منذ ذلك اليوم، بدأت لقاءاتهما على الموائد رسميًّا. تارة تتكرّر بكثرة حتى تشمل ثلاث وجبات في اليوم، وتارة لا يجتمعان سوى على وجبة واحدة. لم يكن للمكان قاعدة ثابتة، وغالبًا ما كانا يتناولان الطعام في المطاعم، وأحيانًا يتسكّعان في شوارع المأكولات، ينسَيان الزمن وهما يتذوقان كل ما تصادفه أيديهم.
كأنّ بينهما فُتِح منفذ في صخور رمادية كثيفة، اندفع منه هواء نقي وضوء جديد، ملأ حياتيهما بالدفء والحركة.
وتوثّقت علاقتهما سريعًا، إذ كانت غوي تينغ يوي لا تنفكّ تتحدث بلا نهاية، وفي كل لقاء يفيض لسانها بما يملأ الوقت مرحًا ودفئًا. وفي إحدى المرات مازحت قائلة:
“يبدو أننا نواعد بعضنا فعلًا، أليس كذلك؟”
فأجابها تشن شي ببرود مألوف:
“أوهام جميلة.”
رفعت حاجبيها بدهشة طفولية:
“ألا ترى أننا نبدو كمن يواعد حقًّا؟ حتى مجرد قول ذلك لا يجوز؟”
قال بهدوء ساخر:
“لا، لأن في ذلك انتهاكًا لسمعتي.”
فأمسكت عود السيخ الفارغ الذي أنهت به وجبتها، ولوّحت به في وجهه كمن يبارزه، غاضبة ومحتجة.
مال تشن شي بجسده ليتفاداها:
“والآن بدأتِ بالتهديد الجسدي أيضًا؟”
قالت بصراحة عفوية:
“نعم! إن لم تسمح لي بالقول فسأكرّره مئات المرات!”
•°•○•°•●•°•○•°•
سمعت والدة غوي تينغ يوي من العمة لي أن ابنتها تلتقي برجل، فاتصلت بها ذات مساء تسألها:
“هل بدأتِ بمواعدة أحد؟”
كانت الفتاة قد أنهت استحمامها للتو، ووجنتاها تورّدتا من البخار، فازدادتا احمرارًا:
“أبدًا، من قال ذلك؟”
بدت نغمة صوتها في أذن الأم كزهرة ذابلة رفعت رأسها أخيرًا نحو الشمس.
قالت الأم بارتياح:
“وحتى لو فعلتِ، فلا بأس، لقد بلغتِ السنّ المناسب.”
ترددت غوي تينغ يوي:
“قلت لك لا، حقًا لا.”
سألت الأم بلطف:
“إذن أنتما فقط تتعارفان؟”
فكّرت قليلًا ثم قالت:
“ربما يمكن قول ذلك.”
ابتسمت الأم، فكل ما يهمّها أن ترى ابنتها سعيدة، ولم تُلحّ أكثر:
“حين تسنح الفرصة، أرسلي لي صورة له.”
قالت غوي تينغ يوي:
“ذلك إن سمح لي، فالتعامل معه صعب قليلًا.”
ضحكت الأم:
“لابد أنه وسيم إذن.”
فانتفخت ابنتها فخرًا وقالت:
“بالتأكيد.”
ومع ذلك، كانت في قرارة نفسها حائرة في تعريف ما يجمعهما.
فبعد أكثر من نصف شهر من اللقاءات اليومية، بدا أن علاقتهما تتقدم، لكنها كلما حاولت المضي خطوة أبعد، اصطدمت ببروده الحذر.
كل محاولة منها لكسر الجليد كان يردّ عليها بكلمة تُعيدها إلى الصمت.
•°•○•°•●•°•○•°•
في تلك الليلة، كانت كعادتها تتحدث معه صوتيًّا.
قالت بصوت خفيف مازح:
“مرحبا~.”
كان صوتها غريبًا حتى على نفسها، فيه حلاوة لم تكن تعرفها من قبل.
