2
Ch002
“أيُّ صوتٍ؟” بدت الحيرة على ملامح عمة لي.
ارتفع صدر غوي تينغ يوي بانفعالٍ خافت وهي تجيب:
“صوتُ الطبول، سُمعَ لبرهةٍ فقط.”
“آه، عرفته” أدركت عمة لي مقصدها أخيراً وقالت:
“لا أعلم من أيّ شقةٍ صدر. إن عاد الإزعاج فسأتصل بإدارة المبنى لأقدّم شكوى.”
هزّت غوي تينغ يوي رأسها على عجل:
“لا، لم يُزعجني إطلاقاً… لكنكِ سمعتِه أيضاً، أليس كذلك؟”
قبضت عَمَّة لي على عيدان البصل الأخضر في يدها، وعقدت حاجبيها:
“بلى، سمعته.”
تألّقت في عيني غوي تينغ يوي لمعةٌ غير مألوفة، وقالت بهدوءٍ يحمل رجاءً:
“رجاءً، لا تُقدّمي شكوى… أعجبني ذلك الصوت.”
نظرت لي عَمَّة إليها بدهشة، ثم اكتفت بالاستسلام قائلة:
“حسناً، كما تشائين… لكنّي حقاً أسمعه لأول مرة، ولا أدري من أين يأتي.”
عادت غوي تينغ يوي إلى غرفتها ووقفت عند النافذة. بعد لحظةٍ من التردّد، رفعت يدها، وجذبت الستارة إلى جانبٍ واحد.
انسكب الضوء كالسيل على أرجاء الغرفة، يملؤها دفئاً قاسياً بعد ظلمةٍ طويلة. أغمضت عينيها نصف إغماضة وهي تغتسل بضوء الشمس، ثم رفعت بصرها نحو المبنى المقابل.
كان البناء عادياً، بلونٍ مائلٍ إلى الصفرة الجصّية، وملامحٍ أوروبية باهتة؛ لا يُقال إنه جميل، ولا يُنتقد في الوقت ذاته. نوافذه المتناظرة تُشبه جداراً من الصور المتناسقة، يحبس خلف زجاجه وجوهاً وحيواتٍ متباينة.
استرجعت غوي تينغ يوي في ذهنها صوت الطبول، وظنّت أنه صادر من تلك البناية المقابلة. تفحّصت الطوابق من أعلاها إلى أسفلها، لكن دون جدوى. كانت المسافة بين البنايتين بعيدة لضمان الإضاءة، كما أنّ عينيها لم تعتادا بعد على وهج الضوء، فأحسّت بجفافٍ خفيفٍ يؤلمها.
فركت جفنيها مرتين، وأسدلت الستارة مجدداً، عائدةً إلى ظلّ غرفتها.
قرّرت الانتظار؛ لعلّ ذلك العازف سيعزف مرّةً أخرى.
في ذلك اليوم، تخلّت عن قيلولتها، واكتفت بالجلوس على السرير، تحدّق تارةً في هاتفها، وتارةً في النافذة، فيما كانت نشوة الترقّب تتّسع في صدرها كعاصفةٍ تدبّ في أرضٍ مهجورة.
ولم يَخِب حدسها—
ففي حدود الرابعة عصراً، دوّى من جديد ذلك الصوت.
لكن الإيقاع هذه المرة كان مختلفاً؛ لا هو بعنفوان الظهر، ولا بفوضاه الجامحة. بدأ متردّداً بين البطء والسرعة، تتمازج فيه حِدّةُ المعدن ورخاوةُ الجلد، قبل أن ينساب في نسقٍ متكرّرٍ متّزن، آخذٍ في التسارع رويداً رويداً، حتى غدا طوفاناً من الأصوات النابضة بالحياة.
كان الإيقاع صاعداً هابطاً في عذوبةٍ وتمرّد، مفعماً بغرورٍ يوشك أن يطعن الهواء نفسه، يخلخل سكون الأجواء ويمزّقها شظايا ناصعة كقطعٍ من الجليد الحادّ، تخترق السمع حتى الأعماق.
تسارَعَ نَفَسُ غوي تينغ يوي.
اكتشفت فجأةً أن قدميها انتصبتا على أطراف أصابعهما من تلقاء نفسيهما، وأنها بدأت تُواكب إيقاع الطبول بخفّة.
قبل هذا اليوم، كانت تعتبر هاتين القدمين مجرّد أطرافٍ عديمة الفائدة.
قامت على عجلٍ من السرير، وسحبت الستارة من جديد.
تجوّلت نظراتها كجهازِ رصدٍ يبحث عن أثرِ حياةٍ على سطح القمر، تمسح نوافذ المبنى المقابل واحدةً تلو الأخرى.
استمرّت ضربات الطبول طويلاً، لكن بُعد المسافة حدّ من قدرتها على تحديد مصدرها بدقّة.
فأدارت جسدها، وغادرت غرفة النوم إلى الصالة ذات النافذة الأوسع.
