ما إن أنهى الرجل كلامه حتى أصبحت نظرة إيفان حادة كالسيف.
كان متكئًا على الكرسي بظهره، ثم اعتدل ببطء رافعًا جسده للأمام.
قال بصوت منخفض لكنه نافذ:
“تحدث بشكل أكثر دقة.”
“أعني…”
تردد الرجل قليلًا ثم واصل:
“رأيت رجلًا في منتصف العمر يقترب من الآنسة ماري، التي كانت مسؤولة عن القسم A، وطلب منها أن توصل ورقة صغيرة إلى سيدةٍ ما.”
بمجرد سماع ذلك، أسرع إيفان يقلب الأوراق الموضوعة أمامه، يبحث في قائمة الموظفين حتى عثر على اسم “ماري”.
كانت مواطنة من إمبراطورية كونوت، ولم يظهر في سجلها أي أمر مريب أو ملفت.
رفع عينيه وسأل بنبرة باردة:
“الآنسة ماري ألفورت… أليس كذلك؟”
هزّ الرجل رأسه بسرعة.
“نعم، صحيح.”
“هل اعتدت أن ترى مواقف مشابهة أثناء عملك؟”
“نعم، تحدث مثل هذه الأمور كثيرًا. خصوصًا عندما يرى شابٌ فتاةً تعجبه، فيرسل إليها ورقة صغيرة.
لكن في هذه المرة، كان الأمر مختلفًا… لأن من قام بذلك كان رجلًا في منتصف العمر.”
أومأ إيفان ببطء وهو يسجّل شيئًا في ذهنه.
“أفهم… ومتى رأيت ذلك بالضبط؟ في أي وقت تقريبًا؟”
“أظن… كان ذلك في حدود الساعة السابعة مساءً.”
“حسنًا، فهمت. سننهي التحقيق معك الآن يا السيد زاركو. وإن وجدنا ما يستدعي بشأن الآنسة ماري، فسنستدعيك مجددًا.”
نهض الرجل من على الكرسي الحديدي وانحنى قليلًا، ثم غادر الغرفة برفقة أحد المحققين.
ظلّ إيفان يطرق بأصابعه على سطح المكتب المعدني، غارقًا في التفكير العميق.
لم يستطع أن يقرر ما إن كانت هذه المعلومة ذات فائدة حقيقية أم مجرد تفصيلٍ تافه.
ورقة صغيرة…
قد يكون الأمر مجرد محاولة إعجاب عابرة، لكن ثمة أمور بدت له مريبة.
قبل لحظاتٍ من الانفجار…
في ذلك التوقيت تحديدًا، رجلٌ في منتصف العمر يسلّم رسالة لامرأةٍ معينة؟
يبدو أن الأمر يستحق التحقيق.
مدّ إيفان يده إلى الهاتف بحركة مضبوطة وقال بلهجة آمرة:
“أحضروا الآنسة ماري ألفورت إلى غرفة التحقيق أولًا.”
وبعد لحظات،
دخلت شابة ذات شعرٍ قصير بلون البني الداكن ونمشٍ يغطي وجهها بصحبة أحد المحققين.
كان إيفان يشعر وكأنه رآها في مكانٍ ما من قبل.
انحنت الفتاة برهبة أمامه وجلست في المقعد المقابل.
ظلّ إيفان لبرهة ينظر إلى الأوراق أمامه، ثم رفع عينيه وسألها بهدوء:
“الآنسة ماري ألفورت؟”
“نعم…”
“أنتِ من مواليد كونوت، وكنتِ تعملين على السفينة خلال الأشهر الستة الماضية، صحيح؟”
“نعم، هذا صحيح.”
كان صوتها يرتجف، ويداها المتعرّقتان تفركان طرف تنورتها بتوترٍ ظاهر.
سألها إيفان بعد أن تأكد من هويتها ومسار عملها:
“الآنسة ماري، هناك شهادة تقول إن رجلًا في منتصف العمر طلب منكِ إيصال ورقةٍ إلى إحدى النساء في الساعة السابعة مساءً. أريدك أن تخبريني بكل ما تتذكرينه عن ذلك.”
