3
يبدو أنّه قد اختار أن يكون متفرّجًا بحتًا.
ولو لم تكن هي المكلَّفة بحمايته، لربما حاولت رِجينا أن تبتزَّه بشيءٍ من المال، إذ لم تشعر وكأنّها تؤدّي واجبًا مهنيًّا بقدر ما شعرت بأنّها قردٌ يُرغم على أداء الحركات لإمتاع الجمهور.
كانت تُلهِث بقوّةٍ وهي تُحدِّق بعينين متيقظتين في أولئك القتلة المقنَّعين.
لقد طرحت اثنين منهم أرضًا للتوّ، ولم يتبقَّ أمامها سوى أربعة. غير أنّ المشكلة أنّها لا تستطيع أن تُبقي أنظار الأربعة جميعًا عليها وحدها.
وفي غمرة انشغالها بخصمٍ آخر، انقضّ أحد القتلة على فالنتين.
“آه!”
لحسن الحظ، رصدت رِجينا حركته في الوقت المناسب، فاعترضت طريقه. غير أنّها دفعت ثمن ذلك خطأً صغيرًا بجرحٍ في كتفها.
قال أحدهم ساخرًا:
“أيتها المرتزقة الحمقاء، ما أزعجك!”
فأجابت من بين أسنانها، وقد انتزعت الخنجر من كتفها:
“شكرًا على الإطراء، أيها الأنذال الملعونون!”
خرجت الكلمات من فمها مفعمةً بخشونةٍ لم تَخْفَ حتى على فالنتين، الذي ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ صغيرة من وراءها، إذ بدا له أسلوبها هذا أكثر صدقًا من تكلّفها الهدوء في حديثها المعتاد.
قال القاتل:
“إنّ الخنجرَ مدهونٌ بالسمّ… سرعان ما ستفقدين وعيك.”
فردّت بثبات:
“إذًا، عليَّ أن أنهي الأمر قبل ذلك.”
لم تتراجع لحظةً عند سماعها كلمة “سمّ”، بل أمسكت بسيفها من جديد كأنّ الخوف لا يعرف إليها سبيلًا؛ كانت كوحشٍ لا يرتوي حتى يُجهز على جميع فرائسه.
راقبها فالنتين بإعجابٍ مكتوم وهي تبتر ساقَ القاتل الذي حاول ركلها، رغم أنّها تلقّت الضربة أولًا. لم يرَ من قبل مثل هذا الإصرار العجيب.
وفي لحظةٍ هدأت فيها المعركة، قال لها وهو يصدُّ إحدى الضربات:
“إن أرهقك القتال، فاتركيني واهربي. فصراحةً، من ذا الذي يُخاطر من أجل حياةِ أميرٍ مجنونٍ أو دوقٍ منحوس؟”
كان جادًّا فيما يقول، بل وربّما مازجه شيءٌ من الامتنان. غير أنّ رِجينا غرست سيفها في الأرض واتكأت عليه لتنهض مجددًا، وقالت بصوتٍ متهدّجٍ ولكن ثابت:
“في هذه اللحظة، أنت مهمٌّ بالنسبة لي، لأنّك هدفي في هذه المهمّة.”
قال وهو يصدّ إحدى الطعنات:
“ألأجل مهمّةٍ مدفوعةٍ تُلقين بنفسك إلى هذا الحدّ؟ بإمكانك أن تختاري عملًا آخر.”
لكنّها لم تجبه. كان كلّ انتباهها منصبًّا على خصومها، فلم ترَ الابتسامة الخفيفة التي ارتسمت على وجه الأمير وهو يرمقها.
قالت وهي تبصق دمًا على الأرض:
“لو تخلّيتُ عن مهمّتي الآن، فسيُقال عن جميع المرتزقة إنّهم لا يؤتمنون. وأنا أكره ذلك… أكثر من كرهي للموت ذاته.”
ولدت رِجينا ابنةً لمرتزقٍ، ودخلت هذا الطريق كما يدخل المرء قَدَرَه. كانت تحتقر نظرةَ النبلاء إلى أمثالها كأدواتٍ زهيدة الثمن. ولهذا أرادت أن تُثبت أنّ المرتزق يستطيع أن يكون ذا شرفٍ وكرامة، وإن كلفها ذلك جسدها وروحها.
