الفصل 7 : أكاديميّة الضُباط الكارثيّة التي حتى النُّخبة تراها لأول مرّة ¹
“هل جئنا مبكرًا؟”
“لا أدري… في غضون أربعٍ وعشرين ساعة لا يُعتَبَر متأخّرًا…؟”
“يقولون إنّنا في المركز الأوّل. أليس هذا كافيًا؟”
بالطبع، لم يكُن لدى جماعة كلوي أيّ طريقةٍ لمعرفة إن كان هذا رقمًا قياسيًّا أم لا، فظلّوا يحكّون رؤوسهم في حيرة.
كان الأمر رقمًا قياسيًّا مذهلًا بنظر الآخرين، لكنّ ملامح كلوي – صاحبة الفضل الأكبر في تحقيقه – كانت مليئةً بأثر الإحباط.
لو كانت كلوي وحدها دون باقي مرافقيها، لكانت وصلت دون أن يتجاوز الأمر يومًا واحدًا.
بينما كان بقيّة المجموعة يهمّون بالتحرّك وفق إرشادات المدرب، التقطت ضوضاء بوّابة المدخل انتباههم مجدّدًا ومنعتهم من التقدّم.
عند قول المدرب لهم بالانتظار قليلًا، التفتت كلوي نحو البوّابة، وإذا بعينيها تتّسعان من الدهشة لرؤية شخصٍ غير متوقّع.
‘لقد سلك بالتأكيد طريقًا مبتعدًا عن الطريق المؤدّي إلى نورثفورت، فكيف…؟’
إلّا إذا كان يملك قدرة انتقالٍ آني، فهذا غير منطقيٍّ إطلاقًا.
“ألتاير تارغن، عدتُ.”
تلاقت نظرات ألتاير – الذي أدّى التحية ببرود – بنظرات كلوي. ولمع شيءٌ غريب في عينيه وهو يُحدّق بها.
اقترب ألتاير بخطواتّ واسعة من كلوي وابتسم بخبث.
“لم أتوقّع أن تصلي قبلي. لم أعد أستطيع وصفكِ بالكلبة بعد الآن.”
هل التهجّم على الآخرين من شيم المُستهترين؟ رغم أنّهما كانا حليفين مؤقّتين، انظروا إلى طريقة كلامه.
دوّنت كلوي في ذهنها معلومةً جديدة عن “مبادئ المُستهترين”.
كانت كلوي هي الفضوليّة حول كيف وصل بهذه السرعة رغم أنّه غادر الطريق.
لكن قبل أن تفتح فمها، كان لوسيان – الذي خسر لقب “الرجل الوحيد” في المجموعة – يقف أمامها بثانية.
“كيف تُشبّه الآنسة بالكلب، بل وكلبٌ صغير! إنّه حقًّا… غير لائقٍ أبـ…ـدًا….”
تلاشت جرأة لوسيان تدريجيًّا حين وجد نفسه وجهًا لوجه مع ألتاير.
لم يكن الأخر يُحدّق به بغضب، بل ينظر إليه من علٍ بوجهٍ متسائل، وهذا وحده كان كافيًا لإغلاق فم لوسيان وإسكات ذيله.
قادهم المدرب – الذي كان يرافق كلوي ومرافقيها عدا روزيلين التي ذهبت إلى العيادة – عبر ساحةٍ مليئة بمجسّمات رديئة الصنع، حتى وصلوا إلى المخزن-السكن.
“اليسار للإناث، اليمين للذكور.”
امتدّت أسِرّةٌ طويلة متّصلة على جانبي الجدار، وُضعت فوقها خزائن المعدات متقاربةً بشكل خانق.
وكان الممرّ الوسطي بالكاد يسمح بمرور شخصٍ واحد.
كان الهواء داخل المخزن خانقًا ورطبًا، يكاد يمنع التنفّس.
لكن لمن عانى قبل ساعات حرارة الصحراء اللاسعة التي تكاد تشقّق الحلق وتُميت البشر عطشًا، كان جوّ المخزن يبدو معتدلًا، بل لذيذًا.
