Ch-007
غوي تينغ يويه ثبتت بصرها على تشن شي، دون أن تنبس بكلمة.
كانت عضلات ذقنها مشدودة كجوزة صغيرة لبضع ثوانٍ، ثم استرخت وقالت بهدوء:
“حسنًا، فلنعد إذًا.”
فما دام قد بلغ الأمر هذا الحد، وإن لم يبالِ هو بتشويه صورته، فلِمَ لا تُحطِّم هي جسر العودة وراءها أيضًا؟
رغم ذلك، ظل في داخلها شيء يأبى التصديق.
فالعيون تنعكس النوايا، والصوت يكشف ما في القلب؛ لو كان فعلًا رجلاً عابثًا فارغًا، فكيف يستطيع أن يضرب على الطبول بذلك الحماس المشتعل الذي يأسر القلوب؟
انقلب اضطرابها إلى عزيمة، وقررت أن تخوض آخر محاولة، وآخر اختبار.
كان تشن شي يظن أنها ستغادر غاضبة، لكن نظراتها عادت إلى هدوئها بعد لحظة قصيرة.
وكأنها جُرحت ثم بدّلت استراتيجيتها، فارتدت درعًا صلبًا لتواجه من جديد.
جرأة تُحسَب لها.
أمال تشن شي رأسه قليلاً، وكان على وشك أن يقول بضع كلمات ساخرة، غير أنّ غوي تينغ يوي سبقته قائلة:
“أتريد أن تأتي إلى بيتي إذًا؟”
تشن شي أُصيب بالدهشة:
“ألا تعيشين مع أحد؟”
قالت:
“توجد العمة لي فقط.”
ضحك بخفة باردة، وقال بسخرية:
“فما الذي سأفعله هناك إذًا؟”
أجابته بنظرة ثابتة:
“لتتناول العشاء. العمة لي تُجيد الطبخ.”
انعقد حاجباه، وقال ببرود:
“أأنتِ بريئة حقًا أم تتصنّعين البراءة؟”
فأجابته بعد لحظة صمت وهي تضم شفتيها:
“الزيف أحيانًا يُشبه الصدق.”
ضحك تشن شي أخيرًا.
ضحكة كسر بها تماسكه، لكنها كانت صافية وصادقة إلى حدٍ جعل ملامحه تبدو أصغر سنًّا، كأن الربيع عاد بعد شتاء طويل.
غير أنه لم يُجب بعد.
فقالت غوي تينغ يوي بنبرة فيها تحدٍّ لطيف:
“لماذا لا تتكلم؟ خِفت؟”
عندها انطفأ ما في وجهه من ملامح الضحك، وأسدل أهدابه الطويلة التي ألقت ظلًا خفيفًا على خديه، وقال:
“فلنذهب إذًا.”
•°•○•°•●•°•○•°•
تكوّنت على وجه العمة لي ملامح الذهول وهي ترى غوي تينغ يوي تدخل المنزل ومعها رجل غريب.
أحضرت له حذاءً منزلي جديد وهي تهمس بفضول:
“وهذا من يكون؟”
أجابت غوي باقتضاب:
“ذلك الذي يعزف على الطبول.”
تجمّدت العمّة لي في مكانها، وقد غمرها التعجب. هذه الفتاة التي نادرًا ما تتكلم أو تُبدي اهتمامًا بأحد، جاءت اليوم برجل إلى البيت!
رفع تشن شي حاجبيه قليلًا دون أن يُعلّق على هذا التعريف البارد.
كان المنزل على الطراز الغربي، مزخرف الجدران، تتدلّى من سقفه ثُريّا ذهبية كزهرة مُضيئة، والديكور مُفعم بالألوان الدافئة.
أسلوب لا يروق له إطلاقًا.
تجهم قليلًا وسار إلى الداخل.
سألت العمّة لي بلطف:
“ما اسمك يا بني؟”
اغتنمت غوي تينغ يوي الفرصة وقالت وهي تلتفت إليه:
“هيا، أخبريها أنت.”
قال بتأنٍ:
“تشن شي.”