صرخ أحد القتلة وقد جُنّ جنونه:
“أيتها اللعينة العنيدة!”
رفعت سيفها مرّة أخرى، وقد اعترف فالنتين في قرارة نفسه أنّ هذه المرأة العامة تمتلك من الكبرياء والعزم ما يعلو على كثيرٍ من أهل القصور. كانت روحها أشرف من دمائهم.
‘عجيبة… حقًّا عجيبة.’
وفيما كان يُدير معصمه بخفةٍ لتهيئة هجومه، كانت قد أجهزت على أحد القتلة الآخرين، وبترت ذراع آخر.
لكنّ السمَّ بدأ يسري في عروقها، فارتجف كتفها ارتجافًا خفيفًا، وغامت رؤيتها شيئًا فشيئًا حتى لم تستطع تفادي لكمةٍ مباشرة.
‘لا… إنّ بصري…!’
وسقطت أرضًا.
قال أحد القتلة وهو يلهث:
“لن أقتلك الآن، أيتها الكلبة. سأقتادك حيّةً، لتدفعِي ثمنَ قتلاك وثمنَ ذراعي هذه بعارك وخزيك.”
‘لا، لا تغمضي عينيك…!’ حاولت أن تُقاوم الظلام، لكنّ جسدها كان قد خذلها. آخر ما تمتمت به قبل أن تغيب وعيها كان شتيمةً مبحوحةً غارقةً بالغضب.
قال أحدهم ضاحكًا:
“ها هي أخيرًا تسقط. كم من رفاقنا قتلت هذه العاهرة؟”
فأجابه آخر:
“فلننتهِ من الهدف بسرعة، خسرنا كثيرًا بالفعل.”
لكنّ ثالثهم عقّب بتردّد:
“تَمهّلوا… أليست هذه رِجينا لوفمان؟ إن قتلناها بهذه الطريقة، فسيُطاردنا نقابةُ المرتزقة «بيرسونا» بأنفسهم. بل وقد يتحرّك جالِن لوفمان أيضًا.”
فقال الأول باستهزاء:
“جالِن لوفمان؟ ذلك النمرُ منزوع الأنياب؟ دعه يأتِ إن استطاع.”
“كفى جدالًا، لنُنْهِ الأمر قبل أن يثور هذا الأمير المجنون مجددًا!”
تحوّلت أنظار الثلاثة إلى فالنتين، الذي كان جالسًا متّسخ الثياب، مُنهك الجسد. بدا أنّ قتله لن يتطلّب جهدًا يُذكر.
سأله أحدهم بسخرية:
“أتظنّ أنّ نقابة بيرسونا عظيمة إلى هذا الحدّ؟”
فأجاب فالنتين بهدوءٍ غريب:
“هل حقًّا أنا الأميرُ المجنون؟ لأنّكم لا تُدركون ما تفعلون.”
وبينما يقتربون منه بخُطا واثقة، راح هو بدوره يقترب منهم… حتى لم يفصل بينهم سوى خطوةٍ واحدة. عندها فقط تلاشت ابتساماتهم، وحلّ مكانها الذهول والرعب.
“لماذا تمشي…؟ كَكَه!”
قبض على عنق أحدهم ورفعه عن الأرض كأنّه دمية. أدرك الباقون الخطرَ فانقضّوا إلى الخلف على عجل.
صرخ أحدهم:
“قالوا إنّه أعرج! وإنّ عقله مريض!”
ابتسم آخر بمرارةٍ وقال:
“مجنونٌ هو، نعم… لكنّ الجنونَ أنواع.”
في أذنه كان لا يزال صدى أنفاس أمّه الجائعة الباردة يتردّد، وصوتُها وهي توصيه أن يلعق قطرات الندى من خشب الجدران ليعيش.
تظاهر بالجنون لينجو، وها هو الآن يتظاهر بالجنون ليقتل. أجل، هو مجنونٌ حقًّا.
غير أنّه لم يكن من النوع الذي يسرد مآسيه على من سيمزّق حناجرهم بعد لحظات.
رمى الرجل الذي رفعه أرضًا بعنفٍ، ثم التقط سيفَ رِجينا الذي كانت لا تزال تقبض عليه بين أصابعها المتشنّجة.