“كيف تجلسين بهذه الاستقامة حتى في مكان كريه مثل هذا؟ هل أنتِ فعلًا مستهترة؟”
ما إن رأت روزيلين جلوس كلوي المستقيم حتى ضاقت عيناها بالشك.
“كلّما جلستِ منحنيةً أو مسترخية، رأسكِ يصطدم بالأرض. هل يعتاد جسدكِ على ذلك أم لا؟”
“في أيّ بيئةٍ نشأتِ بحقّ الجحيم…؟ حتى كبير عائلتنا المتزمّت لا يوبّخني لأجلس بهذا الاستقامة. أعترف، لقد خرجتِ عن المألوف.”
عند جواب كلوي، اختفى شكّ روزيلين فورًا.
كلمة “يصطدم بالأرض” لم تكن كذبًا. فقط من أمرها بذلك لم يكن من عائلتها.
وامتلأ المخزن تدريجيًّا بأشخاص آخرين من غير مجموعة كلوي التي كانت قد حجزت أفضل الأماكن للراحة.
“كيف عبرتم النهر؟ نحن مشينا طويلًا نحو المصب. هل هناك من صعد إلى المنبع؟”
“لقد وصلنا في 47 ساعة و59 دقيقة و59 ثانية! يقولون إنّه أعلى رقم!”
عاد جميع الطلاب الجدد – الذين طُرحوا في البراري – إلى نورثفورت، ليس دون إصابات، لكنّهم عادوا.
بعد استلامهم وجبة العشاء، استُدعيت مجموعة كلوي إلى مكتب العميد.
“لأول مرةٍ منذ عشر سنوات، تتغيّر الأسماء المدوّنة في لوحة الشرف.”
دوّنوا أسمائهم وأرقامهم القياسيّة في لوحة الشرف، وتلقّى كلٌّ منهم عشر نقاطٍ كمكافأة.
كانت النقاط غريبة بكونها عملةً ماديّة، لا رقمًا فحسب.
وأثناء المصافحة الأخيرة، حدّق العميد في يد كلوي التي كانت ترفع ذراعها لتحافظ على أدبها الاعتيادي، وسأل بلطف:
“اسمكِ الرسمي في السجل، وطريقة تحيّتكِ… كلاهما مضبوطان للغاية. هل لديكِ فردٌ في العائلة يعمل في الجيش؟”
‘أوه، لقد أظهرت ملامح النخبة دون قصد….’
ارتبكت كلوي وأنزلت يدها قليلًا وهي تجيب:
“نعم. لذا رأيتُ الكثير وتعلّمتُ الكثير.”
كان هذا صحيحًا، سواء كانت هويّتها الحقيقيّة أو المزوّرة.
فكّرت أنّها من الآن فصاعدًا ستشوّه زاوية التحية قليلًا. قليلًا فقط، لأنّ روح النخبة بداخلها لن تتحمّل تشويهًا كبيرًا.
***
بعد نومٍ عميق استمرّ ثمانيًا وأربعين ساعة كاملة، كان حفل القبول بانتظار دفعة 87.
انخفضت حرارة المخزن – التي كانت خانقةً نهارًا – إلى البرودة ليلًا، لكنه ظلّ أفضل من البراري.
وكان عدد المجتمِعين لحضور حفل القبول ثلاثين شخصًا، أقل بكثير مِمَن أُحضروا في البداية.
بعد المرور ببرنامج النجاة في البراري من ثلاثة مسارات، شعر طلاب الدفعة 87 براحةٍ واضحة بعد عودتهم إلى نورثفورت الأكثر راحة.
فبعد أن تغلّبوا على كل تلك المصاعب بقوّتهم الخاصّة، ولّد لديهم هذا غرورًا يوهمهم بأنّ باستطاعتهم التغلّب على أيّ صعوبةٍ في نورثفورت.
لكنّ هذا لم يكن سوى بداية نورثفورت.
“أُعلِنُ بهذا قبول طلاب دفعة 87 رسميًّا.”
وما إن انتهى إعلان العميد، حتى انهمرت صيحات الاستهزاء والقمامة من كلّ الجهات.
