم بأسرعِ ما يمكن.”
يبدو أنّهُ قرّر عدمَ قولِ ما كان يُفكّر فيه.
“لا داعي لذلك. لقد التقيتَ بالكونت بعد زمنٍ طويل. فلا بدّ أن لديكما الكثير لتقولاه.”
“ليس لديَّ ما أقوله.”
“لكنّ الكونت ربّما…”
“سأنهي العشاء فقط ثم أعود. أعدكِ.”
…ليس هناك داعٍ لأن يعدني، لكن ملامحهُ كانت جادّةً للغاية، فهززتُ رأسي موافقة.
ثم نهضتُ ودفعتهُ قليلًا من ظهره، وقلتُ له أن يذهب، وأنّي سأكون بانتظاره. عندها فقط بدأت قدماه تتحرّكان.
“لم أتوقع أن يهطُل بهذه السرعة. آه، صحيح… في القارّة الشرقية يأتِي الثلجُ مبكرًا قليلًا.”
وبينما قرّرتُ أن أرافقه إلى الباب ما دمتُ قد وقفتُ على أيّ حال، مشيتُ بجانبه.
وابتسامةٌ خفيفة ارتسمت دون إرادةٍ على شفتيّ.
اختفى الكونت ديلاريك من رأسي تمامًا، ولم يبقَ سوى شعورٍ دافئ ومشرق.
ثمّ عندما التفتُّ جانبًا لأنّي شعرتُ بأنّي سأتثاءب،
“أوه؟”
كنتُ أحبُّ الثلج منذ طفولتي.
وكانت الثلوجُ تتساقط خارج النافذة.
إذ إنّ مقاطعة فولكس لم يكن يتساقط فيها الثلج.
“إنه الثلج!”
لم أرَهُ ولو لمرةٍ واحدة طوال بقائي هناك.
“ماذا؟”
كان شتاءُ ذلك المكان دائمًا كئيبًا ورماديًّا.
“انظر هناك. أليس هذا الثلج؟”
كنتُ تواقَةً لأن أراه.
اقتربتُ من النافذة بحماس.
كنتُ أتساءل دائمًا عندما أنظر من نافذةِ القبو:
ألَا يبدو هذا المشهدُ القاتمُ أجمل لو هطل الثلج؟
مددتُ يديّ إلى الخارج، فلامسها شيءٌ باردٌ سرعان ما ذاب. كان ثلجًا بحق.
‘هل رأيتُ الثلج لأوّل مرة في برجِ السِّحر؟’
والتفتُّ إلى فيليون…
إذا لم تخنّي الذاكرة، فقد التقينا مصادفةً هناك. وتحدّثنا قليلًا أيضًا…
لم أرَ الثلجَ قط في فولكس.
كان الشِّتاءُ دائمًا كئيبًا بلا لون.
وكنتُ أفكّر في القبو أن الثلج ربما يجعلُ المنظر أقلَّ وحشة.
‘أظنّ أنّ أوّل مرّة رأيته فيها كانت في برجِ السِّحر.’
“فيليون، هل تذكُر… عندما كنّا في برج…”
“هذا غيرُ معقول.”
رمشتُ بعينيّ متفاجئة من عبارتهِ الغريبة الّتي قاطعني بها.
لم أسمع خطأ.
“هذا… هذا فعلًا غيرُ معقول.”
“لماذا؟”
“كنتُ متأكّدًا أنه سينزل في عطلةِ نهاية الأسبوع.”
…هل يستحقُّ هطولُ الثلج كلَّ هذا الغضب؟
“كنتُ أتحقّق من موعدهِ منذ أشهر. وسألتُ كلَّ السحرة الّذين يتوقّعون الطقس… وكلّهم قالوا نهاية الأسبوع.”
“…….”
“حتى الحجوزات رتّبتُها لهذا الموعد تحديدًا… لكن جدي جاء فجأةً… والآن…”
ثم بدأ يتلعثم، وهو أمرٌ غيرُ معتادٍ منه.
وبانكسارٍ واضح، خفض رأسه.
“…أنا آسف يا رايلي.”
“على ماذا؟!”
“ماذا قال لكِ جدي؟”
أجبتُ بأكبر قدرٍ من الهدوء:
“لم يقل شيئًا مهمًّا.”
“إذًا فلا بدّ أنه ضايقكِ.”