اتسعت عيناها بدهشة:
“إذاً هذا فعلًا اسمك؟”
فردّ عليها ببرود:
“وهل تظنينه مستعارًا؟”
رأت العمّة لي أن النقاش بينهما يسير نحو الشجار، فسارعت لتغيير الموضوع:
“تشن شي، هل تناولت العشاء؟”
قالت غوي تينغ يوي:
“لقد جاء تحديدًا ليتناول العشاء.”
ردّ بابتسامة جانبية:
“ألم تكوني أنتِ من أصرّ أن أجيء؟”
قالت ببرود:
“صحيح، تصرف كما تشاء.”
سكتت العمّة لي، معتبرةً الأمر شجارًا ودودًا بين شابّين.
ذهبت غُوي تينغ يوي لتغسل وجهها وتُزيل مكياجها، فيما وقف تشن شي عند النافذة يراقب المكان بصمت.
كانت الغرفة مليئة بالنقوش والزخارف، لكن أكثر ما لفت نظره هو الشبك المعدني الكثيف خارج النافذة، كأنما أُضيف بعد البناء لإغلاق العالم.
لا أطفال هنا يخافون عليه من السقوط، فلا بد أن وراءه سببًا آخر.
اختلطت مشاعره، لكنه لم يُبح بها.
حين عادت غوي تينغ يوي، وجدته واقفًا أمام النافذة، فقالت بصوت مرتفع لتكسر الصمت:
“العشاء جاهز!”
التفت إليها، وملامحه الهادئة بدت أكثر وسامة في ضوء المصباح.
رفعت العمّة لي الغطاء عن الأطباق، فانتشر عبير الطعام في أرجاء المنزل.
وضعت أمامهما الأطباق والأرز، وقالت بابتسامة أمّ المحبة:
“تفضل، لا بد أنك جائع.”
جلس تشن شي، شكرها بهدوء، ثم نظر إلى صحن الأرز أمامه ولم يتكلم.
قالت العمّة لي:
“أنت نحيف جدًا، كلْ جيدًا يا بني.”
رفعت غوي تينغ يوي نظرها نحوه، فرأت كومة الأرز العالية كجبل صغير، وضحكت بخفة.
رفع هو عينيه ببرود، فنظرت بعيدًا وأمسكت عيدان الطعام وقالت:
“تفضل، لا تتحرج.”
أخذ لقمة كبيرة وأكل ببطء.
تناولت العمّة لي طعامها على عجل ثم تركتهما وحدهما قائلة:
“تحدثا بهدوء، أنا في غرفتي.”
بعد قليل، قالت غوي تينغ يوي:
“كيف هو الطعم؟”
قال:
“لا بأس.”
قالت:
“ألم يكن مجديًا القدوم إذًا؟”
رفع حاجبيه:
“ما المقصود؟”
قالت مبتسمة:
“أنك لم تخسر شيئًا بقدومك.”
قال:
“وهل يمكن مقارنة الأمرين؟”
قالت:
“بالطبع. فالمذاق الجيد أيضًا يُفرز الدوبامين، ويمنحنا شعورًا بالرضا.”
ثم أضافت فجأة:
“بالمناسبة، لماذا تكذب؟”
توقف عن الأكل:
“كذبت على من؟”
قالت:
“أنت لست كما تدّعي. منذ سكنتَ هنا، لم تُدخل أي فتاة إلى منزلك.”
ضحك ساخرًا:
“كنتُ أتعرّف على المكان فقط… وها قد وقعتِ أنتِ في الفخ.”
قالت وهي تحدّق فيه:
“وانتهى بك الأمر إلى بركتي أنا إذًا؟”
لم يجد ما يقوله.
قالت بابتسامة خفيفة:
“إن كنت فعلًا كما تزعم، فذلك يعني أنك قديس متنكر… وسيم ومحب للخير!”
أطلق زفرة ضجر ولم يُجب.
ثم سألت بعد تردد:
“هل العزف على الطبول هواية؟ أم عملك الحقيقي؟”
قال ببرود:
“لا أريد الإجابة.”
قالت:
“سؤال بسيط لا أكثر.”
قال:
“أنا لست فضوليًا تجاهكِ إلى هذا الحد.”
قالت:
“تستطيع أن تسأل، سأجيبك بصدق.”
