الفصل 29:
“سيّدي، ألم تُشفَ ذراعكَ تقريبًا؟”
كان كيليان يلفّ الضمادات بعناية منذ الصباح، مما جعل مارك يرمش بعينيه متعجبًا.
كان الماء لا يزال يقطر من جسد كيليان الذي خرج لتوّه من الحمّام.
“لا، لم تُشفَ بعد.”
“لكنّني متأكّد أنّك خلعتَ الضمادة خلال مبارزة الفجر… أم أنّني أخطأتُ الرؤية؟ كح.”
تحت نظرة كيليان الحادّة، كأنّه يتحدّاه أن يعيد كلامه، أطلق مارك سعالاً متعمّدًا.
‘سيّدي بالتأكيد أصبح غريبًا.’
“بالمناسبة، يبدو أنّ الفرقة المتأخّرة تتأخّر كثيرًا.”
بينما كان يساعد كيليان في ربط الضمادة دون كلام زائد، ألقى مارك نظرة إلى النافذة ليستطلع أيّ حركة.
لم يكن هناك أيّ أثر لعربة قادمة اليوم أيضًا.
كان من المفترض أن تصل فرقة الفرسان بقيادة بيل منذ أيّام، لكن الجدول تأخّر يومين دون أخبار.
“ألم تصلكَ أخبار من بيل؟”
“تلقّيتُ رسالة أنّهم سيصلون قريبًا، لكن يبدو أنّ مشكلة ما حدثت في الطريق.”
‘كان يجب ألّا نترك القيادة لبيل، ذلك الفتى المندفع.’
عبس مارك بشدّة، وجهه يعكس قلقه على أخيه الصغير المتهوّر.
“كفّ عن العبوس، مارك. قد تراكَ السيّدة فتُفاجأ.”
“… حسناً.”
ربط مارك الضمادة بدقّة، ثمّ تراجع خطوة، محاولًا تلطيف ملامحه القاسية.
دوّى رعدٌ مدوٍّ من السماء الملبدة بالغيوم الثقيلة منذ الصباح.
مع الجو الذي ينذر بالمطر، عادت ملامح مارك لتصبح قاسية، كأنّها تُشبه الغيوم الداكنة بالخارج.
“يبدو أنّ عليّ التوجّه إلى المنطقة الحدوديّة. إذا هطل المطر، ستصبح الأرض موحلة، وسيصعب تحرّك العربات. يجب أن نصل إلى الشمال قبل ذلك.”
“…”.
نظر كيليان إلى السماء، ثمّ أمسك منشفة وجفّف شعره بعجلة.
“سأرافقكَ.”
“أنتَ أيضًا، سيّدي؟ المطر قادم. دعني أذهب وحدي.”
حاول مارك ردع كيليان وهو يرتدي معطفه.
“المطر لن يبدأ إلّا في وقت متأخّر من المساء، فلا مشكلة.”
“لكن، سيّدي…”
ربت كيليان على كتف مارك القلق، الذي كان ينظر إلى السماء، بقوّة.
“قلتُ لكَ، كفّ عن العبوس.”
أكمل كيليان ارتداء معطفه واتّسعت خطواته.
كانت العربة تحمل ألوان طلاء أحبّتها ليتريشيا كثيرًا.
لم يذكر ذلك، لكنّه لاحظ أنّها تنتظر العربة يوميًا لترسم بها.
لم يرد أن يراها تخيب أملها إذا أتلفت الألوان المطر.
“غريب… أجد نفسي أفعل أشياء لا أعهدها.”
رغم دهشته من نفسه، لم يتوقّف كيليان عن السير حتّى التقى بليتريشيا في الممر وهي تخرج من غرفتها.
“أوه؟ كيليان، إلى أين أنتَ ذاهب؟ كنتُ متّجهة إلى المكتبة.”
“أعتذر، ليتريشيا. عليّ الذهاب إلى المنطقة الحدوديّة، لذا سنؤجّل درس اليوم.”
“آه… حسناً، لا بأس. انتبه لنفسكَ.”