شهقت الفتاة بخفوتٍ وكأنها تذكرت شيئًا.
ترددت قليلًا، ثم أومأت بخجل وبدأت بالكلام:
“صحيح، في ذلك اليوم جاءني رجل في منتصف العمر وطلب مني أن أوصل ورقةً صغيرة إلى امرأةٍ شابة في القسم A.”
“القسم A…”
ألقى إيفان نظرة على مخطط أماكن الجلوس في أوراقه.
وكانت المفاجأة أن القسم A هو المكان ذاته الذي جلس فيه هو وجولييتا لتناول العشاء في تلك الليلة.
عندها تقلصت ملامحه ببطء، وشعر بشيءٍ غير مريح يتسلل إلى صدره.
“هل لبّيتِ طلبه؟”
“بالطبع، فقد كان ضيفًا في الحفلة. كان مؤدبًا للغاية ولم يبدُ منه أي تهديد، لذا قبلت طلبه وأوصلت الورقة كما هي.”
“حسنًا… هل تعرفين ما الذي كان مكتوبًا فيها؟”
“لا، إطلاقًا. حين يطلب الضيف إيصال ورقة، من غير اللائق أن نفتحها أو نقرأها. لقد قمت فقط بتسليمها.”
ضيّق إيفان عينيه وهو يلتقط قلمًا، ثم دوّن في مفكرته:
「ماري ألفورت / ورقة صغيرة / رجل في منتصف العمر / القسم A」
وتحتها بخطٍ غليظ كتب:
「معلومة خاصة – تحتاج إلى تدقيق」
قالت ماري بعد لحظة تفكير، وهي تحاول تذكّر الملامح في ذهنها:
“همم… لم يكن طويل القامة كثيرًا، أطول مني بشبرٍ تقريبًا. كان صوته هادئًا، ولحيته غير مرتبة قليلًا. وأتذكر أنه كان يضع يده في جيب معطفه طوال الوقت تقريبًا.”
كان إيفان يدوّن ملاحظاتها بسرعة، قلمه يخدش سطح الورق بخفة. ثم رفع نظره نحوها وسأل بصوتٍ منخفض:
“هل تتذكرين المرأة التي سلّمها الورقة؟”
ترددت ماري لثوانٍ قبل أن تجيب:
“نعم، أعتقد أني أتذكرها قليلاً… كانت امرأة شابة، ذات شعرٍ أشقر طويل، ترتدي فستانًا أزرق اللون، وكان حول عنقها عقدٌ من اللؤلؤ، أذكره جيدًا لأنه كان يلمع تحت الأضواء.”
في تلك اللحظة، توقّف القلم بين أصابع إيفان، وتجمدت ملامحه. بقي صامتًا لثوانٍ طويلة، بينما كان ذهنه يربط بين تلك الأوصاف التي لم تترك مجالًا للشك. شعرٌ أشقر طويل، فستان أزرق، عقد لؤلؤ… لم يكن من الممكن أن تكون سوى جولييتا.
رفع رأسه ببطء، وقد ارتسمت على وجهه ملامح صدمةٍ باردة، وبدأت ذكرى ذلك اليوم تعود إليه — اللحظة التي اقتربت فيها إحدى العاملات من جولييتا أثناء الحفل. حينها لم يعر الأمر اهتمامًا، أما الآن فقد بدت تلك اللحظة ذات معنى مختلف تمامًا.
ارتسمت خطوط الغضب على جبينه، لكن صوته بقي هادئًا حين قال:
“أريدك أن توضحي لي ما الذي حدث بعد ذلك بالضبط. ماذا فعلت المرأة بعد أن أخذت الورقة؟”
أجابت ماري متوترة:
“كنت مشغولة في ذلك الوقت، فقد ذهبت إلى المطبخ لأحضّر المشروبات والأطباق. وعندما عدت إلى طاولتها لاحقًا، لم أجدها، كانت قد غادرت بالفعل.”
