الملكة المثاليّة وسكرتيرها - 3
الفصل 3: النّحس (1)
قام كايران بفحص محيطه بعناية. امتدّت بقع الدم حتى مدخل ومخرج قاعة الطعام. كبح إحساسًا مُفاجِئًا بعدم الارتياح، ثم اندفع خارجًا من القاعة.
في تلك اللحظة، رأى خادمةً تدخل وهي تحمل حوضًا مليئًا بالغسيل. أمسك بها كايران فجأة.
“آه… أ- أيها الدوق الأكبر! مـ- ما الأمر؟”
عندما أدركت الخادمة هويّة الشخص الذي أمامها، وضعت الحوض على الأرض بسرعةٍ وانحنت برأسها.
كان معروفًا في البلاط بوسامته، لكن بشخصيّةٍ مُخيفة. قيل إنه لم يتمكّن أيُّ خادمٍ من البقاء معه بسبب مزاجه الفريد، وحتى أولئك الذين تم تعيينهم له وفقًا للعادات الملكيّة كانوا يُطردون في أقل من يوم.
“جلالتها، الملكة لينوا. في خطرٍ الآن.”
“…المعذرة؟ كيف حدث ذلك؟ أين السيّدة لينوا؟”
كايران، الذي كان قد هرع بسرعة، تلعثم وهو يتحدّث.
تجمّدت الخادمة في مكانها من الصدمة. كانت لينوا، التي تحتلّ مرتبةً أعلى من كايران بصفتها الملكة، معروفة بمعاملتها اللطيفة للخدم مثلها. بل كانت تنحني وتُظهر الاحترام حتى لمن هم أكبر سنًا بكثير. وبفضل طبيعتها الملائكيّة، كانت تحظى بتقديرٍ كبيرٍ في البلاط.
ولكن الآن، بعد سماع أن شخصًا بهذه الطيبة في خطر، شحب وجه الخادمة.
“احضري الطبيب الملكي إليها فورًا.”
“نـ- نعم…”
استطاعت بالكاد الرّدّ على هذه الأخبار الصادمة التي ضربتها فجأة. كانت تشعر بالفعل بالتوتّر لمجرد لقاء كايران، الذي كانت سُمعَتُه في أسوأ حالاتها.
كان عليها أن تستدعي الطّبيب الملكي، فانطلقت على الفور. لكن فجأة، دوى صوت كايران الهادر من خلفها.
“انتظري!”
“نـ- نعم!”
“أليست غرفة الطّبيب الملكي في هذا الاتجاه وليس ذاك؟ اسرعي بلا تأخير.”
أشار كايران بضيقٍ إلى الاتجاه الصحيح.
أدركت الخادمة خطأها أخيرًا، فأسرعت في الاتجاه الصحيح. وسط ارتباكها، كانت قد نسيت بالفعل، لكن كايران كان على حق؛ لقد كانت تسير في الاتجاه الخاطئ.
قبل أن تختفي تمامًا عن نظره، صاح كايران بصوتٍ عالٍ.
“إذا حدث أيُّ مكروهٍ للسيّدة لينوا، فسأعاقبكِ بشدّة!”
في تلك اللحظة، وجدت الخادمة أن صوته السام كان أكثر رعبًا من تدهور حالة لينوا نفسها.
* * *
تمكّنت لينوا بالكاد من الوصول إلى الطابق الثالث، مُتجنِّبَةً أفراد البلاط، خاصّةً الخدم. عندما التفتت للخلف، رأت بقع دمٍّ متناثرة على طول طريقها. وبصفتها ملكة، لم يكن بإمكانها الركض، لذا كانت تسير بسرعةٍ وهي تمسك بفستانها.
منذ الصباح، شعرت بأنها ليست على ما يرام، وفي فترة الظهيرة، أُصيبت بانزعاجٍ غير معهودٍ منها كملكة. ظنّت أن السبب هو مشدّ الخصر الذي كانت ترتديه. وعلى الرغم من أنها اعتادت ارتداء المشدّات منذ أيّامها كأميرة، وكانت تتحمّلها إلى حدٍّ ما، إلا أنها ظلت غير مريحة.
