ربت تشين شي على ظهرها بيد، وبالأخرى أخرج هاتفه من جيبه، ثم قال وهو يتفحّصه:
“عانقيني ثلاث دقائق… بعدها ننزل. أنا جائع.”
انقضت الدقائق الثلاث، لكن غوي تينغ يوي تشبثت به بإصرار، تلتصق به كغراء لا ينفكّ.
فرفعها تشين شي بسهولة وحملها إلى المصعد.
عندها فقط استسلمت، تتوسل الرحمة. وما إن لامست قدماها الأرض حتى احمرّ وجهها وأخذت تهذّب شعرها وثيابها، ثم سألت بجديّة:
“ما خططك لهذا المساء؟”
أجاب تشين شي:
“سألتقي بصديق.”
تلألأت عينا غوي تينغ يوي:
“هل تحتاج لأحد أفراد عائلتك ليُرافقك؟”
فكّر تشين شي لحظة وقال:”هذا خياري… لكن الأمر مزعج. سيلقي محاضرة صغيرة عندما يراكِ.”
نظرت إليه قائلة:
“إن كان الأمر مزعجًا… فلن أذهب.”
تردد تشين شي قليلًا ثم قال:
“يمكنكِ أن ترتاحي في غرفتكِ بعد الظهر، كما يفعل شياو فنغ. سأعود حالما أنتهي.”
قالت غوي تينغ يوي متحسرة، ورموشها متدلية:
“حسنًا…”
مدّ تشين شي يده وقرص خديها برفق بين إبهامه وسبابته:
“ما بالكِ؟ أأنتِ حزينة؟”
حاولت أن تبعد يده، لكن ملامح وجهها ازدادت عبوسًا طفوليًّا. تمتمت متظاهرة بالغضب، وصوتها مكتوم:
“ليس حقًا… فقط اتركني…”
لكن تشين شي لم يتركها، بل انحنى وطبع قبلة خاطفة رقيقة على شفتيها ثم ابتعد.
تجمّدت غوي تينغ يوي لحظة، ثم انفجرت ضاحكة، ورفعت يديها إلى وجهها تفرك خديها المتورّدين كزهرتين صغيرتين.
تناولا الغداء في مطعم فطورٍ وغداء مشهور قريب. وقبل عودتهما إلى الفندق، حزم تشين شي سلطة ومعكرونة ليأخذهما إلى شياو فنغ.
•°•○•°•●•°•○•°•
وما دام شياو فنغ غارقًا في النوم، بقي تشين شي في غرفة صديقته لبعض الوقت.
جرّا الأريكة نحو النوافذ الفرنسية، وجلسا يستقبلان ضوء الشمس، كأن دفء النهار يغمسهما في عصير خوخٍ مُعتّق. احتميا ببعضهما، وقد انقادا للحب انقيادًا تامًّا.
حدّق تشين شي في الشمس من خلف الجدار الزجاجي، مستسلمًا لنعومة الأريكة. وغوي تينغ يوي تحتضنه مرتكزة بذقنها على كتفه الأيسر؛ وما إن مال إلى الخلف حتى مالت معه هي الأخرى.
حاولت غوي تينغ يوي أن تعتدل في جلستها، لكنه أعادها إلى موضعها بخفّةٍ مُصرّة.
مدّ تشين شي يده ليُسدِل الستائر إلى نصفها، فانطفأ الضوء في الغرفة دفعةً واحدة.
تمتمت غوي تينغ يوي، وأنفاسها مقطّعة:
“هل يمكننا البقاء هكذا إلى الأبد… أليس كذلك…؟”
أجاب بصوت هادئ، أقرب إلى الهمس:
“مم…”
تسرب بعض من ضوء الشمس ليغطي الشخصين اللذين جلسا في حضن بعضهما. مندمجين معًا في عالم آخر خاص بهما.
•°•○•°•●•°•○•°•
بعد أن غفت غوي تينغ يوي، غسل تشين شي وجهه، وبدّل ملابسه، وأرسل موقعه إلى كانغ شيان.
جاء رد كانغ شيان:
“هل أتيت؟”
تشين شي:
“وصلت قرابة الظهر.”
ثم أرسل كانغ شيان عنوانًا بدا ـ من اسمه ـ مقهى صغيرًا:
“استدعِ سيارة وتعال.”
وقبل المغادرة، توجّه تشين شي نحو السرير ليُودّع غوي تينغ يوي. وحين تلقّى منها ردًا متلعثمًا مغطى بالنعاس، ابتسم، أخذ حقيبته، وغادر.
•°•○•°•●•°•○•°•
“هل موعد مقابلتك صباح الغد؟” سأل كانغ شيان فور أن رأى الرجل يدخل المقهى، دون أي مقدمات.
