استعادت بريسيبي وعيها وهي تحدّق بوجه شاحب نحو البعيد.
أشجار متفحّمة، محترقة حتى النصف. رائحة احتراق ما زالت باقية، وأرض بدت مألوفة لها على نحو غريب.
«الغابة المحرّمة…؟»
بينما كانت تدور بعينيها في حيرة، أدركت فجأة أنها كانت ممددة في شيء يشبه العش. ارتبكت، فنهضت متعثّرة، ثم نظرت إلى فستانها الممزق المتسخ.
… كيف وصلت إلى هنا؟
[لنعود فقط إلى مكاننا الأصلي. أنتِ… وأنا.]
مرّت في ذهنها نغمة صوت فیدار العميقة، كأنها ما تزال ترنّ في أذنيها.
ذلك البرج المقيت انهار، وزيغفريد الممزق الجسد يصرخ باسمها، ودم فارس مجهول يتناثر على وجهها…
آخر ما رأته كان جحيماً بعينه.
لكنها لم تتخيل أبداً أنها، حين تفتح عينيها من جديد، ستجد نفسها في الغابة المحرّمة.
«لا بد أنه عمل فيدار…»
هل يمكن أن يكون قريباً منها الآن؟ رفعت بريسيبي رأسها متوترة، تفتش بعينيها المكان، ثم تجمدت مدهوشة.
“……آه؟”
انحنت، ومدّت يدها لتلمس عشباً أخضر كان يشق طريقه من بين الأرض السوداء المحترقة.
رفعت رأسها أكثر، فإذا بالمنظر من حولها يختلف عمّا رأته بعيداً.
لم يكن كما رأته آخر مرة قبل مغادرة الغابة.
لقد بدأ الغابة تستعيد حياتها.
«هل هذا… ممكن؟»
كان من الصعب تصديق ما ترى. صحيح أن وقتاً ليس بالقصير مرّ منذ احتراق الغابة، لكن لم يكن طويلاً بما يكفي لتنهض من رمادها بهذه السرعة.
ومع ذلك، ها هي الغابة تُبعث من جديد. وكأنها تسخر منها.
هل هذا بسبب النظام؟
أم لأن الغابة لم يكن مقدّراً لها أن تحترق هكذا؟
… أم أنه عمل فيدار أيضاً؟ لكن، هل يمتلك مثل هذه القوة؟
بينما كانت غارقة في أفكارها، ويدها تلامس الأرض، قفزت فجأة مذعورة.
“آه، لقد أفزعتني!”
الذي أفزعها لم يكن سوى طائر صغير.
بدا وكأنه لم يفقس منذ وقت طويل، ريشه لم يكتمل بعد، لكن له منقار ضخم قوي ومخالب حادة لا تناسب حجمه. وفوق ذلك، كان هناك قرنان صغيران يبرزان بجانب أذنيه.
أدركت بريسيبي على الفور أنه ليس طائراً عادياً.
“أنت وحش إذن.”
مهما همست، بدا الطائر الصغير معجباً بها كثيراً. كان ينقر يدها برفق دون أن يؤلمها، ويدلك جسده بكفها كأنه يريد اللعب.
“عليك أن تعود إلى أمك.”
همست وهي تربت على رأسه، ثم أطلقت تنهيدة ثقيلة من دون أن تشعر.
«القصر الإمبراطوري…»
ينبغي أن تعود.
لكن الفكرة لم تكتمل، إذ لم تستطع أن تحدد ماذا تفعل، أو كيف تعود.
«الدوق فينريك…»
لم يخطر ببالها مصير زيغفريد أو ديتريش، ولا ما قد يحدث إن عادت إلى القصر.
كان كل ما يشغل ذهنها شخصاً واحداً فقط: فينريك.
… هل يمكن أن يكون هذا صحيحاً؟
هل حقاً قتلهم؟
هل فعل ذلك ليقيّدها كما حاول الآخرون من قبل؟
هل كانت كل كلماته الصادقة مجرد أكاذيب لخداعها؟
ارتسم على وجهها تعبير يائس محطم.
وفي تلك اللحظة—
“غريفون.”
التفتت بسرعة للوراء عند سماع الصوت، لترى فیدار يحدّق بها من أعلى.
“إنه غريفون.”
“آه… نعم.”
تمتمت برد خافت بعدما فهمت قصده.
إذن هذا الطائر الصغير لم يكن إلا فرخ غريفون.
… لكن، أهذا هو المهم الآن؟
لم يقل فيدار شيئاً آخر. فقط اقترب بخطوات ثابتة، ثم جلس بجوارها. تجمدت بريسيبي بخوف طفيف، لكنه لم يُظهر أنه لاحظ ذلك.
… أو ربما لم يكن يفهم هذه المشاعر الدقيقة أصلاً.
“إنه صغير الآن، لكنه سيكبر. كثيراً.”
“……”
“زمن البشر يختلف عن زمن الوحوش.”
لكنها تذكرت بوضوح كيف رأَت بأم عينها يومها الحبال النارية تتلوى كالحمم حين ماتت الوحوش جميعاً.
“التدمير… وإعادة الخلق. الأمران يسيران بسهولة.”
“ماذا…؟”
“أنا الذي صنعتها.”
“تتحدث عن الوحوش…؟”
أومأ فيدار برأسه.
“إن كنت أنت من خلقها، فلماذا تركت الغابة تحترق آنذاك؟”
“شعرت بالاشمئزاز.”
“والآن، لماذا أعدت إحياءها إذن؟”
“رأيت أن هذا أفضل.”
كانت إجاباته مباشرة، لكن لا تحمل معها فائدة تذكر.
“قلت لك. العودة إلى المكان الأصلي فقط.”