‘ظننتُ أن الأمر لن يحدث، لكنه انفجر فجأة…’
بصفتها ملكة مملكة سيليستا، كان لدورتها الشهريّة ارتباطٌ وثيقٌ بصحتها، لذا كانت تحظى بأهميّةٍ بالغة. إذا لم تحدث في اليوم المحدد، كانت تستدعي الطبيب الملكي لإجراء فحص.
لكن خلال الأشهر الأولى بعد أوّل دورةٍ لها، كانت التواريخ تتغيّر كثيرًا دون أي أعراضٍ خاصة. لذا، عادةً لم تكن تستدعي الطبيب أو تتلقّى أي أدوية. وبفضل التغذية الجيّدة والبيئة المريحة، أصبحت دورتها مُنتظِمَةً مع مرور الوقت.
كان أوّل تأخيرٍ لها بعد شهرٍ ونصف من تنصيبها كملكة، في يوم وفاة والدها. ولأنها جاءت مُتزامِنةً مع وفاته المفاجئة، حضرت جنازته طوال اليوم وهي تشعر وكأنها تموت معه. ولم يُدرك أحدٌ أن دورتها تأخّرت إلا بعد عودتها إلى قصرها وهي بالكاد تستطيع الوقوف.
هذه المرّة، كانت دورتها غير منتظمةً مجددًا. تأخّرت خمسة عشر يومًا كاملة. وأثناء العشاء مع كايران، وبينما كانت تتناول حلوى الليمون المُفضّلة لديها، شعرت بحكّةٍ في ساقها، وعندما نظرت إلى الأسفل، رأت قطراتٍ من الدم تتساقط على الأرض. عندها فقط أدركت إحساس الدم الذي يغمر ساقها.
ابتلعت الحلوى على عجلٍ وغادرت قاعة الطعام، مُتّجهةً بسرعةٍ إلى غرفتها.
وسط كل هذا، كانت لينوا قَلِقَةً من أن يكون تصرّفها السابق قد أزعج كايران، مُتمنّيةً ألّا يكون قد لاحظ وضعها بسبب دورتها الشهريّة.
“يا إلهي، سيدتي لينوا!”
كانت بيتيير، التي كانت واقفةً بالقرب من غرفة النوم، مذهولةً عندما رأت شحوب وجه لينوا وفستانها الأصفر المُلطَّخ بالدماء. لم يكن هناك حاجة لسماع القصة لفهم ما حدث. لقد وصلت لينوا بالكاد إلى هنا، تنزف بسبب دورتها الشهريّة، دون أن يكون معها أيُّ خادمةٍ أو خادم.
أسرعت بيتيير بمساعدتها للدخول إلى الغرفة، ثم ألبستها فستانًا داخليًّا داكن اللون، وفكّت ربطة المشد. بعد ذلك، مدّدتها على السرير ومسحت ساقيها جيّدًا بمنشفةٍ مُبلّلةٍ بالماء الدافئ. لا بد أن الأمر كان صعبًا مع كمية الدم الكبيرة التي سالت.
بدأت لينوا تشعر ببعض الراحة مع لمسات بيتيير الدافئة والإحساس اللطيف على بشرتها. بعدها، ربطت بيتيير منشفةً سوداء أسفلها وقالت.
“سأستدعي الطبيب الملكي وأُخبر الخادمات الأخريات، انتظري قليلًا.”
رغم أن لينوا كانت تتمنّى أن تبقى بيتيير بجانبها فترةً أطول، إلا أنها أدركت أن ما تفعله هو لصالحها. كانت بيتيير تعتني بها بكلّ ما أُوتيت من قوّة. على أي حال، ستصل الخادمات الأخريات قريبًا.
‘سأغمض عينيّ حتى يصل الطبيب الملكي أو الخادمات.’
استلقت لينوا على السرير وأغمضت عينيها، وفي تلك اللحظة، بينما كانت بيتيير تستعد للخروج من الغرفة.
طرق، طرق.
تردّدت أصوات طرقاتٍ على الباب، ما جعل لينوا تفتح عينيها وتجلس.