نظر إليها قائلًا:
“كل ما أرجوه أن تصمتي قليلًا.”
قالت مبتسمة:
“صعب، لم أشعر برغبة في الحديث كهذه منذ زمن طويل.”
قال:
“عجيب، لِمَ لستِ بكماء إذًا؟”
ابتسمت بخفة، وواصلت النظر إلى يديه الرشيقتين التي تمسكان بالعيدان، وقالت:
“رأيتك يومًا تستخدم العيدان الطعام كعصيٍّ صغيرة تضرب بها الطاولة، وتدورها بين أصابعك، كان ذلك…”
فقاطعها بصوت حاد، طرق به العيدان على الطاولة، كأنما يقطع حديثها بالمقص.
قالت همسًا:
“كان ذلك رائعًا، بل…”
قال ببرود:
“في ذلك اليوم اكتشفتُ المتلصصة التي تراقبني.”
صمتت تمامًا، وأكملت طعامها في هدوء.
•°•○•°•●•°•○•°•
بعد العشاء، غادر تشن شي بمفرده، رافضًا أن ترافقه إلى الباب أو أن تراسله لتطمئن على وصوله.
ما إن أُغلق الباب حتى أسرعت إلى النافذة، تطلّ إلى الخارج.
رأته يسير تحت ظلال الأشجار بخطوات هادئة، كأن كل خطوة تُصدر نغمة خفيفة.
وبعد دقائق، أضاءت أنوار الشقة المقابلة، ورأت خياله يعبر الغرفة ويختفي.
ظلت في مكانها، تتأمل الظلام الذي يفصل بينهما.
ثم كتبت له رسالة:
“لماذا لم تخبرني حين وصلت؟”
أجاب:
“ألم تقولي إنكِ لن تتجسسي بعد الآن؟”
قالت:
“لم أستعمل منظارًا، رأيتك بعيني فقط، أهذا ممنوع أيضًا؟”
أجاب:
“وهل هناك فرق؟”
أدركت أن الجدال لن ينفع، فغيّرت الموضوع:
“هل شبعت اليوم؟”
لم يردّ.
وقف أمام نافذته للحظة، وحين لمحها ما تزال تحدق إليه، توقف بدوره.
لم يتمكّنا من رؤية تعابير بعضهما بوضوح، لكن النظرات التقت عبر العتمة.
ثلاث ثوانٍ فقط، ثم أُسدل الستارة بقوة وسرعة.
ابتسمت غوي تينغ يوي بخفة، وكتبت:
“ستتدرّب على الطبول غدًا بعد الظهر، أليس كذلك؟”
لم يجب.
كتبت مجددًا:
“سأكون في الموعد لأستمع.”
ردّ أخيرًا:
“لا شيء يُستحق السماع.”
قالت:
“إذًا رشِح لي بعض العازفين الجيدين، ممن يشبهونك.”
قال:
“لا أحد.”
كتبت مبتسمة:
“إذًا لا خيار أمامي.”
ثم أضافت:
“سأكتفي بك.”
كان حينها قد ألقى بهاتفه على السرير وذهب ليستحم.
وبعد أن خرج، شعر بشيء يدفعه لتفقّد هاتفه. لم يجد رسائل جديدة منها.
جلس في غرفة التدريب، يعزف على وسادة الطبول ساعتين كاملتين، ثم توقّف، وأمسك بهاتفه مجددًا.
فكر للحظة، ثم كتب لها قائمة بأسماء بعض العازفين، من الصين وخارجها، وأرسلها.
وصل الرد خلال ثوانٍ:
“هل هم مثلك؟”
كتب دون تردد:
“أفضل مني.”
وقبل أن يضع
الهاتف جانبًا، وصل إشعار جديد، قرأه بتردد.
كانت قد أعادت اقتباس رسالته السابقة التي قال فيها “لا أحد”، وأضافت تحتها:
“لكن لا أحد منهم أنت.”
ظل يحدّق في الشاشة للحظة طويلة، ثم رفع يده يلمس عنقه في لا وعي منه.
‘ من قال إن هذه الفتاة لا تُجيد التعامل مع الرجال؟’
نهاية الفصل، ترجمة يوكي 💫
التعليقات لهذا الفصل " 7"