التقط تشين شي الكوب الأبيض الخزفي أمامه، وارتشف منه ببطء:
“لم أقل إنني هنا من أجل مقابلة.”
رمش كانغ شيان مرارًا، وقد بدا الارتباك واضحًا عليه:
“إذن لماذا جئت لرؤيتي؟”
وضع تشين شي الكوب بهدوء:
“أريد إعادة تشكيل فرقة بوب كورن والبحث عن أعضاء جدد. هذه المرّة… سأكون أنا القائد”
تجمد كانغ شيان في مكانه.
أكمل تشين شي:
“لقد بعتُ البيت العاصمة. لدي بعض المال الآن. هل ما زلت ترغب بأن تكون الوسيط؟”
صاح كانغ شيان، مذهولًا:
“اللعنة! هل تمزح؟! أنت متهوّر إلى حدّ الجنون! أودّ فقط أن أرمي هذا الكوب في وجهك!”
تحرّكت شفاه تشين شي قليلاً، ونظر إلى أسفل بينما أخرج أعواد الطبل من حقيبته ووضعها في منتصف الطاولة.
كان وجهه يحمل جديّة إيمانٍ راسخ:
“لقد فكّرت مليًّا. لست أمزح. أقسم على أعواد الطبل الخاصة بي.”
قبض كانغ شيان يده، ثم مدّ يسراه نحو الأعواد، وانتزعها بامتعاض:
“عصاتان لا قيمة لهما…”
لكن ما إن تأمّلهما قليلًا حتى تبدّل وجهه، واحمرت عيناه:
“ما زلت تستخدمهما…،
ابتسم تشين شي بسخرية هادئة:
” وإلا… ألم تقل إنني الوحيد العالق في مكاني بينما أنتم تمضون قُدمًا؟”
لاحظ كانغ شيان النقش الجديد على الأعواد، فأشار إليه متسائلًا:
“ما هذا؟”
أجاب تشين شي:
“اسم حبيبتي على ويشات.”
شهق كانغ شيان:
“اللعنة…” وأعاد الأعواد بسرعة كمن لمس حلزونًا.
أعادها تشين شي إلى جانبه، ثم قال:
“هل تفكر في الأمر؟”
صرخ كانغ شيان:
“أفكّر في ماذا؟! لن أفكّر بشيء! سأستقيل غدًا! لا حاجة لأي تفكير؛ فأنا وحدي أصلًا!”
عندها فقط، ارتسمت ابتسامة واسعة نادرة على وجه تشين شي:
“شكرًا لك… يا لاو كانغ.”
في الوقت ذاته،
كانت غوي تينغ يوي، التي استيقظت لتوها من قيلولتها، تحمل الغداء إلى غرفة شقيقها الأصغر.
جلس غوي لينغ فنغ، عاقدًا ساقًا فوق أخرى، يأكل السباغيتي الساخنة دون أن يرفع رأسه، بينما كانت غوي تينغ يوي تُعدِّل الصور على هاتفها. التقطت لوجبتها عشرات الصور ذات الزوايا المشرقة، تنوي نشرها جميعًا في “لحظات وي تشات”. للمرة الأولى منذ عامين تقريبًا، شاركت مقتطفات من رحلتها. كانت كل صورة نابضة بالحياة، مُرفقة بعنوان الموقع توثيقًا لها.
تفاجأ أصدقاؤها وزملاؤها الذين يعرفون حالتها بقدرٍ كافٍ، لكن أحدًا لم يثقل عليها بالأسئلة؛ اكتفوا بإعجابات وتعليقات دافئة، يشجعونها على الظهور أكثر.
ردّت عليهم جميعًا، تشكرهم واحدًا تلو الآخر… حتى انهمرت دموعها دون أن تشعر.
مسحت وجهها سريعًا، ثم عادت لفتح محادثة تشين شي، عازمة على سؤاله إن كان قد أنهى عمله.
وقبل أن تكتب شيئًا، وصلتها رسالة خاصة من معلمة الرقص خاصة بها:
“يوي يوي، هل ذهبتِ إلى شانغهاي؟”
صُدمت غوي تينغ يوي لحظة، ثم أجابت:
“نعم.”
قالت المعلمة:
“يا لها من مصادفة، لقد عدنا للتو من هناك.”
كتبت غوي تينغ يوي:
“هل كان هناك عرض؟”
فجاء الرد مختصرًا:
“نعم.”
ثم خيّم الصمت… قبل أن تأتي رسالة أخرى:
“هل أنتِ أفضل حالًا هذه الأيام؟”
تجمّدت تينغ يوي، وامتلأت عيناها بالدموع مجددًا:
“أنا أفضل بكثير الآن.”