كلماته الغامضة لم تجد لها بريسيبي رداً، فاكتفت بالنظر إليه بتمعّن.
على الأقل، لم يكن يبدو أنه يريد إيذاءها…
“إنها ذاتها. لذا، كان لا بد أن أعيدها أيضاً.”
“……”
“هذا كل ما أريده الآن.”
الفرخ الصغير، وكأنه تعرّف على خالقه، راح يزحف إليه بلطف مثلما فعل مع بريسيبي.
لكن فيدار لم يبادله بأي دفء، ولم يلمس ريشه الناعم، بل مدّ يده الضخمة ذات العروق المنتفخة، وأمسكه بكف واحدة.
كأنه سيسحقه في الحال.
“ماذا… ماذا تفعل؟! انتظر!”
انطلق من الطائر صرير مؤلم، فيما ضغطت يد فيدار عليه.
عروق دموية برزت في عينيه، ومنقاره القوي بدأ يتفتح بلا حول ولا قوة. كان واضحاً أنه لو شدّ أكثر، سيموت فوراً.
“كان يثير إزعاجي.”
“ماذا؟!”
“…….”
“أليس كذلك؟”
“لا يزعجني! أنا بخير، فاتركه وشأنه. لا، أرجوك أعده إليّ.”
بمجرد أن انتهت من الكلام، خفّف فيدار قبضته.
أخذ العصفور يسعل بصوت مبحوح عدة مرات، ثم ركض مذعورًا نحو بريسيبي.
وبشكل غريزي، ضمّت بريسيبي العصفور الصغير إلى صدرها.
(لا يمكن أن يكون بيننا حوار.)
لم يكن لديها أي نية للبقاء في الغابة المحرمة مع ذلك الرجل المتعنت، فيدار.
بالطبع، العودة إلى العاصمة لا تعني أن لديها حلًّا سحريًّا هناك.
لكن على الأقل، في هذا المكان لم يكن بمقدورها أن تفعل أي شيء.
لكن ماذا عليها أن تقول؟ هل سيستمع إليها أصلًا؟ هل يمكن إقناعه؟ هل يمكن تهدئته؟
شعرت بريسيبي أن الجواب قد ظهر للتو أمام عينيها بوضوح.
ولن تجد إجابة أوضح من ذلك.
(والآن ماذا أفعل؟)
خفضت بريسيبي رأسها قليلًا بملامح مرتبكة، فصدر من العصفور بين ذراعيها صوت بكاء خافت.
وفجأة، اجتاحها شعور بالغيظ بلا سبب واضح.
“إذا كنت ستقتل بهذه السهولة… فلماذا خلقتهم أصلًا؟”
“ماذا تقصدين؟”
“لقد قلت لي قبل قليل… إنك أنت من صنع الوحوش.”
آه، ذلك.
قال فيدار وهو يحدّق ببريسيبي بوجه خالٍ من التعابير:
“لأني كنت وحيدًا.”
“… ماذا؟”
“كنت وحيدًا جدًا لوحدي.”
أجاب فيدار بشيء لم يخطر على بالها مطلقًا، حتى إن بريسيبي نسيت أن ترد وبقيت تحدّق به.
“هذا كل شيء.”
“…….”
“لكن الآن لم أعد بحاجة إلى الزيف.”
ذلك الحزن والوحشة والآلام التي طاردته كـ لعنة عبر آلاف السنين، كان مفتاحها ماثلًا أمام عينيه.
لم يعد بحاجة إلى مخلوقات كاذبة. كان فقط يستعملها. تمامًا كما فعل عندما أخذ بريسيبي من برج القصر الإمبراطوري.
كان السبب نفسه.
حتى عندما أحرق الغابة المحرمة بأكملها، وحتى وهو يسمع صرخات الوحوش المعذبة، لم يشعر فيدار بأي ذنب.
(في الحقيقة، لم أكن بحاجة إلى أي شيء منذ البداية.
يكفيني فقط أن تبقي بجانبي.)
فكّر فيدار وهو ينظر إلى بريسيبي.
“يبدو أنك بحاجة إلى أن تغتسلي. لقد صرختِ قبل قليل أيضًا.”
قال فيدار ببطء، وهو يفتح شفتيه أخيرًا نحو بريسيبي التي كانت تحدّق به بذهول.
“لكن إن لم يهمك، يمكنك أن تبقي هكذا.”
حينها فقط رفعت بريسيبي يدها بارتباك تتحسس وجهها.
فعلقت بيدها مادة جافة متفتتة. كان دمًا.
(إذن لهذا كان يحاول أن يلعق وجهي منذ قليل…)
نظرت بريسيبي نحو العصفور الصغير الذي كان يرفرف بين ذراعيها محاولًا الوصول إلى وجهها.
“من ذلك الاتجاه.”
قال فيدار وهو يشير بإصبعه الطويل الأبيض نحو الجهة الأخرى.
“ستجدين مكانًا مناسبًا لتغتسلي.”
أومأت بريسيبي سريعًا، ثم وقفت وبدأت تمشي في الاتجاه الذي أشار إليه.
(لو هربت الآن… هل سيمسك بي؟)
هكذا فكرت في نفسها.
“…….”
وقف فيدار بدوره، بعد أن تُرك وحيدًا. ظلّ واقفًا يراقب ظهر بريسيبي وهي تبتعد أكثر فأكثر، ثم التفت جانبًا.
وهناك، في المكان نفسه الذي كانت بريسيبي ممددة فيه فاقدة الوعي منذ لحظات، كان شيء يلمع بخفوت وهو مغروس في الأرض.
كان كتاب الذكريات الذي جلبه معه عند مغادرته للبرج.
ثبت فيدار بصره على الكتاب قليلًا، ثم بدأ بخطواته ليلحق ببريسيبي.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 123"