حاولت ليتريشيا إخفاء خيبتها بنبرة هادئة، لكنّها ابتسمت كعادتها.
‘جفّف شعره.’
رغم أنّ شعره الفضيّ كان لا يزال رطبًا قليلًا، إلّا أنّ رؤيته جافًا جعلتها تشعر بفراغ خفيف.
فركت أصابعها ببعضها دون داعٍ، ثمّ حاولت تجاوزه، لكنّه أمسك معصمها.
“ليتريشيا!”
“نعم؟”
“هل ستبقين هنا؟”
“هنا، في القصر؟ نعم، على الأغلب…”
“لا، ليس هذا قصدي. تبًا.”
حدّق كيليان في ليتريشيا، التي كانت تنظر إليه متعجبة، وتمتم بلعنة خافتة.
شعر بقلق مفاجئ عند فكرة مغادرة القصر دونها، مستذكرًا تجربة قديمة مؤلمة.
ذات مرّة، غادر القصر وكلّ شيء بدا طبيعيًا، لكن عند عودته، اختفى شخص عزيز دون أثر، تاركًا إيّاه مع شعور بالخيانة.
شعر اليوم أنّ ليتريشيا قد تختفي، فأمسك بها دون تفكير.
لكنّه لم يعرف ماذا يقول بعد ذلك.
لا يمكنه أن يطلب منها ألّا ترحل دون سبب واضح.
«أحمق.»
‘ما هذا الدخان اللعين الذي يظهر دائمًا؟’
حدّق كيليان في الدخان الذي يتسلّل كالأفعى ثمّ يتلاشى، مشدّدًا قبضته على يدها.
“… سأعود، فأتمنّى أن نكمل درسنا الليلة.”
“…”.
عندما تأخّر ردّ ليتريشيا، شعر كيليان بقلق يعتصر أحشاءه.
تشابكت أفكاره في فوضى. ‘لمَ لا تجيب؟ هل تنوي تركي والرحيل؟ لمَ؟ بهذه السرعة؟’
شعر أنّه بحاجة إلى عذر ليُبقيها، فتسارعت كلماته.
“لدينا حديث عن بيتر جودوين لم ننهِه، أليس كذلك؟ وليس هذا فقط…”
“حسنًا، سأنتظركَ.”
أوقفت كلمة ليتريشيا أفكاره المتشابكة، وأعادته إلى رشده.
“… ستنتظرين؟”
“نعم، سأكون هنا في انتظاركَ.”
غمرته الراحة فجأة.
أدرك أنّه كان يمسك معصمها بقوّة، فأفلتها سريعًا كمن لمس شيئًا ساخنًا.
“… أعتذر، لم أتحكّم في قوتي.”
“لم يؤلم كثيرًا، لا عليكَ.”
قالت ذلك، لكنّها فركت معصمها الذي شعرت فيه بألم خفيف، ولوّحت بيدها بإحراج.
“اذهب، وعد بخير.”
“… نعم، سأعود. نلتقي الليلة.”
***
“لماذا تصرّف كيليان هكذا فجأة؟”
جلست ليتريشيا في المكتبة، تدوّن النقاط، وفركت معصمها المحمرّ.
كانت لا تزال تشعر بقبضة يده القويّة التي أمسكتها بإحكام.
“بدا قلقًا جدًا.”
تأمّلت حالة كيليان، ثمّ أمالت كرسيّها للخلف.
وهي مستلقية، رأت المنظر خارج النافذة مقلوبًا.
“الآن أفكّر، لم أغادر القصر منذ وصولي.”
نظرت إلى السماء المكتظة بالغيوم الداكنة، وتمتمت حسب تداعي أفكارها.
“هل أخرج؟ لا شيء لأفعله.”
شعرت بالخمول مع غياب كيليان. أم أنّ الطقس هو السبب؟
بدأت عيناها تغيمان بالنعاس، فأمسكت بالمكتب فجأة.
توقّف الكرسي الدوار، فمدّت رقبتها للأمام.
