4
2. السبب الذي يجعل الريح تهب
ذاكرة السابعة عشرة، بكل ما تحمل من فظاعة، لا تعود إليّ إلا متوشّحةً بوشاح المطر. كان مطرًا صيفيًّا غامرًا، لكن جسدي ارتجف يومها كما لو كنت في حضرة شتاءٍ من جليد. صفّارات الشرطة، ولغط الناس، انسكب في أذني كحزمة من الإبر المشتعلة، تنهش أعصابي وتُدمي سكوني. وفي تلك اللحظة التي سُلبتُ فيها حتى القدرة على الصراخ، لم يكن ثمة ما يحميني سوى ذراعي ذلك الفتى؛ عانقني كمن ينازع القدر، وأطبق بكفّيه على أذنيّ كأنما يريد أن يعزلني عن وحشية الأصوات التي مزّقت عالمي.
لكن… تلك اليد، مهما كان دفؤها، لم تستطع أن تحجب عني العاصفة.
وربما لهذا وحده، لم أشأ قطّ أن يلمح “دونغ هوا” ـ ذلك الصبي الذي غدا اليوم رجلاً غريب الملامح ـ هشاشتي العارية. عشر سنواتٍ انقضت، ومع ذلك ظللت أرفض أن يعرف الحقيقة؛ أنني منذ ذلك اليوم، لم أعد أسمع شيئًا… ولا حتى صدى نفسي.
[هل حقًّا لم تعُدين تسمعين؟]
سقط القناع. انكشف السر. ولم يكن في الأمر غضب ولا لوعة، فكل من واجهني كان لا بدّ أن يدركه سريعًا. إذ كيف يخفى على أحد أن كلماته تتساقط في الفراغ، تتناثر بلا معنى، فلا تبلغ سمعي أبدًا؟
في مقهى صغيرٍ قرب قاعة التوقيع، غمرتني رائحة القهوة الثقيلة حتى سكنت روحي. هناك، ناولني ورقة صغيرة خطّ عليها سؤاله المرتجف. لم يتلفّظ، بل كتب. حروف مهتزّة، لكنها تنبئ بيقين راسخ: كان يعرف.
لم أستطع أن أجيبه. الكلمات انطفأت في حلقي، كما انطفأت يوم انكسرت أصوات العالم داخلي. خُيّل إليّ أنني فقدت اللغة ذاتها.
هدير المطر ظلّ يعصف بأذنيّ في وهمٍ لا يهدأ. دسست وجهي بين كفّي، أستعيد في ارتباكٍ صورة يده القديمة، يوم كان يحجب عني الأصوات. غير أن هذه المرّة لم يكن ثمّة سوى يديّ المرتجفتين، الواهيتين.
أزاح “دونغ هوا” يدي عن أذني. قبضته كانت أكبر، أخشن، غريبة. عشر سنوات… كافية لتبدّل حتى الأيدي.
[دونغ-أون.]
خطّ بأصابعه على راحة يدي اسمي، حرفًا حرفًا. لم يكتب سوى ثلاثة أحرف، لكنها اتسعت داخلي كدهرٍ ممتدّ، كأبدٍ لا ينتهي.
[دونغ-أون.]
وبين تلك الحروف، هبّت ذكريات قديمة، تلمع لحظة ثم تمّحي كما تمحو السيولُ آثار المطر. وحده الشريط الأصفر للشرطة ظلّ شاخصًا في ذاكرتي، كجدار لا يُزاح.
نزعت يدي من قبضته بعزمٍ مرتجف. شددت على كفي الفارغ، أريد سحق تلك الحروف، لكنها غرزت في جلدي كإبرٍ من نار. فبكيت.
سقطت دموعي على يدي، وأيقظت في ذاكرتي المنديل الأبيض الذي ناولني إيّاه ذات يوم بعيد.
‘لا بدّ أن أعيد له المنديل…‘
نهضت ببطء إلى الخزانة. في الدرج الأعلى، كان المنديل مطويًّا، مغسولًا، مكوّى بعناية. أمسكت به بكلتا يديّ، ووجهي يتوهّج بالخجل.