سألت المعلمة:
“هل ترغبين في العودة إلى فرقتنا؟”
شهقت تينغ يوي بدهشة مرتجفة:
“هل ما زال بإمكاني العودة؟”
جاءت رسالة صوتية من المعلمة:
“بالطبع… لقد كنتُ أفكّر فيك طيلة الوقت. هل فكّرتِ يومًا في العودة إلى الفرقة لتصبحي مصممة الرقصات.”
اتسعت عينا غوي تينغ يوي:
“هل يمكنني ذلك؟ لا خبرة لدي.”
أرسلت المعلمة وثيقة، وكتبت:
“كنتِ الراقصة الرئيسية لسنوات، وناقشتِ الحركات مئات المرات، ودرّبتِ الكثير من الراقصين الصغار. من يملك خبرة أكثر منكِ؟ الفرقة تبحث عن مصممي رقصات حاليًا، وذكرتكِ للمعلم لي. قال إنه لا يزال يتذكركِ، بل مازحني: إذا عادت يوي يوي كمصممة رقص، فسأساندها بنفسي.
إن كنتِ مستعدة… فجربي. منذ عام ونصف لم نسمع منكِ خبر، ولم أجرؤ على إزعاجك. كنت أتواصل مع والدتك سرًا، وقد قالت إنك بدأتِ تواعدين شخصًا وتشعرين بتحسّن كبير. هل هذا صحيح؟”
سقطت دمعة على شاشة الهاتف. مسحتها بإصبعها وأعادت الكتابة بوضوح:
“أجل… شكرًا لكِ يا معلمة.”
رفع غوي لينغ فنغ نظره بعد أن أنهى طعامه، وحين رأى دموعها، قفز من مقعده وهو يلوّح بالمناديل بجنون:
“أختي! من أبكاكِ؟! أين صهري؟!”
لكن غوي تينغ يوي لم تجبه؛ ضمّت ساقيها إلى صدرها، وغطت وجهها، وبكت بصوتٍ مخنوق، محاولة أن تغسل من قلبها كل ما تراكم فيه من وجع.
•°•○•°•●•°•○•°•
عاد تشين شي إلى الفندق عند غروب الشمس، فصعد أولًا إلى غرفتها. طرق الباب فلم يجب أحدًا، فنزل إلى الطابق السفلي، حيث التقى لينغ فنغ.
وبمجرّد أن رأى صهره، نهض الفتى بسرعة:
“سأشتري ماء!”
ثم فرّ هاربًا، تاركًا العاشقين وحدهما.
نظره تشين شي نحوه وهو يهرب، ثم عاد إلى الفتاة الجالسة، وابتسم ابتسامة خفيفة:
“هل ترغبين في التنزه؟”
أومأت تينغ يوي برأسها ونهضت:
“حسنًا.”
استقلّا سيارة أجرة إلى ضفة نهر هوانغبو. ومع حلول الليل، تألّقت المدينة، وبدا العالم أشبه بصندوق مجوهرات مرصّع بالأضواء. أمسك تشين شي بيدها وسارا ببطء، صامتين طويلًا.
قال:
“غوي تينغ يوي.”
وقالت هي في اللحظة ذاتها:
“تشين شي.”
تبادلا النظرات، ثم ضحكت:
“تفضل أنت أولًا.”
عقد حاجبيه وقال بجدية لطيفة:
“قولي أنتِ.”
قالت غوي تينغ يوي:
“عندي شيء أريد إخبارك به… هل لديك ما تقوله أيضًا؟”
أجاب:
“مم.”
تشبثت بالدرابزين، واستنشقت هواء النهر، ثم قالت بشجاعة صامتة:
“قد تتاح لي فرصة للعودة إلى فرقة الرقص.”
رفع تشين شي حاجبه:
“حقًا؟ يبدو أنني سأعيد تأسيس فرقة أيضًا.”
التفتت إليه بدهشة، لتجده يحدّق بها، وعيناه صافيتان تشعّان بالثقة.
كان كلاهما ينظر إلى الآخر بابتسامة لا تحتاج إلى كلمات.
قال:
“ألن تخبريني المزيد، يا غوي تينغ يوي؟”
قالت، بابتسامة خجولة:
“يجب أن أبادلك الابتسامة أولًا—”
وقفا جنبًا إلى جنب، يتحدثان ويضحكان بهدوء.
كانت السماء تمتد بلا نهاية، والقمر يسكب ضوءه على النهر العظيم في سكونٍ شاعري لا يُنسى.