رفع إيفان حاجبيه قليلًا وسأل بنبرة جادة:
“هل يمكنكِ تحديد الوقت تقريبًا؟”
“ليس بدقة، لكن أظنه كان بين السابعة وعشر دقائق إلى السابعة وخمس عشرة دقيقة مساءً.”
تجمّد إيفان للحظة. ذلك يعني أنها غادرت قبل وقوع الانفجار الأول بخمس عشرة دقيقة فقط. عندها دوّى في رأسه صوتها القديم من ذكراه المؤرقة: “إيفان، لقد كنتَ مخطئًا…”، وشعر بأن شيئًا خفيًا بدأ يتضح أمامه.
سألها مجددًا بنبرة أكثر حدة:
“هل تعرفين أي شيء آخر عن الرجل الذي أعطاك الورقة؟”
ترددت ماري، ثم قالت:
“أمم… قال إن اسمه جيرين.”
انكمشت عينا إيفان في لحظة، وصوته خرج أكثر حدة مما قصد:
“ما الذي قلتِه؟ جيرين؟”
ارتبكت ماري وقالت بسرعة وهي تلوّح بيديها:
“نعم! سألته عن اسمه في حال رفضت السيدة الرسالة، فقال لي شيئًا يشبه ذلك الاسم، جيرين… لم أفعل سوى تسليم الورقة كما طلب.”
أمسك إيفان الملفات على مكتبه وبدأ يقلبها بعصبية، يبحث عن ذلك الاسم الذي بدا مألوفًا. ثم توقف فجأة عند إحدى الصفحات، وراح يحدق فيها بتركيزٍ شديد. كان الاسم واضحًا أمامه:
「جيرين」
قرأ الوصف أسفله بعينيه الحادتين:
“منظمة صغيرة تتظاهر بأنها حلقة فلسفية، لكنها في الواقع جماعة غامضة مناهضة للنظام. تنشر كتبًا تدعو للأفكار المتطرفة والمعادية للدولة، وتحرض على اغتيال الشخصيات السياسية والاجتماعية المؤثرة. لم تُعرف قيادتها قط، والمعلومات المتوفرة عنها شحيحة للغاية. ولم تُثبت أي علاقة مباشرة بينها وبين الحادث الأخير، لذلك استُبعدت رسميًا من التحقيق.”
ظل إيفان يحدق في الورقة دون أن يرمش. تصلبت شفتاه، وبرزت عضلات فكه من شدة التوتر. كان كل ما قرأه يعني شيئًا واحدًا فقط — أن جولييتا كانت على اتصالٍ بشخصٍ ينتمي إلى جماعة “جيرين”.
الورقة التي تلقتها، توقيت مغادرتها، نظراتها المتوترة في ذلك اليوم… كلها خيوطٌ بدأت تتشابك في ذهنه لتكوّن صورة واحدة. حتى اهتمامها المفاجئ بالصحف ربما لم يكن مجرد صدفة.
“جولييتا… لماذا؟”
“لماذا لم تخبريني بشيء؟”
مدّ يده إلى صدغه وهو يشعر بصداعٍ ثقيل يزحف ببطء داخل رأسه. ثم رفع بصره إلى ماري وقال بنبرةٍ أكثر هدوءًا:
“الآنسة ماري، شكرًا لتعاونك اليوم. إذا تذكرتِ أي شيء آخر، أبلغينا فورًا.”
أومأت ماري بخضوعٍ وغادرت الغرفة بخطواتٍ مترددة. بقي إيفان وحده للحظات، أغمض عينيه ثم فتحهما وقد اتخذ قراره.
لقد بدأت ملامح التحقيق تتضح أمامه، وضيّق دائرة الشبهات إلى جماعة محددة. لكن المفارقة المؤلمة أنه سيضطر الآن إلى استجواب زوجته بنفسه.
زفر تنهيدة طويلة، ومد يده ليوقف جهاز التسجيل على الطاولة، ثم قال بصوتٍ بارد حاسم:
التعليقات لهذا الفصل " 36"