عشر سنوات، ثم أعود إليه بهذا المشهد؟
بكيت حتى الانتفاخ، حتى تحول بكائي إلى نشيجٍ طفولي. في تلك الأيام التي كنت أسمع فيها، لم أجرؤ حتى على نفخ أنفي أمام الآخرين، خشية أن يدوّي الصوت في فضاء مسامعهم. أما اليوم… فلا أسمع شيئًا. لا خجل، لا حرج. العالَم مليء بالأصوات، لكنها جميعًا غابت عني.
تساءلت: كيف رآني “دونغ هوا” وأنا هكذا؟
[كيف حالكِ؟]
كتبها على ورقة أخرى. سؤال بسيط في ظاهره، لكنه كان أثقل من أن يُجاب. بالنسبة إليّ، كان سؤالًا يطعن في القلب.
كتبت بيدٍ مرتعشة:
[بخير.]
لم أستطع أن أكتبها جملة تامة: “أنا بخير”. لأنني لم أكن متأكدة. ربما كنت بخير… وربما كنت لأ. لم أملك الجرأة لأكذب، ولا الشجاعة لأعترف.
هل صدّقني؟ لا أعلم. لكنه ابتسم، وأخذ يحدثني عن يومه، عن صغائر الأشياء، عن حياةٍ عادية. كأننا لم نلتقِ بعد عقدٍ من الغياب، بل كأننا صديقان قديمان يتجاذبان أطراف الحديث.
[في الحقيقة… جئت نيابة عن زميل.]
كتبها وهو يبتسم.
[زميل لي في العمل، لديه طفل يعشق “كروكو”، فوعدته أن أجلب له توقيعكِ… لم أظن أنني سأصادفكِ هنا.]
ابتسامته بقيت عالقة في داخلي، حتى وأنا أنظر من النافذة إلى الغيم الزاحف ببطء.
قبل عشر سنوات، رحلت مع والديّ عن الحي كمن يفرّ من قدرٍ محتوم. قطعت كل خيوط الماضي، ومن بينها خيطه هو. كان جاري، صديقي، أول حبٍّ خبّأته في صدري. ذكرياته كانت أثمن ما أملك، ومع ذلك اضطررت إلى أن أتخلى عنها، لأن الواقع كان أفظع من احتمالي.
كل ركن في البيت كان مسكونًا بآثارنا، بكل لحظةٍ عشناها. كل زاوية كانت خنجرًا مغروسًا في صدري. كيف لي أن أعيش وأنا أرى الشريط الأصفر كل صباح؟
حتى المدرسة، لم أعد أطيقها. قدّمت استقالتي، وغادرت بلا التفات. لم أرِد أن أسمع أحدًا يحوّل مأساتي إلى حديثٍ عابر، أو فضولٍ رخيص. لم أرِد أن أسمع كيف تستحيل الشفقة إلى كلماتٍ مسمومة.
لأول مرة في حياتي، كرهت البشر. كرهتهم حتى حدود القتل. لكنني لم أقتل أحدًا… بل فتكت بنفسي.
بسكينٍ صغيرة، سكينٍ يبيعها بائع القرطاسية لكل تلميذ، جرحت جلدي مرارًا. كنت أنتظر الألم… لكنه لم يأتِ. فصرت أجرح أكثر، وأعمق. أردت فقط أن أشعر أنني ما زلت حية. كان ذلك سلاحي الوحيد ضد العدم.
حتى انكشف أمري أمام أبي… فتوقفت.
أتذكرُ كفَّ أبي وهو يصفع وجهي بلا رحمة. وأتذكّر أيضًا، بعد أن صفَعني، كيف طواني بين ذراعيه وانفجر باكيًا بكاءً لم أرَ له مثيلًا قط.
لم أره يومًا ينوح بذلك الانكسار. عندها فقط أدركتُ أنني لستُ وحدي في الألم. أبي أيضًا يتألّم… وأمي كذلك، لعلّهما كانا أشدّ وجعًا مني. فمددتُ ذراعي الملطّختين بالدماء، وعانقت أبي، وأطلقتُ العنان لدموعي. كل شيء كان باعثًا على الغضب، حتى نفسي.
لم أرد حتى أن أسمع بكائي.
…وفي تلك الليلة، أصابني الحُمّى. أيّام وأنا أرتجف تحت وهجها، حتى انخفضت أخيرًا واستعدتُ وعيي. لكن أذني، مذ ذاك، لم تعد تريد أن تسمع شيئًا من هذا العالم.