رأت ظهرًا مألوفًا يتحرّك بحذر بين الأرفف.
“ميا؟”
كما توقّعت، كان زيّ الخادمة المكوى بدقّة مألوفًا.
قفزت ميا في مكانها مفزوعة عند سماع اسمها.
مؤخرًا، كانت تلتقي بميا كثيرًا بشكل غريب. ‘انها لا تتبعني، أليس كذلك؟’
‘ربّما مجرّد شعور.’
“ماذا تفعلين هنا؟ هل تنظفين؟”
عندما سألت، رفعت ميا منفضة الغبار بقوّة بدلاً من الإجابة.
تسبّب ذلك في تساقط الغبار فوق رأسها.
تشابك الغبار كخيوط العنكبوت مع شعرها القصير، فحاولت ميا إزالته بحركات مرتبكة، لكنّه تشابك أكثر.
“… من الأفضل أن تغتسلي.”
بعد أن خسرت ميا معركتها مع الغبار، خرجت من المكتبة بخطوات ثقيلة ووجه محبط.
في المكتبة الهادئة الآن، دارت ليتريشيا على كرسيّها بضع مرّات.
“ممل جدًا. هل أخرج فعلًا؟”
لكنّها تذكّرت نظرة كيليان القلقة وهو يمسك معصمها، فهزّت رأسها.
إذا خرجت دون إخباره، قد يفاجأ.
فضلًا عن أنّ المطر سيبدأ قريبًا…
“سأبقى هنا وأقرأ.”
تثاءبت ليتريشيا بهدوء، جمعت أوراق النقاط، وتركت الكرسي.
رغم زيارتها المكتبة منذ أسبوع، كانت هذه أوّل مرّة تنظر فيها بعناية.
“واه… بدت مليئة بالكتب، لكنّها مذهلة أكثر عند التدقيق. لا عجب أنّ كيليان يفخر بها.”
تخيّلت أنّ مكتبة القصر الإمبراطوريّ قد تكون مشابهة.
كانت الأرفف تمتدّ من الأرض إلى السقف، مرتبة حسب الألوان، وتحتها أرفف ضخمة متحرّكة تملأ الغرفة.
كانت المكتبة كمتاهة صغيرة.
“يا إلهي…”
واصلت ليتريشيا استكشاف المكتبة بإعجاب حتّى توقّفت عند قسم غريب.
“كتب قصص؟ لمَ هي هنا؟”
في أعمق زاوية، كانت هناك رفوف تحمل بضع كتب قصص فقط.
ظنّت أنّها كتب قرأها كيليان في طفولته، لكنّ الصفحات بدت جديدة، كأنّها مطبوعة حديثًا.
“كلّها من مؤلّف واحد.”
كأنّها مفتونة، أخذت ليتريشيا كتاب قصص وجلست في زاوية.
امرأة تجاوزت سنّ الرشد وتقرأ كتب قصص؟ لو رآها إيزيس، لعاتبها بشدّة.
لكن، بما أنّ إيزيس ليس هنا، فلا بأس.
هزّت ليتريشيا كتفيها، عدّلت جلستها لتكون مريحة، وفتحت الكتاب.
بدأت قطرات المطر تتساقط من السماء المظلمة.
“بطل القصّة أرنب ورديّ. يبدو أنّ كيليان يحبّ الأشياء اللطيفة أكثر ممّا يظهر.”
تخيّلت كيليان، الذي يشبه ذئبًا فضيًا عملاقًا، يقرأ هذا الكتاب، فضحكت.
بينما كانت تقلّب الصفحات براحة، بدأت عيناها تغلقان تدريجيًا.
ربّما بسبب الأرق الليلة الماضية بسبب صداع آخر حتّى الفجر.
غلبها النعاس، فأغلقت الكتاب ونظرت إلى الساعة.
لا يزال هناك وقت قبل عودة كيليان، فربّما لا بأس بنوم قصير.
“دقيقة فقط… سأنام قليلًا…”
—
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 29"