“…كيف عرفت؟”
“يكفي أن أنظر إلى وجهكِ.”
رغم محاولتي إخفاء الأمر، يبدو أنّه ظهر عليّ…
جزءٌ منه بسبب حدّة ملاحظته، لكنّ ذلك كان مُربكًا قليلًا.
إذ لم أحظَ بوقتٍ لوحدي بعدُ.
فلم أحدّد بعد كيف سأتعامل مع الكونت، ولا كيف سأخبرُ فيليون…
ما أشعرُ به الآن ليس جيّدًا.
ومهما حاولتُ تلطيفه، سينتهي الأمرُ بالحديثِ بسوءٍ عن الكونت.
وسيغضب فيليون حتمًا… فهذا قريبه.
“هاه…”
خرجت منّي تنهيدةٌ دون قصد.
وفي تلك اللحظة فتح فيليون فمه مجدّدًا.
“لن أنفصل عنكِ.”
اضطررتُ إلى تحويل نظري من النافذة إليه.
“أعلم أنّه لا يمكنني الانفصال عن عائلتي… أعلم ذلك، لكن…”
“لحظة يا فيليون. أنت… أنت تبكي؟!”
اقتربتُ منه على عجل، ورأيتُ بوضوحٍ الحمرة التي غَزَت طرفي عينيه.
فأدار رأسه بسرعةٍ ليُخفيهما.
“لم أبكي، يا غبيّة.”
عاد صوته الّذي كان لديه عندما كان طفلًا… ما يعني أن مشاعره تتأرجح بعنف.
“ولِمَ خطرت ببالكِ هذه الفكرة؟”
“قلتِ إنّكِ لا تريدين شيئًا منّي. وتنهّدتِ قبل قليل.”
“هذا كان… عن غير قصد…”
“لم تطلبي أن أطرد جدي، ولم تخبريني ما حدث بينكما. لم تقولي شيئًا… فقط طلبتِ منّي الذهاب.”
“لأنّ هذا… طفولي!”
“حتى لو كان طفوليًّا، فهو مهمٌّ لي.”
وضع رأسه على كتفي وقال:
“أرجوكِ… لا تكتمي عنّي شيئًا. قولي لي كلَّ شيء.”
كان كلامه مؤثّرًا.
لأنّي قبل قليل فقط كنت أفكّر: “يجب أن أتحمّل.”
ومع أنّه يستطيع قراءةَ مشاعري بسهولة…
فهو يريد أن يسمعها منّي مباشرةً.
ربّتُّ على ظهره بلطف.
“حسنًا… لن أفعل ذلك مجددًا…”
فعانقني بقوّةٍ أكبر.
ومع دفءِ حضنه، شعرتُ بأنّ كل التوتّر الذي بدأ منذ لقائي بالكونت… أخيرًا يتلاشى.
“لكن… أعلم أنّ هذا ليس الوقت المناسب لقول هذا، لكن… ماذا عن العشاء؟”
“…….”
“لا أعني أن نُرسله وحده! لكن… إن لم نخرج كلانا فسيبدو الأمر غريبًا. إنه اليوم الأول لزيارته، لذا على الأقل العشاء…”
فككتُ العناق ونظرتُ إليه مباشرةً، مع ملامح تقول: “أنا صادقةٌ تمامًا!”
فعاد وعانقني ثانية.
“لن أذهب هكذا.”
“…أما أنا، فلا أريد الذهاب.”
“ولم أفكّر بأخذكِ.”
ثم طبعت شفتاه قبلةً خفيفة على خدّي مرّتين.
ضحكتُ من دغدغتها، فرأيتُ ابتسامةً ترتسم على وجهه.
“هاه… كنت أريد أن أفعل هذا كلّه بشكلٍ مثالي…”
كنتُ بالفعل أودّ أن أسألَ منذ قليل:
ما الّذي كان يريد فعلَه؟
ولِمَ كان يتحقّق من موعد الثلج منذ أشهر؟
ولِمَ انزعج من قدوم جده المفاجئ؟
وماذا كان قد حجزه…؟
“رايلي.”
وعندما سمعتُ صوته المنخفض قرب أذني، قفز قلبي.
وأحسستُ بشيءٍ يشبه الحدس.
“لا مكان خاصّ، ولا زهور، ولا حتى ملابس أنيقة…”
لا، لا تقول…!