ما إن فتحت النافذة حتى غدت الأصوات أوضح، كأنها تعويذةٌ كبرى تملأ الهواء بحماسٍ مدهش، تُثير القلب وتُغري الخيال.
انحنت غوي تينغ يوي قليلاً، تحدّق في البُعد محاولةً التقاط موضع العازف المجهول.
مرّ في الأسفل صبيّان صغيران يضعان شريطَي العُقدة الحمراء على صدريهما، ورفعا رأسيهما بدورهما في دهشةٍ بحثًا عن مصدر الصوت.
اقتربت عَمّة لي وهي تمسح يديها بالمئزر وقالت مبتسمة:
“كنتُ سأُناديكِ لتسمعيه بنفسك!”
سألتها غوي تينغ يوي، دون أن تُزيح بصرها عن النافذة:
“هل تعرفين من أين يأتي الصوت بالضبط؟”
أرهفت عَمّة لي سمعها لبرهةٍ ثم قالت:
“يبدو من المبنى المقابل. لم أسمع شيئًا كهذا من قبل… لعلّهم جيرانٌ جدد؟”
قالت غوي تينغ يوي بهدوء: “ربما.”
لكنها لم تستطع أن تعرف مَن هو.
ولحُسن الحظ، صار بإمكانها بعد ذلك أن تسمع صوت الطبول كلّ يومٍ تقريبًا ما بين الرابعة والرابعة والنصف بعد الظهر.
ومع الوقت، أدركت أنّ ذلك الشخص يتعمّد اختيار الوقت الذي يقلّ فيه الإزعاج على الجيران.
صارت صفحاتُ مذكّراتها مختلفةً الآن؛ لم تَعُد مقصورةً على غيوم الكآبة واليأس، بل امتلأت بوصف الإيقاع—بشكله، ولونه، وتأثيره، وما أثاره فيها من خيالٍ وإحساسٍ بالحياة.
كتبت عن النبض الذي بعثه في صدرها، وعن صورتها الذهنية لصاحب تلك الأنغام الساحرة.
كلماتٌ مثل اهتمام، توق، نشوة بدأت تستعيد ملامحها القديمة في ذهنها بعد أن ظنّت أنها ذوت إلى الأبد.
كانت تجلس كلّ ظهيرةٍ خلف النافذة في الصالة نصف ساعةٍ تقريبًا، تُتابع بعينين مغمورتين بالترقّب، أصابعها تنقر بخفّةٍ على المقعد مواكبةً الإيقاع.
لاحظت عَمّة لي هذا التحوّل في مزاجها، فذات يومٍ بعد عودتها من السوق، تعمّدت الحديث مع عاملة النظافة في الحيّ، وتودّدت إليها حتى أفصحت عن سرّ الجار الجديد الذي يعزف الطبول، ومكان سكنه تحديدًا.
عادت عَمّة لي إلى المنزل مبتهجة، وأخبرت غوي تينغ يوي بما علمت:
إنه حقًّا يسكن في المبنى المقابل، في الشقّة المواجهة لها تمامًا، رقم 1203، في نفس الطابق.
ولم تُصدّق أنها لم تكتشف ذلك من قبل.
في اليوم التالي، حين دوّى الإيقاع المألوف من جديد، هرعت إلى النافذة، وجمعت بصرها كلّه على تلك الشقّة المقابلة لها.
ولم تُدهش حين لم تر شيئًا.
فهي تعلم أن الجهة المواجهة لناظرها هي المطبخ وغرفة النوم، ومن المستبعد أن يعزف هناك.
ومنذ ذلك اليوم، أخذ وقتها في المراقبة يزداد يومًا بعد يوم.
كانت تبقى حتى الخامسة، ثم الخامسة والنصف، وأحيانًا حتى السادسة.
وفي بعض الليالي، كانت تتناول عشاءها وهي تُطيل النظر إلى تلك النافذة المضيئة المقابلة، كأنّ الضوء فيها صار جزءًا من وجبتها.
شعرت غوي تينغ يوي أنها بدأت تفقد اتزانها، كما لو أنها هاويةٌ في عالمٍ من الهوس الجميل.
لكن ما راحة المريض إلا في الجنون الذي يعرفه؟
ولذا، لم تُبدِ عَمّة لي سوى ابتسامةٍ مطمئنة بدلًا من الريبة.
وخلال أيامٍ قليلة، وبمراقبةٍ دقيقةٍ لحياة ذلك الجار الغامض، تيقّنت أنه رجلٌ طويل القامة، نحيف البنية، يفضّل الملابس الداكنة، لا يقضي وقتًا في المطبخ، ونادرًا ما يفتح ستائره.
كان أشبه بحوتٍ أسود يسكن جزيرةً منعزلة، نادرًا ما يطفو إلى سطح البحر.
لم تستطع أن تميّز ملامحه بسبب المسافة، لكنها لم تكن بحاجةٍ إلى أكثر من ذلك.
