الفصل 26
“سأرسل الجدول الدقيق غدًا عبر الخدم.”
“شكرًا، كيليان.”
“إذن، أستأذن.”
بعد إيماءةٍ خفيفة، أغلق كيليان الباب وخرج.
ما إن غابت ليتريشيا عن عينيه، حتّى تغيّر تعبيره. تلاشي الدفء الطفيف من وجهه، وأصبح باردًا كالجليد.
“مارك.”
“نعم، سيّدي.”
تبعه مارك، الذي كان ينتظر في الممر بعد طرده من الغرفة.
‘ها هو يفعلها مجدّدًا.’
كان مارك بطيء الفهم خارج ساحة المعركة. حتّى أنّ بيل سخر منه قائلًا إنّ دبّ وليس بشرًا.
لكن مؤخرًا، حتّى مارك لاحظ تغيّر كيليان.
كان كيليان هادئًا كبحيرةٍ ساكنة، باردًا ومنطقيًا، لكن ليتريشيا كانت استثناءً.
انظر إليه الآن.
ما الذي حدث داخل الغرفة حتّى خرج بمزاجٍ سيّء في دقائق؟
“مارك، لو كنتَ مكاني، ماذا كنتَ ستفعل؟”
“ماذا، سيّدي؟”
“لو أصبتَ بمرضٍ مميت، هل كنتَ ستقبله بسهولة؟”
“؟”
استغرب مارك السؤال، لكنّه أجاب بجديّة.
“لن أتقبّله. الموت في المعركة واجب الفارس، لكن المرض؟ سأبحث عن طريقةٍ للعيش مهما كلّف الأمر، من الظلم أن أستسلم.”
ثمّ أضاف، خشية أن يبدو جبانًا:
“لا يمكنني التخلّي عن حماية سيّدي بسبب مرضٍ تافه.”
“الظلم. نعم، هذا ما سيفكّر فيه الجميع. لكن، يبدو أنّ هناك من لا يفعل.”
ضغط كيليان على جبينه عند إجابة مارك.
شعر بضيقٍ في صدره.
سيشفي مرض ليتريشيا في هذه الحياة مهما كان.
لكن، بغضّ النظر عن ذلك، كان موقفها الخالي من إرادة العيش يزعجه.
فجأة، انتابه قلق.
هل ستعيش ليتريشيا حتّى لو شُفي جسدها؟
“يبدو أنّني بحاجة إلى إعطائها المزيد. مارك، ابحث عن أشياء تساعد في تعلّم البرايل.”
“حسنًا. سمعتُ أنّ هناك أمين مكتبة في سوق الكتب يعرف البرايل جيّدًا. سأطلب منه…”
“مهلًا، أليس ذلك الأمين رجلًا؟”
“نعم، لكنّه عجوزٌ تجاوز السبعين.”
“لا حاجة. لقد وجدتُ مدرّسًا بالفعل.”
“بهذه السرعة؟”
عادةً، يُعامل المكفوفون بازدراء، لذا قلّةٌ من يعرفون البرايل، حتّى في الشمال.
أن يجد كيليان مدرّسًا بهذه السرعة أمرٌ مثيرٌ للدهشة.
“إذا سمحتَ، سيّدي، من اخترتَ كمدرّس؟ لا أعلم بوجود أحدٍ يعرف البرايل في الشمال.”
“أنا.”
“ماذا؟”
“أنا من سيعلمها.”
***
“الآنسة، أنا مارك ديفيس.”
“تفضّل بالدخول.”
بعد ليلةٍ في قصر الدوق، كانت ليتريشيا جالسةً عند نافذةٍ مشمسة. دعته للدخول.
“هل كانت الإقامة غير مريحة؟”
“على الإطلاق. لكن، ما الذي أتى بك إلى غرفتي؟”
“أمرني سيّدي بمرافقتكِ. انتهى تحضير ما أردتِ تعلّمه أمس.”