“لكن إن لم أقله الآن… لن أرتاح. أنا آسف.”
ثمّ في اللحظة التالية، جثا فيليون على ركبةٍ واحدة أمامي.
ومدّ يده داخل ردائه…
وظهر ما كنتُ أتوقّعه.
خاتمٌ يحملُ حجرًا يلمع بألوانٍ أخّاذة.
“أريد… أن أقدّمكِ للناس على أنّكِ خطيبتي.”
“…….”
“فهل… يمكنني ذلك؟”
حدّقتُ فيه مذهولة.
“إذًا… هذا يعني…”
“لنتزوّج.”
كان قلبي يخفق ببطءٍ مخيف، ثم صار يدقّ كطبولٍ سريعة.
“لا أعني الآن فورًا. اختاري الوقت الّذي تريدينه. لكن… لا أريد أن تظلّ يدكِ خالية.”
وبعينين بنفسجيّتين تتلألآن أكثر من الجوهرة، قال:
“هل… لا أُناسبكِ؟”
“لا! لا، هذا ليس… ليس ما أقصده…”
“إذًا… أنا لا أُناسِبكِ حقًّا.”
“أيُّ كلامٍ هذا!”
جلستُ على ركبتيّ ونظرتُ إليه مباشرة.
“كنتُ أفكّر طوال اليوم بما سيحدث لاحقًا. أنا لا أريد الانفصال عنك… لكن الكونت لا يُحبّني…”
“إذًا إن رفضت عائلتي… هل كنتِ ستتخلّين عنّي؟”
“لم أفكّر بهذا الشكل.”
“لكن فكّرتِ بشيءٍ قريبٍ منه.”
لم أستطع إنكار ذلك.
تلك الفكرة كانت الأبعد في قائمتي… لكنها كانت موجودة.
“أنا سأفوز. سواء بالقتال، أو بالسِّحر، أو بأيّ شيء. سأفوز على جدي دائمًا.”
ثم قبّل ظهرَ يدي.
“فقط… قولي نعم. لنتزوّج.”
هززتُ رأسي موافقة.
وبينما أدرتُ وجهي خجلًا، أسرع هو بوضع الخاتم في إصبعي، وكأنّه يخشى أن أتراجع.
ضحكتُ وعانقته.
“ولكن… لماذا كنتَ تريد موعدًا يتزامن مع الثلج؟”
“لأنّي أردتُ استخدام كلِّ ما تحبّينه… حتى لا ترفضي.”
“والحجز الّذي قُلتَ عنه؟”
“حجزتُ مطعمَ لويتن بالكامل.”
“كامل المطعم؟”
كان ذلك المكان ملكًا لصديقٍ التقاه فيليون من خلال العمل، وقد كنتُ قد قلتُ سابقًا إنه أشهى مكانٍ زرته في القارّة الشرقية.
كما أنه أكبر مطعمٍ في المنطقة،
وبفضل الجدرانِ والسقف الزجاجيّ، كان منظرُ الثلج سيبدو رائعًا.
“أظنّ أنّني كنتُ سأعجبُ بذلك فعلًا.”
“أليس كذلك؟ لنذهب نهاية الأسبوع.”
“حسنًا.”
والآن تذكّرتُ لماذا كان يسألني مرارًا عن جدول هذا الأسبوع…
ولا يُستبعد أن يملأ لويتن بكتبِ السِّحر النادرة أيضًا.
“لكنني… أحبّكَ أنتَ أكثر.”
“…أكثر من السِّحر؟”
فقمتُ بقرص ذراعه.
“أوه! مؤلم…” قال فيليون ضاحكًا، فعانقتُه مجددًا حول رقبته.
“…أحبّكَ أكثر من السِّحر.”
فعانقني أيضًا.
وبعد قليل فقط، التقت أعينُنا…
ثم التقت شفتانا.
وبينما أستمتع بلمستهِ الدافئة، أحاط خصري بذراعيه…
ولمّا استعدتُ وعيي، وجدتُ نفسي فوق السرير.
خلع قميصه مبتسمًا وقال:
“سنُطرَد من هنا الليلة.”
وبما أنّي فهمتُ تمامًا معنى كلماته، لم أقل شيئًا… بل عانقتُه من ظهره.
التعليقات لهذا الفصل " 132"