أجابها هو بنغمة باردة تحمل ابتسامة خفيفة:
“ما الأمر؟”
قالت:
“إلى أين سنذهب غدًا؟”
قال:
“لا فكرة لدي.”
تحوّل حديثهما في الأيام الأخيرة إلى ما يشبه يوميات طعام، يدور كله حول ماذا سيأكلان وأين، كأن ذلك هو اللغة الوحيدة التي تجمع بينهما دون أن تجرحهما.
قالت بأسف:
“لكن موقع الطقس يقول أن غدًا ستمطر.”
أجابها:
“إذن لن نخرج، فلنأخذ يوم راحة.”
قالت:
“والبعد غد أيضًا مطر، وبعده كذلك.”
قال:
“جميل، أسبوع راحة إذن.”
تنهدت بضيق:
“لا تكن سلبيًّا هكذا، أمثالنا يجب أن يخرجوا كثيرًا، كي لا تضيع جهودنا سدى.”
كلماتها كانت تحمل أكثر من معنى، ولم تدرِ إن كان فهمها أو تجاهلها.
أجاب بلا مبالاة:
“يمكنك الخروج وحدك.”
تنفّست بعمق، وقالت بنغمةٍ شبه ضاحكة:
“أنت متعب… سئمتَ… كرهتَ هذه الحياة، أليس كذلك؟”
قال ببرود:
“لم أقل ذلك.”
فكّرت قليلاً، ثم قالت بخفوت:
“حسنًا، لنضغط على زر التوقف. لنرتح ثلاثة أيام، بلا تواصل.”
ضحك بخفّة، مستبعدًا جديّتها:
“كما تشائين.”
أغلقت الهاتف، وهي تعضّ شفتها بعناد.
•°•○•°•●•°•○•°•
وفي اليوم التالي، نفّذت وعدها ولم تتصل به.
أما هو، فكان له موعد آخر.
فمنذ حذفه صديقه القديم كانغ شيان من قائمته، لم يكفّ الأخير عن محاولة إضافته من جديد عبر أصدقاء مشتركين، مصرًّا على اللقاء.
استسلم تشن شي أخيرًا، وقَبِل على مضض.
طار كانغ شيان من العاصمة خصيصًا لذلك اللقاء.
كانا صديقين قديمين؛ هو مدير أعمال فرقة بوب كورن السابقة، وزميله منذ الجامعة.
كانت الفرقة في بدايتها مشروعًا صغيرًا لأربعة طلاب أحبّوا الموسيقى.
بدأوا بعروض بسيطة في حانات قريبة، ثم انتشر مقطع مصوَّر لهم على دوين، فاشتهروا بسرعة مذهلة.
صار لهم جمهور متزايد، وصارت الحفلات تدعوهم من كل المدن، وامتلأت مسارح المهرجانات بمعجبيهم الملوحين بأيديهم، يصرخون ويغنون معهم.
جلسا على بارٍ خافت الضوء، قال كانغ شيان بعد أن أفرغ كأسه:
“كنت أعرف أن الاسم سيجلب النحس. بوب كورن… فرقعة واحدة ثم صمت إلى الأبد!”
ثم حرّك يديه في الهواء كطائر يهوى إلى الأرض:
“انفجار قصير العمر.”
قال تشن شي ببرود وهو يدوّر الكأس بين أصابعه:
“جئت لتقول هذا فقط؟”
أجاب متنهّدًا:
“لا، من أجل نفس الأمر السابق.”
قال تشن شي:
“لم تجد بديلًا بعد؟”
قال:
“لا أحد يناسب، أريتُهم مقطعيْن لك، وقرروا أنّك الوحيد المطلوب.”
خفض تشن شي نظره، وقال بلا اكتراث:
“أما زلت لا تنوي تركي أعيش بسلام؟”
ضرب كانغ شيان الطاولة غاضبًا:
“لا! لا أحتمل رؤيتك تضيع هكذا. باقي الفرقة يعيشون أفضل منك. شي جو صار يشارك في البرامج التلفزيونية! أأنت أقلّ منه؟ على من تحفظ كبرياءك؟!”
