من بعد ذلك، أخذت الأحداث تسير كما سبق لـ برسـيبي أن رأتها مرارًا.
أحداث تعرفها جيدًا، حتى باتت محفورة في ذاكرتها.
فاللعبة لم تُفتح قط، مهما أعادت تثبيتها وحاولت مجددًا، وظلّت يون جو-يون تصارع عبثًا حتى غروب الشمس وطلوع الفجر، في نزالٍ بلا جدوى.
وفي النهاية، ارتمت على السرير بوجهٍ شديد الإرهاق.
“لعبة تافهة… كالجحيم.”
نعم. وقد كان من الطبيعي أن تُوصف كذلك، بعد كل ما ارتُكب فيها.
تمتمت جو-يون بضحكة متكسّرة امتزجت بالدموع:
“قذارة… وحقارة… لا أريدها بعد الآن…”
وبعد أن لفظت تلك الكلمات، ظلّت ساكنة للحظة، ثم رفعت يدها تغطي وجهها، وبدأت شهقات صغيرة تتسرب منها.
“مقرف… لم يكتفوا بأن يعبثوا بالقصة على هواهم… حتى اللعبة لا تعمل…”
في تلك اللحظة أدركت برسـيبي.
أدركت تمامًا ما الذي كانت جو-يون تعنيه، وما الذي كانت تتحدث عنه.
فهي واصلت البكاء في صمت.
ومهما حاولت أن تخفي ملامحها بكفيها، فإن دموعها انسكبت على وجنتيها، لتبلّل وسادتها.
ثم شدّت يدها إلى صدرها الأيسر، وكأن الألم يعتصر قلبها.
“كح… كح!”
تكورت جو-يون على نفسها كطفلة، وعاد السعال ينهشها بقسوة أشد من قبل.
ما الذي كانت تفكر به…
تساءلت برسـيبي، وملأ عينيها الشرود وهي تحدّق بوجهٍ يقطر عذابًا.
ومع ذلك، بدا أن فكرة واحدة فقط كانت تحكمها، رغم كل ما قاست.
يجب أن أتأكد.
هل حقًا أبقوا على شخصية فيدار كما وعدوا في النهاية؟
وإلى أي حدّ دمّروا القصة أكثر مما كانت؟
عندها استعادتها برسـيبي كاملة — كل الذكريات التي طمست من قبل.
الحياة التي قضتها جو-يون بلا عائلة، تقاوم وحيدة.
الألم الذي كان يفتك بقلبها يومًا بعد يوم دون انقطاع.
الأدوية الكثيرة التي اعتادت أن تبتلعها كما لو كانت عادةً يومية لا فرار منها.
ثم…
…وكيف كان شكل موتها في النهاية.
تطلعت برسـيبي إلى جو-يون الممددة على السرير، وعيناها تفيض حزنًا.
وكان السعال قد توقّف أخيرًا.
“يجب أن… أتأكد…”
تمتمت جو-يون وهي تعتصر آخر ما تبقّى من قوتها.
“…لا بدّ أن أفعل.”
وفجأة…
[إشعار: التحضيرات لتشغيل اللعبة قد اكتملت.]
انعكس على عيني برسـيبي البنفسجيتين بريق شاشة الحاسوب المحمول.
حتى ذلك النافذة البغيضة المملة، نافذة الإشعار، عادت لتظهر من جديد.
[إشعار: سيبدأ تشغيل اللعبة الآن.]
وهكذا… كان ذلك هو ما نُسي من قبل.
كان ذلك هو آخر ما تبقّى من ذكريات يون جو-يون.
—
“برسـيبي!”
أعاد صوت فينريك الملهوف وعيها إلى الواقع.
“وجهك…!”
فقد بدت برسـيبي وكأنها ستفقد وعيها وتسقط في أي لحظة.
بشرتها التي اعتادت أن تكون ناصعة البياض غدت الآن شاحبة إلى حد الزرقة، وجبينها المستدير غطّته حبات من العرق البارد.
وكان جسدها يرتجف بلا توقف، كما لو صُدمت بصدمة لا تُحتمل.
هل كان السبب هو ذلك…؟
التفتت نظرات فينريك تلقائيًا نحو رؤوس ديتريش و زيغفريد المتدحرجة على الأرض.
“في النهاية… منذ البداية…”
تحركت شفتا برسـيبي اليابستان ببطء، وصوتها خرج مبحوحًا كأنّه ينهار.
“لم يكن هناك مكان أعود إليه أصلًا…”
“…ماذا؟”
“إذن… كان هذا هو الواقع فعلاً… بالنسبة لي…”
منذ اللحظة التي أصبحت فيها بريسيبي داخل اللعبة، ووطأت قدماها هذا العالم،
لم يعد هناك وجود لعالم يمكنها العودة إليه، أو يتعيّن عليها العودة إليه.
ففي الواقع، كانت قد ماتت بالفعل، فكيف لها أن تغادر اللعبة؟
بل حتى إن غادرت، فلن يعني ذلك سوى الموت الحقيقي.
إذ لم يبقَ مكان تستطيع فيه بريسيبي، أو يون جو-يون أن تتنفس وتعيش، سوى هذا العالم.
كل الجهود التي بذلتها، وكل المحاولات التي قامت بها لتحقيق حلم العودة إلى الواقع،
كانت في النهاية بلا جدوى.
لقد واصلت المحاولة وهي لا تعلم أنها ماتت، أو ربما تناست ذلك،
لكن كل ذلك الجهد لم يكن له أي معنى.
“…ها.”
أطلقت بريسيبي ضحكةً جوفاء، ثم ما لبثت أن بدأت تضحك كالمسحورة، كأن روحها غابت عنها.
