الحلقة 20: الغريب المقنَّع
«لماذا تأخّرتما هكذا!»
صرخ فريدكين الذي كان ينتظرهما وهما يدخلان غرفة النزل متنهّدين.
كانت الدوقة في غرفة أخرى، وقد أكمل فريدكين الاستعداد للمغادرة.
نظر ويلشر خارج النافذة قبل إغلاقها وقال:
“يجب أن نحترس من الآن فصاعدًا. كان هناك من يتبعنا”
“ماذا؟ من هو؟”
“لا أعلم. رجل سريع كالظلّ، يرتدي ثيابًا سوداء. يبدو أنّه يعرف أنّ رفيقتنا الدوقة”
انتفض فريدكين مذهولاً وشكّك في الكلام.
“كيف عرف ذلك؟”
“على أيّ حال، إن بقينا في القرية، قد يكتشف رجال ميرماجندي وجود الدوقة. يجب أن نرحل فورًا”
انتظر فرسان الأمير حتّى تعمّق الليل، ثمّ تحرّكوا بهدوء خارج القرية.
* * *
لم أُبدِ للمجموعة شيئًا، لكنّني عرفتُ أنّ فرسان عائلة الدوق وصلوا إلى قرية سيينا.
رأيتُ عباءاتهم الحمراء في الحانة رغم نطاق رؤيتي الضيّق.
ربّما كانت هذه فرصة جيّدة للهروب.
لكنّني، بعد التفكير، قرّرتُ التخلّي عن الفكرة.
لم أردّ تعقيد الأمور بعصيان أمر الأمير، وسيأخذونني إلى المنزل على أيّ حال.
لكنّ تعابير الفرسان كانت غريبة منذ دخول الحانة.
كانوا يسرعون الخطى كمن سقطت النار على قدميه.
لم يكن ذلك بسبب قوّات ميرماجندي فقط، ففرسان القصر يملكون قوّة لا تقلّ عنهم.
سألتُ الرجال الذين يستعدّون للمغادرة كالمطاردين:
“ألم يكن مقرّرًا المبيت ليلة أخرى في القرية؟ لماذا تغيّرت الخطّة فجأة؟”
أجاب جينجر الذي أركبني خلفه على الحصان:
“عذرًا، أيتها الدوقة. ليس لدينا وقت للحديث الآن. اسألي فريدكين لاحقًا عن التفاصيل”
لم يُفصّل أكثر.
غرقت القرية في هدوء ضوء القمر.
تركناها خلفنا وانطلقنا في منتصف الليل بسرعة.
* * *
كنتُ أجري وحدي في ممرّ لا نهاية له تحت سماء القمر المكتمل.
كانت رؤيتي صافية مشرقة دون سبب.
كأنّني عدتُ إلى زمن عينيّ السليمتين.
هل حصلتُ أخيرًا على الترياق؟ أم أنّني أنهيتُ حياة الاستحواذ وعُدتُ إلى حياتي الأصليّة؟
لم يدم الفرح طويلاً، فسمعته صوت حفيف أفعى من الخلف.
كان شكل أسود يطاردني.
تكرّر المشهد المألوف.
قُبيل غرفة الجناح، أمسك المطارد شعري.
مع صرخة قصيرة، سقط جسدي على الأرض مدوّرًا.
نظر ديفون إليّ مبتسمًا بسخرية وأنا أُسحب بائسة.
“إلى أين تهربين”
“ا، أغيثوني!”
“كان يجب أن أتخلّص منكِ منذ البداية… خطأ جعل الأمر معقّدًا. آسف، أيتها الدوقة”.
وضع نصل السكّين على ذقني.
ثمّ أصدر تنهيدة قصيرة كمن تذكّر شيئًا.
“آه. لستِ الدوقة”
«…»
“أعرف سرّكِ. أنتِ مزيّفة تتظاهرين بأنك ناتانيا. لقد تعبتِ من تمثيل العمى. لكن لم يعد ذلك ضروريًّا”
رفض الليل احتضانه، فبدى محيطه مضيئا.
رفع القناع المربوط فوق رأسه، كاشفًا أنفًا مرتفعًا.
عيناه الغائرتان كالهاوية، وملامحه الحادّة تسحر كشيطان الأحلام.
“اليوم… سآخذ نصف عينكِ المتبقّي”
“ماذا؟”
آه، لا!
أردتُ الصراخ، لكنّ الصوت لم يخرج.
غطّيتُ وجهي غريزيًّا منتظرة الألم.
تجعّدتُ في نفسي، فسمعته يناديني من الجانب.
“سيّدتي الدوقة!”
دعني وشأني، أرجوك!
“الدوقة ناتانيا!”
فتحتُ عينيّ فجأة ورفعتُ جسدي مع الصوت الحازم.
نظرتُ حولي متنهّدة.
كان جينجر ذو الشعر البنيّ القاتم جالسًا أمام الكهف ينظر إليّ بقلق.
مسحتُ عرق جبهتي وفكّرتُ.
‘كابوس….شكرًا للإله’
ربّما بسبب الإرهاق المتراكم رأيتُ حلمًا غريبًا.
تنفّستُ الصعداء داخليًّا، فقال جينجر بلهفة:
“ليس لدينا وقت. يجب أن نتحرّك فورًا”
عبرنا البرّيّة أيّامًا ودخلنا التلال.
بعد اجتياز حقول القمح الشاسعة، ستظهر الأنهار والمداخل المؤدّية إلى ميرماجندي.
كان أتباع الأمير يتصرّفون كأنّ مهمّة إيصالي لها مهلة.