“من هناك؟”
“إنه الطّبيب الملكي. لقد أُمرتُ بفحص جلالة الملكة.”
اتّسعت عينا كُلٍّ من لينوا وبيتيير عند سماع صوت الطّبيب الملكي. لقد كانا على وشك استدعائه، لكنه عَلِمَ بالأمر وجاء بالفعل. فتحت بيتيير الباب، ودخل الطبيب حاملاً عِدّةً طبّيّةً مُختلفة.
كان الطّبيب الملكي، الذي عَرَفَتْهُ منذ عهد الملك الراحل، رجلاً طيّب القلب. كانت لينوا تربطها به علاقةٌ جيّدةٌ بطبيعتها، إذ كان يعتني بها دائمًا حتى لو كانت تعاني من مرضٍ طفيف.
لكن القلق الوحيد كان كونه طبيبًا رجلًا. كانت الفحوصات العاديّة لا بأس بها، لكن عندما يتعلّق الأمر بأمورٍ مثل الدورة الشهريّة، كما هو الحال اليوم، شعرَت بعدم الارتياح. لحسن الحظ، كانت بيتيير قد نظّفت الغرفة بسرعة، وبدّلت الفراش وملابسها.
قام الطّبيب الملكي بفحص نبضها وأجرى الكشف الطبّي عليها بينما كانت مستلقية. رغم أنها لم تكن مرتاحةً بلمساته، إلا أنها لم تُظهر ذلك.
ثم بدأ الطبيب بطرح الأسئلة على بيتيير بشأن نظام لينوا الغذائي مؤخرًا، وظروف معيشتها، ومستويات التوتّر التي تعاني منها. كانت بيتيير على درايةٍ جيّدةٍ بحياتها اليومية، لذا كان من السهل عليها الإجابة، لكن السؤال الأخير أربكها. لم تستطع العثور على الكلمات المناسبة، فتحدّثت لينوا بدلًا عنها.
“أعتقد أنني كنتُ أُجهِد نفسي قليلًا مؤخرًا.”
أجبرت لينوا نفسها على الابتسام. في الواقع، شعرت بأنها دفعت نفسها إلى ما هو أبعد من طاقتها مؤخرًا.
لم يمرَّ سوى شهرٌ ونصف منذ وفاة والدها. كان عليها التعامل مع التتويج ومجموعة من المسؤوليات دفعةً واحدة، ما جعلها تفقد شهيتها. في اليوم الذي توفّي فيه والدها، اضطرّت للوقوف دون راحةٍ رغم أنها كانت تعاني من دورتها الشهريّة. ولم تسقط دموعها إلا عندما نامت.
لكنها لم تستطع الكشف عن السبب الحقيقي لتوتّرها للطّبيب الملكي. فرغم كونه شخصًا جيدًا وقريبًا منها مثل والدها، إلا أنها أصبحت الآن الحاكمة.
ـــ الحاكم لا يُظهر الضعف أبدًا.
لقد تعلّمت ذلك خلال تدريبها كوارثةٍ للعرش.
تقبّل الطّبيب الملكي تفسيرها المُبهَم. كان مسؤولًا عن جميع أفراد العائلة المالكة، وبصفته نبيلًا مُقيمًا في القصر الملكي وصديقًا مقرّبًا للأسرة الحاكمة، كان من الضروري أن يكون مُلِمًّا بتقاليد العائلة وتاريخها.
“إذن، يُرجى الراحة. اخبريني في أي وقتٍ إذا شعرتِ بأي وعكة.”
وعندما همّ الطبيب بمغادرة الغرفة بعد انحناءةٍ خفيفة، نادته لينوا.
“كيف علمتَ بأعراضي وجئتَ إلى هنا؟”
سألت لينوا وهي تجلس على السرير. كانت تتساءل عن الأمر طوال الوقت، لكنها امتنعت عن سؤاله أثناء الفحص.
فهي لم تقابل أحدًا أثناء قدومها من قاعة الطعام إلى هنا… حسنًا، ليس تمامًا لم تقابل أحدًا. فقد صادفت خادمًا كان ينزل الدرج بينما كانت هي على وشك الصعود إلى الطابق الثاني.