أرادت أن تعرف كيف عبثت الشركة المصممة وغيرت الأمور،
لكنها لم تتوقع أن تضطر لاختبار كل ذلك بنفسها، لحظةً بلحظة.
تذكرت أيضًا كم عانت حين فكرت قائلة: “ربما من الأفضل ألا أغادر اللعبة، وأن أبقى هنا مع الدوق.”
“بريسيبي.”
لاحظ فِنريك أن هناك شيئًا غير طبيعي، فرغم الفوضى، كان ينظر إليها بوجهٍ مليء بالقلق.
رفعت بريسيبي عينيها إليه.
ولدهشتها، لم تشعر بأي يأسٍ أو إحباط من استحالة العودة إلى الواقع.
بل على العكس… شعرت بالراحة.
نعم، فمهما حدث، هذا المكان بات واقعها الجديد الذي عليها أن تعيش فيه.
وربما كان ذلك لأنها اتخذت بالفعل قرارها… أن تبقى إلى جانب فِنريك.
ثم إن الواقع لم يكن فيه فِنريك.
لم يكن هناك من ينظر إليها بتلك النظرات، أو يكلّمها، أو يقلق بشأنها.
في حياتها كـ يون جو-يون، كانت وحيدة تمامًا.
وحيدة إلى حد يبعث القشعريرة.
حتى آخر لحظة من حياتها.
وذاك الشعور الساحق بالوحدة… لم تكن تريد أن تجربه مجددًا.
“…”
أمسكت بريسيبي يد فِنريك بكل قوة.
ثم أغمضت عينيها بإحكام، وفتحتهما من جديد.
“جلالته، جلالته قد مات!”
“قائد الفرسان!”
كان “الغابة المحرّمة” في حالة فوضى عارمة.
فقد أثارت وفاة ديتريش وزيغفريد المفاجئة ارتباكًا بين الجنود،
بينما واصلت الوحوش هجومها بلا هوادة.
لكن عيني بريسيبي لم تلتفتا إلا إلى مكان واحد.
إلى…
“…”
فِيدار، الذي كان يقف أمامها، يحدّق بها من علٍ.
وفي يده، كان يحمل كتاب الذاكرة.
كتاب يشعّ بوميضٍ مشؤوم مخيف، لم ترَ مثله من قبل.
كان يبدو وكأنه على وشك أن يتفتت إلى غبار إن لمسته يد،
كأن النار التهمته من الداخل، إذ ظهرت به ثقوب تتسرب منها الأشعة.
هل يعني هذا أن آخر خط دفاع للنظام… قد انهار؟
ولم يمضِ وقت طويل حتى أدركت بريسيبي الحقيقة.
موت “آتاري هانان” و”نواه دفِرن” و”إيفان”.
والآن… حتى “ديتريش” و”زيغفريد” أيضاً ماتوا…!
“…”
ولم يكن ذلك ليخفى على فِيدار.
كان يحدّق بكتاب الذاكرة بعينيه الزرقاوين الخاليتين من الحياة.
في النهاية، كان مفتاح تحطيم النظام هو موت جميع الشخصيات التي مُنحت “قيم الإعداد”.
باستثناء بريسيبي و… نفسه.
إذن ماذا بعد؟
ما الذي سيفعله الآن؟
للأسف، ما زال في جعبة فِيدار قدر من القوة.
طالما أن الكتاب لم يتلاشَ بالكامل.
طالما أن قوته لم تختفِ تمامًا…
[لذلك كنتُ… فقط أنتظر.]
لامس أذنيها صوتُ ذكريات ذلك الحوار القديم الذي جمعهما،
حين قال لها:
[انتظرتُ حتى تظهرين… انتظرت لآلاف السنين وحيدًا. لكن… هل كان ذلك لمجرد أنني صرت هكذا وفق “الإعدادات”؟]
…فماذا لو اختفى كتاب الذاكرة؟
وفقدت جميع قيم الإعداد معناها؟
وما إن تحررت من قيود هذا العالم…
هل سأظل أحبك؟
أم كما قلتِ أنتِ مرارًا… سأتوقف عن الاهتمام بك لأن الإعدادات زالت؟
هل سأصير حرًا؟
متحررًا من كل شيء؟
أم سأتركك أنتِ أيضًا… وأبقى أتخبط في عذابٍ أعظم؟
غطّى السواد عيني فِيدار الزرقاوين.
وكان ذلك بالضبط حين…
“احترسي!”
صرخ فِنريك بصوتٍ هادر، ثم اندفع ليحتضن بريسيبي التي كانت جالسة على الأرض.
وبلهفة، أخذ يتلفّت من حوله.
“آآآآه!”
بينما كانت بين ذراعيه، سمعت بريسيبي صرخات البشر وعويل الوحوش،
فرفعت رأسها غريزيًا.
فرأت السماء تنهار.
كأنها لعبة طينٍ مكسورة.
ولم يكن السقوط مقتصرًا على السماء وحدها.
فبينما كان كتاب الذاكرة يتوهّج أكثر فأكثر ويتناثر مع الرياح،
بدأت الأرض من تحتهم أيضًا بالانهيار.
كان الجنود والوحوش يصرخون بألم، يقاومون بائسين،
لكن لم يطل الوقت حتى تلاشى ضجيجهم…
واختفى كل شيء كما لو لم يكن.
دويّ عظيم، مرة بعد مرة، ثم… العدم.
وحلّ الظلام الدامس في كل مكان.
لم يتبقَّ سوى ثلاثة.
فِيدار.
فِنريك.
وبريسيبي.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات