الفصل 5 : التدريب العَسكري الأساسي الذي لَمْ يشهدهُ حتى النخبة مِن قَبل ⁵
“كانت صاحبةُ أضعفِ قوّةٍ ترتجفُ أمام قبرها الخاصّ وهي تهزّ رأسها على عَجَل.
“أرجوكِ أن تُنقذيني.”
لأوّل مرّة، تحدّثت صاحبةُ أضعفِ قوّةٍ بوضوحٍ من دون أن تُسقِط آخر كلامها.
يا للسّلامة… لعلّها كانت تعاني البرد كثيرًا إلى هذا الحدّ.
ما إن رأت كلوي شفتَي صاحبةِ أضعفِ قوّةٍ وقد ازررقّتا تمامًا ثم مالتا إلى البنفسجيّ، حتّى رقّ قلبُها عليها فركلتها وأسقطتها داخل الحفرة.
“أرجوكِ! أنقذيني!”
“لقد أنقذتُكِ للتوّ.”
لكنّ صاحبة أضعف قوّة لم تفهم نيّة كلوي، فحاولت بكلّ ما تملك الزحف خارج الحفرة والهرب.
ما دامَت تتوسّل النجاة بهذا الإصرار، فلا مفرّ. فأسقطتها كلوي أرضًا بضربةٍ على مؤخرة العنق فأغمي عليها، ثم التقطتها من جديد ورمتها داخل الحفرة.
كان هذا إنقاذًا لإنسانٍ واحد من انخفاضِ حرارةِ الجسد فحسب.
“لحظة! مهما كان الأمر، ألا ترَين أنّ ما تفعلينه قاسٍ للغاية؟ حتى لو كانت هذه الفتاة عبئًا، فعليكِ محاولة إنقاذها! لماذا تحاولين دفنها وهي ما تزال حيّة؟!”
نهضت ذاتُ الشعر القصير بغضبٍ لم تستطع كتمانه أكثر، وواجهت كلوي. وإن كان النقاش ضروريًا، فالتي نطقت بصوتٍ عالٍ بما كان الجميع يفكّر فيه — “نظرية كون أضعف قوّةٍ عبئًا عليهم” — هي التي تجاوزت الحدّ.
هزّت كلوي كتفيها وأجابت.
“أنا لا أُحاول دفنها حيّة، بل أُحاول إنقاذها. الحفاظُ على حرارةِ الجسد أسهل بكثير تحت سطح الأرض. ولو أردتُ قتلها، لماذا كلّ هذا العناء في الحفر؟”
ولكن بما أنّ الشكّ لم يزل يظهر في عيني ذات الشعر القصير، ركلتها كلوي أيضًا وأسقطتها داخل الحفرة لتُريها التجربة بنفسها.
“آخ! مـ… ما هذا؟ فعلاً… المكان غيرُ بارد!”
بعد أن جرّبت بنفسها دفء الحفرة، اختفى الشكّ من قلبها.
“لنرَ… يبدو أنّه يمكن لشخصين آخرين النوم هناك أيضًا.”
وما إن أنهت كلوي جملتها، حتى ألقت صاحبة الشعر الأحمر والفتى الوحيد بينهنّ نفسيهما داخل الحفرة بسرعة.
“ابتعدا! لا يمكنني النوم على أرضٍ باردةٍ قاسية!”
“لا تضحكي عليّ! هكذا تتصرّفين وكأنّك نشأتِ في الرفاه! ثم إنّ أرض الحفرة هي أيضًا أرض!”
“آنساتي الجميلات؟ هل تأذنَّ بأن أحظى بشرفِ قضاء ليلةٍ دافئة معكنّ؟”
وبعد معركةٍ جسديةٍ شرسة، كان المطرودُ من الحفرة هو الفتى الوحيد.
فقد تعاونت الفتاتان، اللواتي لم تستطيعا تحمل غزله المبالغ فيه، ودفعاه خارج الحفرة.
نهض الفتى الوحيد بإصرارٍ لا يُصدَّق واقترب من كلوي بخطواتٍ مثقلة، ليبدأ جولةً ثانية من الغزل بوجهٍ وقح.
“لو كنتُ بجوار أنسةٍ قويةٍ وجميلةٍ مثلكِ، لتمكّنتُ من تحمّل برد هذه الصحراء القاسي.”
“افعل ما تشاء إن كنتَ ترغب في التجمّد والموت. لكن أحذّرك: إن اقتربتَ منّي بحجّة البرد، سأركلك. إن أردتَ كسر أضلاعك… جرّب.”
فور أن سمع تحذير كلوي الصادق، تراجع الشاب وذهب إلى الجهة المعاكسة من النار ليستلقي هناك.
تناولت كلوي معولها، ووقفت تنظر إلى الثلاثة المتكدّسين بصعوبة داخل الحفرة الضيّقة.
“أنتِ… لا تنوين تغطيتنا بالتراب الآن، صحيح…؟”
سألت ذاتُ الشعر القصير بتردّد وهي ترتجف عينيها. فحكّت كلوي خدّها والمعول بيدها.
همم… هل أبدو فعلاً كجلّادةٍ إلى هذه الدرجة؟
سوّت كلوي الأرض حول زوايا الحفرة، ثم وضعت قطعة القماش المانعة للماء فوق الفتحة، وثبّتت أطرافها بأربعة أحجارٍ ثقيلة.
لقد عملت تلك القماش كـ”سقف”ٍ يمنع الريح.
وما إن وضعت السقف حتى بدأ صوت الشخير وأنفاس النوم يخرج عبر القماش.
وبوجهٍ يصرخ تعبًا، رمت كلوي قطعة قماشٍ أخرى إلى الفتى الوحيد وأشارت إليه.
“نم أنت أيضًا. سأقف أنا للحراسة.”
ولم يكن لديها أيّ نيةٍ للنوم من الأساس. فالسهرُ ليلةً واحدة لا يعني شيئًا بالنسبة لها.
وفوق ذلك، لم تكن تثق أن الفتى لن يسرق الطعام والماء ويهرب، ولم تكن تؤمن بأن لديه القدرة على التعامل مع طارئٍ مفاجئ.
عندها طرح الفتى الوحيد سؤالًا، بعدما غطّى كتفَي كلوي بالقماش بدلًا من النوم.
“آنسة… كيف وصلتِ إلى هذا المكان القاسي الذي لا يناسب آنسةً مثلكِ أبدًا؟”
يا للعجب… حتى بعدما رأى ما فعلته كلوي في هذا الصحراء، ما يزال يظن أنّ هذا المكان لا يليق بها.
إذًا، لماذا كانت ضابطةٌ مِن نخلة الأكاديمية العسكرية الملكية المركزية — خريجةٌ وصلت إلى رتبة ملازم — تخوض تجربة “نورثفورت للمبتدئين” التي تبدأ من أدنى الدرجات؟
-‘الملازم كلوي تيسا! سأذهب! سأقتلع كلّ بقايا أولئك الخونة السافلين وسأحصل على وسامٍ من الإمبراطورية!’
لقد كانت مهمةُ قسم العمليات الاستخبارية هذه المرة هي تعقّب أثر انقلابٍ وقع قبل 15 عامًا، والكشف عن مخبئهم.
-‘الملازم تيسا، نعلم ظروفكِ، لكن هذه المهمة لا تُؤخذ بخفة. فالترقّي إلى رتبة نجم يعني حصولكِ على لقبٍ نبيل.’
-‘ما يزال أمامي عشرون عامًا لأحصل على نجمة! الحياة ضربة واحدة يا سيدي! ثم اسمعني… أنا الأقرب عمرًا لطلاب السنة الأولى. أمّا كبار خريجي الأكاديمية، فلن يُصدّق أحدٌ أنهم طلاب، مهـمـا حاولوا التستّر بالقول إنّهم يبدون أكبر سنًّا. لذا هذه المهمة… لابدّ أن تكون لي!’
كانت مهمةٌ عظيمة، تمسّ شرف الجيش الإمبراطوري وأمنه، وتمسّ حلم كلوي الشخصيّ منذ زمن.
وكان موقع هذه المهمة هو أكاديمية نورثفورت الواقعة على أطراف الإمبراطورية.
وكانت مهمتها التنكّر كطالبةٍ مستجدّة داخل الأكاديمية لتتبع آثار الانقلاب.
باختصار… كان هذا مصيرًا جلبته كلوي على نفسها.
لكنها لم تستطع قول الحقيقة، فاختارت الجواب الجاهز.
“عشتُ بتهوّر… فتمّ طردي. وأنت؟”
عندما سألت كلوي، وهي تنظر إلى عينين نصف نائمتين تشبهان عيني قطةٍ متخمة، احمرّ وجه الفتى الوحيد وحكّ خدّه.
“أنا… حاولتُ إرضاء عددٍ كبير من الآنسات في الوقت نفسه…”
أي أنّه طُرد إلى نورثفورت بسبب علاقاته المتعدّدة. نعم… الوسيمون يدفعون ثمن وجوههم دائمًا.
“بدلًا من مضايقتي بالكلام، الأفضل أن تغفو قليلًا. فسأوقظك بدقّة بعد أربع ساعات.”
“مستحيل! لا يمكنني السماح لآنسةٍ بأن تتولّى الحراسة!”
لكن رغم اعتراضه الصاخب، لم تمرّ عشر دقائق حتى كان يترنّح ويحارب النوم… ثم هزمته الأحلام أخيرًا.
“كنتُ أعرف.”
نقرت كلوي لسانها وهي تراقبه.
أربعُ ساعاتٍ كاملة وقفت فيها للحراسة وهي تمنع النار من الانطفاء وتراقب محيطها جيدًا.
وفيما بدأت زرقةُ الليل تتحول تدريجيًا إلى ضوءٍ باهت، ارتفعت درجة الحرارة قليلًا.
بعد أن أيقظت الفتى الوحيد، اتجهت نحو الحفرة حيث نام الثلاثة الآخرون.
وبسبب فرق الحرارة في فجر الصحراء، تكاثفت قطرات الماء على القماش.
ولو لم يحصلوا على حصّةٍ إضافيةٍ من المؤن أمس، لعمدوا إلى جمع هذه القطرات للاستفادة منها، لكنّ الماء وفيرٌ لديهم الآن، فلا حاجة لذلك.
‘لنغسل وجوهنا.’
جمعت كلوي القطرات بطرف قبضة السكين وغسلت وجهها بها، ثم حرّكت القماش لتجفّفه.
“استيقظوا! هيا بسرعة!”
ثم أيقظت الثلاثة الذين كانوا ينامون متشابكين كقططٍ صغيرة داخل الحفرة.
“هل نمتُ هنا فعلاً…؟”
“يا إلهي… كان يجب أن تجعلينا ننام على الأقل سبع ساعات!”
“خمـ… الخمر…”
وبوجوهٍ متجهّمةٍ تشكو نهاية الراحة القصيرة، تبعوا كلوي بعد أن تحققت من الاتجاهات، وانطلقوا مجددًا نحو نورثفورت.
***
وبعد مسيرةٍ قاسية متواصلة، وصل فريق كلوي أخيرًا إلى نهاية الصحراء التي بدا بلا نهاية.
وبعد كل ما قضوه معًا، وُلِدت بينهم مشاعر تُشبه الرفاقية.
وعلى الجانب الآخر من النهر، ظهرت أخيرًا أكاديمية نورثفورت، قلعةٌ حصينة طال الشوق إليها رغم أنّهم لم يروها من قبل.
لكن المشكلة كانت… النهرُ الذي يفصلهم عنها.
كان التيار جارفًا والعرضُ واسعًا، وحتى بالنظر فقط، بدا من المستحيل معرفة عمقه تحت هذه الأمواج المتلاطمة.
ومن يقفز بلا تجهيزٍ مناسب سيُسحب فورًا بعيدًا عن مجرى النهر.
التعليقات لهذا الفصل " 5"