“حقًا؟ لم أتوقّع أن يكون بهذه السرعة. إلى أين أذهب؟”
“إلى المكتبة. اتبعيني.”
وضعت ليتريشيا وشاحًا على كتفيها وتبعت مارك.
“السيّد مارك؟”
“يمكنكِ مناداتي بمارك فقط.”
“حسنًا، مارك. لديّ طلب. هل يمكنكَ عدم مناداتي بالآنسة؟”
“هل اللقب يزعجكِ؟”
“نعم، قليلًا. إنّه ثقيل… هاها، نادني باسمي فقط. سيكون ذلك أريح.”
كما فعل بيل في منزل المدينة، شعرت ليتريشيا بعدم الراحة مع لقب “آنسة”.
“حسنًا، ليتريشيا. سأخبر الآخرين بمراعاة ذلك.”
“شكرًا. بالمناسبة، هل رأيتَ المدرّس الذي سيعلمّني البرايل؟”
“نعم، رأيته.”
“حقًا؟ كيف كان؟ أتمنّى ألّا يكون صارمًا جدًا.”
تذكّرت ليتريشيا معلمّتها القديمة التي كانت تحمل عصًا وتدرّس الآداب، ففركت ذراعها.
ما زالت تشعر بألم الضربات عندما أخطأت في تلاوة قواعد الإتيكيت.
“لن يكون… صارمًا معكِ، ليتريشيا.”
“حقًا؟ هذا مطمئن.”
‘لكنّه جديّ.’ خدش مارك شعره خلف أذنه بأصابعه الخشنة.
عندما وصلا إلى بابٍ مقوّس بمقبضٍ على شكل ذئب، تنحّى مارك.
“وصلنا. ادخلي.”
صرير.
فتح الباب الثقيل، فتنفّست ليتريشيا بعمق ودخلت.
رغم طمأنة مارك، كانت دروس الآداب القاسية تجعلها متوترة.
“لمَ أنتِ متوترة هكذا؟ هل سيأكلكِ أحد؟”
“آه!”
فجأة، خرج صوتٌ عميق من فوقها، فأطلقت ليتريشيا صوتًا غريبًا.
ثمّ تبعه فواقٌ لا إرادي.
“فزّعتني، فواق! فزّعتني…!”
“هم، لم أكن أعلم أنّ زوجتي تخاف بهذه السهولة.”
‘يجب أن أكون أكثر حذرًا.’ تمتم كيليان لنفسه، واستدعى خادمًا لإحضار ماءٍ دافئ.
“اشربي قليلًا، سيتحسّن.”
وضع الكوب في يد ليتريشيا بنفسه، وقادها إلى مكتبٍ معدّ مسبقًا.
ارتشفت ليتريشيا الماء بنهم، بينما كان كيليان يعبث بشعرها وهو جالسٌ على حافة المكتب.
“هل كانت الإقامة مريحة؟”
“نعم، جيّدة، فواق! جيّدة.”
“وهل أنتِ بخير؟”
مع استمرار الفواق، أومأت ليتريشيا وهي تشرب المزيد.
“هذا جيّد.”
“لكن، فواق!”
بسبب الفواق المستمر، ضربت ليتريشيا صدرها وتحدّثت.
“أين المدرّس الذي سيعلمّني؟ لم يصل بعد؟”
قيل إنّ كلّ شيء جاهز، لكن لم ترَ أحدًا سوى كيليان في المكتبة.
“لقد جاء، إنّه هنا.”
“ماذا؟ لكن لا أحد هنا سواك، كيليان.”
بينما كانت تحاول إيقاف الفواق، توقّفت ليتريشيا فجأة.
“لا تقُل إنّك أنتَ المدرّس؟”
“لمَ تعتقدين أنّني لستُ كذلك؟ أنا هو.”
“ألستَ مشغولًا؟ لمَ تفعل هذا بنفسك؟ استدعِ شخصًا آخر. لا داعي لإضاعة وقتك.”
“أودّ ذلك، لكن لا أحد في الشمال يعرف البرايل.”