[أذُنكِ… لا تقولي إنكِ فقدتِها منذ ذلك الوقت…؟]
أتذكر عينَي “دونغ هوا” وهما تترقرقان بالأسى حين ناولني ورقةً دوّن عليها سؤاله المرتبك. كان حذرًا، متردّدًا، وكأن قلمه تعثّر في الطريق. ابتسمتُ كأن شيئًا لم يكن. أو هكذا ظننتُ أنا… أما هو، فقد خيّم الغمام على وجهه. ربما كان الألم أكبر من مجرد ابتسامتي الباهتة. ربما لأنّه تأكّد في تلك اللحظة من سرّ إعاقتي، فاشتدّ حزنه أكثر.
‘أنتَ ما زلتَ طيبًا…‘
تمتمتُ وأنا أفرد بمسحةٍ مرتجفة منديلًا مجعّدًا بين يدي. أن أبحث عن ملامح الفتى ذي السابعة عشرة في وجه رجلٍ في السابعة والعشرين، كان ضربًا من العبث. كان قد كبُر، وتغيّر، وتحوّل، ولم يعد ذاك الصبي الذي تركتُه خلفي.
يد “دونغ هوا” صارت أكبر، أكثر خشونة، أكثر غربة. حتى قامته بدا أنها علت أكثر مما كانت. هالني التغيّر لدرجة أن شفتي ارتجفتا بغير وعي:
‘لقد صرتَ أطول كثيرًا…‘
لكن الكلمات تحطّمت في فمي قبل أن تُسمع. لا صوت خرج. أحسستُ بغربة عن نفسي، كما لو كنتُ عالقة في غرفةٍ مغلقة منذ زمن. أطرقتُ رأسي، ألهثُ ببطء كي أخفي ملامحي الممزقة. عشر سنوات مضت على صمتي، ومع ذلك وجدت نفسي أتصرف كأن شيئًا لم يحدث، كأننا ما زلنا هناك… قبل الكارثة.
لحسن الحظ أنّه لم يكن معي أحد. لقد نسيتُ الكلام كما فقدتُ السمع. إخراج صوتٍ لا أسمعه كان دائمًا أمرًا مرعبًا. ما أظنه “آآآه” قد يسمعه الآخرون “أوووه”. ولهذا، حين سقط السمع، سقط معه الكلام.
[اشتقتُ إليكِ كثيرًا.]
أخرجتُ ورقته القديمة من درجٍ مخبوء. مررتُ أصابعي على حروفه المرتجفة، وكأنني ألمس قلبه. وفجأة سألت نفسي:
‘كيف كان صوته؟‘
لم تبقَ أصوات كثيرة في ذاكرتي. ما لا أستطيع سماعه، كان يتلاشى يومًا بعد يوم. فاخترتُ أن أحفظ بعضها بطريقةٍ أخرى. لم أرد أن أحتفظ بكل شيء، بل فقط بما لا أريد أن أفقده. بما لا يحتمل النسيان.
فتحتُ أدراج الذاكرة، وبحثت بين الصدى المندثر عن صوته. وجدته هناك، خافتًا، يشبه رسالةً قديمة طُويت بعناية، ووضِعت في الجيب حتى تآكلت أطرافها من طول الانتظار دون أن تُسلّم لصاحبها. تلك كانت نبرة صوته في ذاكرتي.
‘…ولكن، ثم ماذا؟‘
اغرورقت عيناي، لكنني ابتسمت كأن لا شيء. لم أكن ساذجة لأظن أنّ لقاءً بعد عشر سنوات سيُعيد الحب كما كان. ولم أعد صغيرة لأُضفي على الصدف معنىً أسطوريًّا.
فابتسمت. ولم أفعل غير ذلك.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 4 - السبب الذي يجعل الرياح تهب 2025-08-28
- 3 - ضوءٍ وسط العتمة 2025-08-28
- 2 - بوحٌ خلف الشفاه 2025-08-28
- 1 - كيف نتذكّر أصوات العالم؟ 2025-08-28
- 0 - 0- -يسمّونه الحبّ الأول 2025-08-28
التعليقات لهذا الفصل " 4"