يبدون قلقين من مواجهة قوّات الدوق مجدّدًا.
تبعتُ جينجر تحت إلحاحه نحو الخيول.
كان فريدكين وويلشر ينظّفان مكان النار.
نظرتُ إلى السماء فكانت غيوم سوداء تتجمّع.
قال فريدكين بعبوس:
“رأيتُ كشّافًا قريبًا سابقًا. سنعود إلى غرينفيلد ولو طال الوقت”
“لكنّ السماء ستمطر قريبًا… أليس دخول حقل القمح أأمن؟”
“موعد الرسالة من صاحب السموّ غدًا، فلا داعي للعجلة الآن. نحن قرب إقليم الدوق، يجب الحذر. هيّا، اتبعوني مع الدوقة”
بدأنا السير على الخيول على طول السدّ المنحدر.
دوّى الرعد فوق رؤوسنا، وسمعتُ صوت حوافر خافت بينه.
ظهر الارتباك على وجه فريدكين.
“اختبئوا في حقل القمح!”
وساء الأمر بمطر غزير.
اقتربت مجموعة فرسان بسرعة.
غطّوا وجوههم برداء وغطاء، فلم أميّز انتماءهم.
رأيتُ خيول فريدكين وويلشر تنزل السدّ مسرعة.
ركل جينجر حصانه ليتبعهما.
حجبت قطرات المطر الغزيرة الرؤية.
أمسكتُ بثوبه من الخلف عندها.
‘م، ماذا؟’
طار جسم حادّ قرب الحصان العابر للجدول.
انتفض الحصان مفزوعًا من السهم الساقط عند قدميه، رافعًا مقدمته.
مال الجسد، فشددتُ قبضتي على ثوبه، لكنّ يدي انزلقت بالمطر فسقطتُ.
دوى الاصطدام في أذنيّ حتى شعرتُ بالدوار.
بقي جسدي مشدودًا لا يستجيب، كأنّ شرخًا خفيًّا قد تسلّل إلى عمقي.
فكّرتُ: يمكن الموت هكذا أيضًا.
رأيتُ الخيول تبتعد عنّي.
“أيتها الدوقة!!”
صرخ جينجر في المطر بعد أن فقدني متأخّرًا.
أردتُ نداءه، لكن يدًا خرجت فجأة من مكان ما وسدّت فمي.
دخلت رائحة دواء لاذعة الأنف والفم.
أُغمي عليّ قبل أن أدرك ما هو.
* * *
استيقظتُ على رائحة عفنة وصوت قطرات ماء متفرّقة.
كان المكان زنزانة صغيرة ذات قضبان، مبطّنة بالقشّ.
يداي مقيّدتان خلفي، وفمي مسدود.
زحفتُ نحو القضبان ونظرتُ خارجها.
لم يكن فريدكين وويلشر موجودين.
بدلاً من ذلك، رجال غرباء يثرثرون ضاحكين.
كانوا يرتدون قلائد من جلود وفراء الحيوانات، يشبهون عصابة لصوص.
يبدو أنّهم الفرسان الذين طاردونا أمام حقل القمح.
عباءتهم الفضّيّة التي يحملونها كغنيمة بدت غير متناسقة.
التقت عينيّ بأحدهم فسقطتُ على مؤخّرتي.
“أوه! استيقظتِ بالفعل؟”
“.. عمياء حقًّا؟ تتصرّف كأنّها ترى”
دوّى صوت فتح القفل.
زحفتُ نحو الجدار ملتصقة به.
دخل ثلاثة أو أربعة رجال أقوياء.
قال الوغد ذو الندبة على الخدّ:
“من يبدأ أوّلاً؟”
“أنا الأخير. هي من ميرماجندي… والعمى يزعجني”
“ما المشكلة؟ يكفي أخذ عذريتها..الأمر ليس بهذه الصعوبة ، إنها جميلة ، يمكننا تغطية عينيها فقط و إنهاء الأمر”
شعرتُ أنّ الوضع يسير نحو الخطر وأنا أسمع حديثهم.
ارتجف جسدي كلّه.
اصطكّت أسناني من البرد والخوف.
همستُ من خلف الكمامة:
“لماذا… لماذا تفعلون بي هذا؟”
بعد لحظة، فهم الرجل كلامي فهزّ كتفيه.
“نحن نتبع أوامر سيّد عالٍ في شؤون الدولة. قال إنّنا سنحصل على مال يكفي لمغادرة المملكة إن أنجزنا المهمّة”
ماذا… من هذه المرّة؟
شعرتُ بالسقوط في هاوية اليأس.
هربتُ للتوّ من قبضة نوا، والآن شخص آخر.
مقرف.
لاحظتُ نقش العباءة الفضّيّة التي يتباهى بها.
شمس مركزيّة محاطة بدوائر صغيرة.
كان ذلك الرمز غير الرسميّ لاتّحاد الإمبراطوريّة كما وصفته الرواية.
‘إن كان اتّحاد الإمبراطوريّة، فربّما…’
فكّرتُ أنّ لافيير قد يكون مرتبطًا بهم.
لو لم أكن متجسدة….. لما عرفتُ هذا.
ضحك الرجل كاشفًا أسنانه الصفراء.
“يبدو أنّ لسيّدة الدوق كلامًا. أزل الكمامة قليلاً”
ما إن أزالوا الكمامة حتّى صاحتُ مذعورة:
“سوء فهم! لستُ عذراء! كيف تأخذون عذريّة غير موجودة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 20"