“مرحبًا بكم في نورثفورت، أيها المنحرفون الملاعين!”
“هذه هي مراسم الترحيب التقليديّة في نورثفورت!”
تطايرت الفواكه الفاسدة، والعلب الفارغة، وكرات الورق، والأحذية القديمة، وكل ما يشبه القمامة نحو رؤوس وأجساد الطلاب الجدد.
“آآااه!”
“آخ! الرائحة! هل جنّوا؟!”
“أهذا ترحيب؟ يا أبناء الكلاب!”
غمرت الصراخات والشتائم والضحكات الساخرة جميع أرجاء الساحة، وانحنى الطلاب الجدد في حالة من الفوضى. وكلّما حاولوا الردّ، ازدادت شراسة القمامة التي يلقيها الطلاب الأكبر.
رفعت كلوي رأسها هربًا من القذائف، وبدت الصدمة الحقيقية على وجهها.
بالنسبة لها – المعتادة على حفل القبول الرسمي والمنضبط في الأكاديميّة العسكريّة الملكيّة المركزيّة – كان هذا صدمةً ثقافية.
‘هذا المكان… مختلٌّ حقًّا.’
كان ما يسمّى “حفل الترحيب” في الحقيقة طريقةً لطحن كبرياء الطلاب الجدد.
في نورثفورت، تُحطَّم عزيمة الطلاب مرّتين: مرّة عبر برنامج النجاة في البراري، ومرّة عبر حفل القبول هذا.
ولم يكن يُلقَّب هذا المكان عبثًا بـ”مركز تأهيل المُستهترين”.
وأثناء تساؤل كلوي متى سيتوقّف هذا المطر من القمامة، التقطت نظراتٍ تحدّق بها من بداية الحفل.
عندما التفتت نصفَ التفتة، رأت شابّةً ذات شعرٍ ذهبي تحدّق بها بتركيز.
‘أين رأيتها…؟’
شعرت كلوي بحدسٍ مألوف يقرص صدرها. لم يكن يجب أن يعرفها أحدٌ وهي في مهمّة.
أنهت تلك السيّدة النظرة الطويلة حين صرفت كلوي بصرها.
وبعد انتهاء الحفل، حان وقت توجيه الطلاب الجدد – الذين أصبحوا رسميًّا طلاب السنة الأولى – نحو مساكنهم.
أمرهم المدرب ذو العين الواحدة بصرامة:
“أحضروا المؤن من المخزن. ابتداءً من اليوم لن تناموا في المخزن، بل في سكن السنة الأولى.”
ابتهج الطلاب فورًا.
“صحيح، لا يمكن أن ينام البشر في مكانٍ كهذا.”
هدرَت روزيلين بجانب كلوي بصوتٍ يفيض صدقًا.
يقولون إنّ الإنسان يخرج من المرحاض بمشاعر مختلفةً عن دخوله.
فمقارنةً بالأرض الجافّة الباردة في البراري، كان المخزن أشبه بسريرٍ سماوي، لكن الآن بعد مقارنته بغرف مساكنهم، صار أسوأ من كوخ كلاب.
قادهم المدرب إلى الساحة نفسها المليئة بالمجسّمات الرديئة التي مرّوا بها بالأمس.
“حطّموه كلّه! كلّه! أهاهاهاها!”
“الآن أفهم لماذا فعلها من سبقونا!”
“بنينا هذا بأيدينا وبشقّ الأنفس، وأنتركه هديّة للدفعة التالية؟ مستحيل!”
“أخيرًا سننام في سكن الحقيقي!”
كان طلاب الدفعة 86 – الأكبر منهم بسنة – يحطّمون المجسّمات بسعادةٍ خالصة.
وبعد أن دمّروا كل قطعة، حتى أصغر عود خشب، حملوا أمتعتهم وغادروا متفرّقين بوجوهٍ مفعمةٍ بالبهجة.
وأشار المدرب إلى الساحة التي صارت خرائب، وقال بجفاف كالصاعقة:
التعليقات لهذا الفصل " 7"