قالت لنفسها إنّ ما تفعله كافٍ، وإنّ عليها أن تتوقّف قبل أن تتجاوز الحدود.
لكن الفضول، كداءٍ متسلّل، يزداد عُنفًا كلّما حاول صاحبه كبحه.
وبعد أسبوع، استسلمت غوي تينغ يوي لفضولها، واشترت عبر الإنترنت منظارًا صغيرًا أبيض اللون، قال البائع إنه مثاليّ للحفلات والعروض المسرحية.
فابتسمت في سرّها: إذن لن يكون سيئًا لمشاهدة حفلي الخاصّ.
أخبرت نفسها أنها لن تنظر سوى مرةٍ واحدة.
نظرةٌ واحدة فقط تكفي لطمأنتها، لتهدئة نفسها، ولتُنهي هذه الحكاية التي بدأت تتغذّى على سكونها.
في اليوم التالي، استلمت الطرد من عَمّة لي، وعادت إلى غرفتها. فتحت العلبة بعناية، وضبطت العدسات، ثم جلست في مكانها المعتاد، تُخفي بين كفّيها عدستها الثمينة.
عند الرابعة وثلاث دقائق بالضبط.
بدأت الطبول.
كان عزف اليوم مختلفًا؛
إيقاعاتٌ متعدّدة النبرات، سريعةٌ وهادرة، تتلوّن بين الصخب والسكينة، تفيض براعةً كأنها صادرةٌ عن أكثر من يدٍ واحدة.
تُذكّر بعاصفة بَرَدٍ في صيفٍ قائظ، وبمطرٍ خريفيٍّ يتساقط بإصرارٍ حتى يُثقب الحجر.
كانت غوي تينغ يوي متوترةً للغاية، ومع كلّ ضربةٍ جديدة، كان قلبها ينكمش أكثر حتى كاد يُسمع.
لكن فجأةً، توقف العزف قبل أن يكتمل نصف الساعة.
خيّم الصمت.
نهضت ببطء، وعقدت حاجبيها بقلقٍ لا تدري سببه.
وفي اللحظة نفسها، تحرّكت ظلالٌ خلف النافذة المقابلة—لقد ظهر الرجل أخيرًا.
كان يرتدي قميصًا أسود بسيطًا، يتقدّم نحو حوض المطبخ، ثم توقف.
كان يقف في مواجهةٍ تامّةٍ معها.
لم ترد أن تفوّت اللحظة.
تلفّتت بسرعةٍ إلى الخلف؛ عَمّة لي كانت منشغلةً في المطبخ تُدندن بلحنٍ شعبي.
فتنفّست بارتياح، وأخرجت المنظار من جيبها، وثبّته أمام عينيها.
وبعد أن ضبطت البؤرة،
ظهرت صورته واضحةً كأنها مشهدٌ من فيلمٍ قريب المسافة.
في تلك اللحظة، خفق قلبها بإيقاعٍ لا يقلّ اضطرامًا عن الطبول ذاتها.
كان الرجل منحنيًا قليلًا، يُغسل يديه بالماء، وعضلات ذراعيه مشدودة تحت ضوء المساء.
سقطت خصلات شعره السوداء على جبينه، تُخفي عينيه تارةً وتكشفهما تارةً أخرى، في حركةٍ تُثير الارتباك أكثر مما تُفسّره.
كان مختلفًا عمّا رسمته في خيالها.
ظنّت أنه سيكون أكثر صخبًا، أكثر تمردًا.
لكنه بدا أنيقًا على نحوٍ هادئ، نظيفًا وبسيطًا، في لا مبالاةٍ تُشبه السكينة.
شعرت أن مكانها أمام النافذة مكشوفٌ أكثر مما يجب،
فبحثت بسرعةٍ عن ستارٍ تُخفي به نفسها، وتقدّمت خطوةً إلى خلف الستارة قبل أن ترفع المنظار مجددًا.
وفي اللحظة التالية،
تقلّصت حدقتاها في ذهول.
أنزلت المنظار ببطء، متجمّدةً في مكانها.
كانت اللحظة محفورةً بوضوحٍ في ذاكرتها:
الرجل رفع رأسه فجأة، والتقت نظراته بعينيها تمامًا.
تلك النظرة الواحدة فقط كانت كافيةً لأن تُخلِّد المشهد في ذاكرتها إلى الأبد.
فوجئت غوي تينغ يوي بفكرةٍ غريبةٍ تخطر في ذهنها:
“مثل هذا الوجه… لا يمكن لامرأةٍ أن تكتفي منه بنظرةٍ واحدة.”
نهاية الفصل، ترجمة يوكي 💫
⊱ ────── {.⋅ ✯ ⋅.} ────── ⊰
Chapters
Comments
- 5 - Ch.005 منذ 8 ساعات
- 4 - Ch.004 منذ 8 ساعات
- 3 - Ch.003 منذ 8 ساعات
- 2 - Ch.002 منذ 8 ساعات
- 1 - Ch.001 منذ 8 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 2"