كانت قد اختبأت بهدوءٍ خلف الدرج حتى اختفى الخادم، ثم صعدت إلى الطابق العلوي. لو كانت خادمةً بدلًا من خادم، لكانت قد طلبت المساعدة بدلًا من الاختباء.
عند التفكير في الأمر، كلّما كان كايران برفقتها، بدا وكأنه لا يوجد أحدٌ في الجوار. كان الأمر كذلك هذه المرّة أيضًا. لم يكن هناك أحدٌ في قاعة الطعام أو في الطابق الأول. على أي حال، لم تكن تهتم كثيرًا بذلك، إذ يكفي مجرّد إشارةٍ من يدها ليهرع الجميع إليها.
اليوم، كان الأمر في صالحها، لكن بسبب ما حدث، أصبح يشغل تفكيرها أكثر.
‘هل يمكن أن يكون ذلك بسبب تأثيره؟’
شعرت بالريبة لكنها لم تكن متأكّدة.
مع ذلك، لم تستطع سؤال كايران. رأت أنه من الأفضل دفن شكوكها بدلًا من مواجهته مباشرة.
كايران… بالنسبة إلى لينوا، كان التورّط معه هو العبء الأكبر.
على أي حال، لا بد أن شخصًا ما لاحظ بقع الدم المؤدية إلى غرفتها واستدعى الطبيب الملكي على وجه السرعة. كانت لينوا فضوليّةً بشأن هوية ذلك الشخص وأرادت مكافأته. حتى لو كان ذلك الخادم الذي رأته سابقًا، فقد أدرك وضعها سريعًا وأرسل الطبيب الملكي.
لكنها كانت تأمل في قرارة نفسها أن لا يكون كايران.
“لقد جاءت خادمةٌ راكضة وهي تقول إن جلالة الملكة في خطر.”
“كيف كان شكلها؟”
“همم… كان شعرها بنيًّا فاتحًا وعيناها بنفس اللون.”
أضاء وجه لينوا على الفور. كانت تعرف تمامًا من تكون. كانت معرفتها بأسماء وأشكال جميع من في القصر، حتى ولو كانوا مجرد خدم، أحد أسباب ولائهم لها.
الخادمة روزيتّا.
قبل بضعة أيام، كانت قد شاركَت الشاي مع لينوا. كان حدثًا غير مألوفٍ لخادمةٍ بسيطة، لكنه كان شائعًا بالنسبة إلى لينوا.
في أيّامها كأميرة، بينما كانت تتحدّث مع بيتيير في غرفتها، أصرّت ذات مرّةٍ على أن تنضم إليهما روزيتّا، التي كانت قد انتهت للتو من التنظيف، لشرب الشاي. قَبِلَتْ روزيتّا الشاي والحلوى بامتنان، ثم اختفت بسرعة، مما جعل لينوا تضحك مع بيتيير، قائلةً إنها تشبه السنجاب.
“يجب أن أطلب مقابلتها لشكرها لاحقًا. شكرًا لكَ على اليوم.”
ورغم أنها ما زالت تشعر بالضعف، نهضت لينوا وانحنت للطّبيب الملكي. وبعد مغادرته، التفتت إلى بيتيير فورًا.
“بيتيير، رجاءً احضري روزيتّا.”
“حاضر.”
أرادت أن تشكرها وتتحدّث معها بعد غيابٍ طويل.
بعد أن غادرت بيتيير، وجدت عدّة خادماتٍ ينتظرن خارج الغرفة. طلبت منهن تحضير الشاي وبعض الحلوى. ورغم أنها لم تتعافَ تمامًا بعد، إلا أنها بذلت جهدًا للجلوس إلى الطاولة.
كان قلبها يخفق ترقّبًا للحلوى التي ستُقدّم قريبًا. لم تكن قد تناولت العشاء جيّدًا، وخلال دورتها الشهريّة، كانت شهيتها للحلويات تزداد أكثر من أيّ وقتٍ آخر.