قال تشن شي ببرود:
“إذن ماذا تريد؟”
قال:
“تعال معي إلى شانغهاي، ابحث عن عمل جديد، توقّف عن هدر أيامك.”
قال:
“أنا لا أهدر وقتي.”
ضحك الآخر بسخرية:
“حقًّا؟ وماذا تفعل الآن؟”
صمت لحظة ثم قال بهدوء:
“أستعد لامتحان الهندسة المعمارية.”
اتسعت عينا صديقه بدهشة:
“أتمزح؟”
قال بثقة باهتة:
“لا.”
بقي كانغ شيان محدقًا فيه، ثم قال بمرارة:
“يعني توقفت عن العزف؟ هكذا فقط؟”
أومأ تشن شي.
قال صديقه غاضبًا:
“وهل هذه حياة تُعاش؟”
أراد أن يجيبه بأنّ للحياة أكثر من طريق، لكنه لم يجد القوة ليقولها.
ابتلع كلماته مع جرعة مُرّة من الشراب، كمن يحاول تخدير قلبه.
•°•○•°•●•°•○•°•
خرج تشن شي مترنّحًا من الحانة، وعيناه تلمعان بلون الخمر.
وجد هاتفه مطفأً، حاول تشغيله مرارًا دون جدوى.
لم يجد سيارة أجرة، فقرر السير على قدميه.
كان يسير ببطء، غارقًا في شروده، حتى كاد يصطدم بدراجة نارية.
شتَمَه السائق وانطلق، فلم ينبس تشن شي بكلمة.
شعر أن كل طريق في هذه الدنيا مليء بالحفر، خصوصًا الطرق التي يختارها القليلون.
من يسير فيها، يخسر كثيرًا، وربما نفسه أيضًا.
كل جهده، كل حماسته، كل إصراره، ارتدت عليه كالسهم، لتكشف ضعفه وهشاشته.
رمق ظلّه على الأرض، وقال في نفسه:
“في النهاية، كل الحكايات المبهرة تنتهي بخطٍ رماديٍّ وحيد.”
•°•○•°•●•°•○•°•
عند عودته، همّ بإدخال الرقم السري للباب، لكن الباب فُتح من الداخل.
توقف متفاجئًا، ليجد غوي تينغ يوي أمامه تبتسم، بوجه يفيض نورًا غير وقته.
قال بعبوس:
“ما الذي جاء بك؟”
قالت بلطف:
“أغلقت هاتفك ولم أستطع الوصول إليك، قلقت عليك.”
تجاوزها ببرود نحو الداخل، وقال ساخرًا:
“ظننت أنني أخطأت العنوان.”
كانت نبرته باردة كالإبر.
تجمدت في مكانها لحظة، ثم قالت بهدوء:
“أردت فقط التأكد أنك بخير، والآن سأرحل.”
لاحظت رائحة الكحول في الجو، وسألت بخفوت:
“كنت تشرب؟ حدث شيء؟”
استدار بغضب وقال:
“دعي الأمر، أيمكنك ذلك؟”
توقف الهواء بينهما.
كانت ساكنة كتمثال زجاجي.
قال ببرودٍ قاسٍ:
“ولا تعودي للترويج لي في مجموعة الجيران، أهذا يعجبك حقًا؟”
ثم أردف بحدة:
“أتظنين أنني أحب أن أكون في الواجهة؟ أن يُسلّط الضوء عليّ؟”
“أكثر ما يكرهه عازف الطبول أن يُلاحظ. إن كنت بارزًا في الأداء، فذلك يعني أنك أخطأت الإيقاع، وأنك لم تذُب في اللحن.”
قالت بهدوءٍ يختبئ فيه الرجفان:
“لكنّي قرأت أن عازف الطبول هو روح الفرقة، كقواعد البيت التي تثبّت جدرانه. أليس من حقّ الروح أن تُرى؟”
قال ببرودٍ مميت:
“وما الذي تحاولين إثباته؟”
قالت بصوت متقطع:
“أنّ لك قيمة… كعازف… وكإنسان. ما دمت تستطيع العزف، فأنت ما زلت حيًّا.”
التعليقات لهذا الفصل " 15"