1
في مجلسِ الإمبراطور.
كان الإمبراطورُ جالسًا في استرخاءٍ مهيبٍ خلفَ مكتبٍ عريقٍ يتألّقُ كتحفةٍ من تحفِ الفنّ، وعيناهُ السوداوان مُثبّتتان عليها بثباتٍ لا يرفّ.
شدّت داليا كفّيها في توترٍ ظاهر، ثمّ ألقت نظرةً خاطفة على الساعة الرملية المستقرة فوق المكتب.
لم يكن لديها سوى خمسِ دقائق لا غير.
كان قلبُها يضرب بعنف، فيما بقيت شفتاها تأبيانِ الانفراج.
سارَرَرَق…
دوّى تساقطُ الرمل في أذنَيْها كأنّه قصفُ رعدٍ بعيد.
ولمّا تبعه الإمبراطور بنظره، أشرقَ على محيّاه ذلك الابتسام الهادئ الساحر.
‘يا للمصيبة… ما أوسمه!’
لم يسبق لها أن اعتادت جماله مهما رأته.
فأطرقتْ ببصرها قليلًا، ثمّ انتزعت أخيرًا قدرتها على الكلام.
“يا… يا صاحبَ الجلالة.”
“كلا.”
رفعت داليا رأسها فجأة، وقد اتّسعت عيناها دهشة.
“لَمْ أتفوّه بشيء بعدُ.”
“هكذا إذن.”
أومأ لها بلمحةٍ خفيفة، كأنّه يدعوها إلى إتمام حديثها.
“أرجو… أن تتزوّج.”
“رائع.
هذا عرضُ زواجٍ حماسيّ.”
“عرضُ زواج؟ لا! لم أقصد نفسي!
أيُّ أحدٍ كان، فقط… فقط أبرِم زواجًا ملكيًّا، أرجوك!”
قالت ذلك وهي تلوّح بيديها في ارتباكٍ واضح.
ضحكَ الإمبراطور، ومع انحناءةِ عينيه بانَ الخالُ تحت إحدى عينَيْه بارزًا أكثر من ذي قبل.
“هذا أشدُّ بُغضًا لديّ.”
ثمّ وجّه بصره نحو الساعة الرملية كمن يفحص ما تبقّى من وقت.
وانخفض بصرُ داليا بدورها إليها.
‘لماذا يسقط الرمل بهذه السرعة الفظيعة؟!’
“ولِمَ تنفرُ من الزواج إلى هذا الحدّ؟”
“ولِمَ تُصِرّين إلى هذا الحدّ على زواجي؟”
“لأنّ…”
“أيتها الأميرة، الوقتُ يلفظ أنفاسه الأخيرة.”
تصلّبت داليا لحظةً، ثمّ سحبت أنفاسًا عميقة. ارتجف قلبُها وهي تتصوّر وقعَ كلمتها التالية.
لكنها رفعت رأسها أخيرًا، وثبّتت نظرها في عينيه السوداوين الصافيتين، ثمّ قالت ببطء:
“من أجلِ سلامِ العالم.”
ارتعشت نظرةُ الإمبراطور لحظةً، قبل أن يطلق زفرةً عميقة.
“أيتها الأميرة.”
انسكب صوته عليها ناعمًا، دافئًا، كقطعة شوكولاتة تذوب على اللسان.
“نعم.”
“ألمْ يَحِنْ موعدُ دوائِك؟”
رفعت داليا عينيها إليه في ذهولٍ صادق.
“كيف عرفت؟”
تشدّدت ابتسامته طرفة عين، ثم عادت بلطفها ذاته.
“أيتها الأميرة، أما مِن المفترض أنكِ تُدركين مرادي الآن؟”
“آه! كنت تلمّح فقط.”
ابتسمت ابتسامةً مشرقة، فانبثقت عروقٌ خفيفة على جبينه قبل أن تخبو من جديد.
ثمّ تناول الإمبراطور الساعة الرملية بيده، وكأنه يُعلن انتهاء اللقاء.
“انتهى الوقت.”
مدّت داليا يدها بتوسّلٍ شبه يائس.
“ألا يُمكن… خمسُ دقائقٍ إضافية فحسب؟”
“أتظنّين ذلك ممكنًا؟”
قالها مبتسمًا من طرف عينيه بابتسامةٍ لينة تذوب رقةً.
فعضّت شفتها وانحنت برأسها في خضوع.
“إذًا… أستأذنك.
أراك غدًا.”
“ستأتين غدًا أيضًا؟”
“نعم.
لَنْ أتراجع.”
وحين نطقت ذلك بإصرار، تقلّص ما بين حاجبَيْه لحظةً قبل أن يعود إلى استقامته.
“أيتها الأميرة، ألا يقال لكِ كثيرًا إنكِ تُهدرين جهدكِ على ما لا طائل منه؟”
“كيف علِمتَ—”
اتّسعت عيناها دهشة، لكنها لم تلبث أن ابتسمت بخفوت عندما رأت حاجبَه يرتجف في تلميحٍ واضح.
“آه… تلمّح مرةً أخرى.”
اهتزّت عيناه قليلًا وهو يمعن النظر فيها، كأنّ شيئًا فيه يتصدّع على مهل.
أما السكرتير أوريون، الذي تابع المشهد كلَّه في صمتٍ محموم، فقد أطبَق شفتيه بإحكام ليكبح ضحكًا كاد يفلت.
لقد ظهر شخصٌ…
يملك قدرةً عجيبة على التأثير في الإمبراطور نفسه.
التعليقات لهذا الفصل " 1"