•°•○•°•●•°•○•°•
غوي تينغ يوي،
لقد وصلت لك رسالة صغيرة….
أنا سعيدةٌ للغاية لأن هذه المذكرات تُغلق صفحاتها هنا. أتذكرين حين فتحتِ الصفحة الأولى؟ كيف قررتِ ــ بكل ما في روحكِ من تعب ووهن ــ نهايتها؟
حينها، شعرتِ أن القدر لم يكن عادلًا، قاسيًا إلى حدٍّ جعلكِ تظنين أنكِ أسوأ مخلوق على وجه الأرض. كان عالمكِ غارقًا في عتمة لا تُطاق. وحين عدتِ ذات مساء من جلسة العلاج، رأيتِ هلالًا صغيرًا، شاحب الضوء، يتدلّى في الأفق البعيد… والتقطتِ له صورةً لأنكِ شعرتِ أنكِ تشبهينه: هشّة، خافتة، بالكاد تُرى.
بعد عودتكِ إلى البيت، وضعتِ أمامكِ خيارين، كلاهما يقطر يأسًا:
أ. أن تنتهي المذكرات يوم تستسلمين فيه تمامًا، وتودّعين هذا العالم المزدحم بالفوضى بنجاح.
ب. أن تنتهي يوم تتعافين، وتعود روحكِ دافئةً، حيّة، نابضة من جديد.
مرّت ستة أشهرٍ كنتِ فيها على شفير الوداع… ثم ظهر في حياتكِ شخصٌ رائع، صار وعاءً لأفكاركِ الطفولية، ومرفأً لروحكِ المتعبة.
الآن، أنتِ مع هذا الشخص الرائع. تحبان بعضكما بعمق، وتفهمان بعضكما بلا شرحٍ ولا التواء. تستطيعين الوثوق به تمامًا، بما يتجاوزًا ما يُعبر عنه بالكلمات.
وجدتِ لنفسكِ طريقًا جديدًا ومسارًا آخر. انتقلتِ من دائرة الضوء إلى خلف الكواليس، لكنّكِ ما زلتِ تدورين حول نجمكِ المحبوب. والكون… واسعٌ حدّ الدهشة، والحياة أكبر من أن تُحصر في لونين. وأنا سعيدة لأنكِ اكتشفتِ، شيئًا فشيئًا، أن كل الطرق تؤدي إلى روما، وأن الخيارات ليست سوداء وبيضاء فحسب.
أبارك لكِ شجاعتكِ، وانسيابكِ الهادئ نحو مرحلةٍ جديدة من حياتكِ… ها هو فصلٌ آخر يُفتح، ويناديكِ.
لكننا نعلم، كلانا، أن الحياة ليست سهلة، ولا بسيطة دائمًا.
ولهذا، من اليوم فصاعدًا، لا أطلب منكِ أن تكوني إيجابية دائمًا؛ اسمحي لنفسكِ بالانكسار حين ينهككِ الحمل. نامي بعمقٍ إن استطعتِ، وكُلي إن وجدتِ شهية، واسمحي لنفسكِ أيضًا بالأرق والجوع إن مرّت بكِ موجة حزن. كوني مجتهدةً إن استطعتِ، واسمحي لنفسكِ بالكسل إن خارت قواكِ. كوني هادئة حين يهدأ صدركِ، وهستيرية حين يفيض كأسكِ. كوني شجاعة، حاسمة، رقيقة، متفائلة… أو كوني ضعيفة، مترددة، مستبدّة، حزينة.
لأقول لكِ إنه من الآن فصاعدًا — سواءٌ جاءكِ الضحكًا أو دموعًا، السقوطًا أو النجاحًا، الظلامًا أو المجدًا، عاديةً أو تميزًا — كوني على يقينٍ بأنكِ، على خشبة الحياة، لا تزالين في مركز الضوء.
أنتِ سيّدة نفسك، ومحور حكايتكِ،
وأنتِ… تشعين بنورٍ لا يُشبه سواكِ.
[آلَنـــــــٌهِآيـــــــّة]
ملاحظة المؤلف:
ربما كان الصيف الماضي عندما سمعتُ الناس يتدربون على الطبول لعدة أيام متتالية، ففكرتُ في كتابة قصة يكون فيها البطل عازف طبول.
ثم تساءلتُ كيف أُهيئ البطلة.
وسرعان ما خطرت لي كلمة: “إلهام”.
وهكذا بدأت قصة فتى يعزف الطبول وفتاة ترقص الباليه، التقيا صدفة، وشفى كل منهما الآخر، وخرجا من أحلك ظلمات حياتهما، وأعادا اكتشاف النور.
التعليقات لهذا الفصل " 23"