كذب كيليان دون أن يتغيّر تعبيره، وأزاح الكوب الفارغ، ثمّ فتح كتابًا.
“كلّ يوم في هذا الوقت، سأعلّمكِ حرفًا واحدًا. في غضون عام، ستتعلّمين معظمها.”
“ماذا؟ حرفٌ واحد يوميًا لمدّة عام؟”
من فرط استغرابها، فتحت ليتريشيا فمها، وتوقّف الفواق فجأة.
“كيليان، عامٌ طويلٌ جدًا. ماذا عن زيادة عدد الحروف يوميًا؟”
“للأسف، هذا صعب. كما قلتِ، أنا مشغول. الوقت المتاح يكفي لتعليم حرفٍ واحد فقط.”
«كذبٌ محض»
“؟”
تلاشى دخانٌ أزرق تصاعد فجأة تحت يد كيليان القاسية.
‘ما هذا؟ هل رأيتُ دخانًا أزرقًا؟’
تمتمت ليتريشيا، ظنّت أنّها تخيّلت، وأمسكت الكتاب الذي فتحه كيليان بقوّة.
“إذن، أعرني هذا الكتاب فقط. أنا سريعة التعلم. سأدرس بنفسي إذا أعرتنيه.”
“هذا صعبٌ أيضًا. هذا الكتاب ثمينٌ جدًا بالنسبة لي، لا يمكنني إعارته.”
دون أن يرفّ له جفن، قدّم كيليان الكتاب الذي جلبه مارك كأنّه كنزٌ لا يُضاهى.
“لكن، إذا ساعدتِني في تجفيف شعري كما فعلتِ أمس، قد أزيد عدد الحروف.”
“للتوّ قلتَ إنّ وقتك يكفي لحرفٍ واحد…”
“هل قلتُ ذلك؟ حسنًا، الكلام يتغيّر.”
لم يعتد الكذب، لكن كيليان تحدّث كالثعلب.
لم يبدُ سخيفًا، لكنّه كان مزعجًا قليلًا.
“آه، حسنًا. وهذا لك، كيليان. أشعر بالحرج من تلقّي دروس البرايل والهدايا دون مقابل.”
عندما وضعت ليتريشيا دبّوسًا زمرديًا على الكتاب، رفع كيليان حاجبه.
“أليس هذا لبيتريك جودوين؟ لمَ تعطينه لي؟”
“كنتُ سأستخدمه لفسخ الخطوبة، لكن لم يعد ذلك ضروريًا. ويبدو أنّه سيكون أكثر فائدةً لك.”
بفضل إعلان كيليان العلني عن زواجهما، تمّ فسخ خطوبتها مع بيتريك دون الحاجة إلى إظهار الدبّوس لدوق جودوين، فلم تعد ليتريشيا بحاجة إليه.
لكن، بالنسبة لكيليان، كان الأمر مختلفًا. العاصمة والشمال منقطعان، ويجب على الشمال الاعتماد على نفسه.
لذا، كان على كيليان خوض الحروب باستمرار للحصول على الموارد النادرة.
“الآن، من يدير تجارة التوابل في عائلة جودوين هو بيتر جودوين. وعلى عكس الدوق، يهتم بأعمالٍ أخرى غير التوابل.”
أخرجت ليتريشيا ورقةً صغيرة من كمّها.
كانت قد كتبتها ليلة أمس، مستعيدةً ذكرياتها قبل النوم.
“هنا قائمة بالمتاجر التي بدأ بيتر جودوين استحواذها مؤخرًا. بعضها في مناطق قريبة من الشمال.”
“تابعي.”
عندما بدا أنّ كيليان يستمع باهتمام، احمرّت خدّا ليتريشيا قليلًا.
كانت المرّة الأولى التي يستمع فيها أحدهم إليها بهذا التركيز.
“إذا استُخدم هذا الدبّوس جيّدًا، قد تتمكّن من فتح تجارة مع متاجره.”
—
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 26"