وفي لحظةٍ واحدة، أنهى فالنتين حياةَ من تبقّى منهم. لم يَستغرق ذلك أكثر من الوقت الذي تستغرقه ورقةٌ لتسقط من غصنٍ إلى تراب.
ركع بجانب أحدهم الذي كان لا يزال يحتضر وسأله بنبرةٍ هادئةٍ مميتة:
“أين الترياق؟”
تلعثم القاتل، نصفه في الموت ونصفه في الهلع:
“لِمَ تُخفي قوّتَك تلك؟!”
“في البداية… لأعيش. أمّا الآن، فلأقتل. لكنّي لم أسألك عن هذا. الترياق.”
صرخ الرجل من الألم حين داس الأميرُ كتفه الجريح.
قال وهو يلهث:
“إن أخبرتك… أتتركني حيًّا؟”
“لا، لكنّي سأُرسلُك سريعًا.”
ضحك القاتل بمرارةٍ وهو يهزّ رأسه، وقد أيقن أنّ الرحمة لا تسكن تلك العينين البنفسجيّتين التي تلتمع بجنونٍ بارد. ثم تمتم بصوتٍ واهن:
“عليك أن تسقيها دمًا نقيًّا… وفي جيبي الداخلي زجاجةُ دواءٍ أزرق.”
أنهى فالنتين عذابه بحدٍّ نظيفٍ من السيف، كما لو كافأه على صدقه، ثم فتّش جيبه وأخرج الزجاجة.
اقترب من رِجينا التي كانت غارقةً في شبه غيبوبة، وفكّر لحظة:
هل أُنقذها… أم أدعها تموت؟
انزلقت نظراته البنفسجيّة على جسدها المرهق حتى استقرّت على كتفها النازف. أزال سدادة الزجاجة وسكب الدواء بين شفتيها، ثم وضع كفَّه على فمها وقال بهدوء:
“ابتلعي.”
ابتلعت السائل غريزيًّا، ثم أخذ الأميرُ سيفَه وشقّ ساعدَه بجرحٍ طويلٍ، فانسابت قطراتٌ من دمه الداكن وسقطت في فمها. حدّق فيها بلا تعبير، ثم ضغط على شفتيها مجددًا حتى ابتلعت كلَّ شيء.
‘يبدو أنّ طعم دمي ليس مُستساغًا.’
ابتسم بخفّةٍ وهو يراها تتقلّص ملامح وجهها من انقباضٍ لا إرادي. مرّر إصبعه على أثر الدم عند فمها وتذوّقه بفضول، ثم قطّب حاجبيه واشمأزّ من الطعم المعدنيّ المرّ.
“سيدي الدوق!”
اندفع توماس صارخًا وقد وصل على جواده، فترجّل مسرعًا واستلّ سيفه.
ابتسم فالنتين ازدراءً، ثم ناولَه سيف رِجينا بعدما أدخل أصابعها واحدةً فواحدة في قبضته كأنّه يُعيد إليها ملكيّتَه. كانت يدها خشنةً من أثر التدريب، لكنّ أصابعه الطويلة البيضاء جعلت المشهد يبدو أنيقًا.
سأل توماس بارتباك:
“هل… أنتم من فعل هذا يا سيدي؟ هل تأكّدتم من القضاء عليهم؟”
قال ببرودٍ ساخر:
“نعم، ولكن ليُكتب في التقارير أنّ السير توماس هو من تخلّص من هؤلاء القتلة، لا ذلك الأمير الأعرج.”
ثم تمدّد على الأرض بجوار رِجينا، ينظر إليها عن قربٍ للمرة الأولى. كانت لها رموشٌ طويلة، وأنفٌ شامخ، وشفتان ممتلئتان. أمّا لون عينيها، فقد كان – كما تذكّر – أزرقَ صافياً كبحيرةٍ في صباحٍ شتوي.
قال توماس مذهولًا:
“هل لي أن أسأل عمّا تفعلون بالضبط؟”
ابتسم فالنتين بخبثٍ وقال:
“ألا ترى؟ أُقلّد هيئة رجلٍ أغمي عليه خوفًا من القتلة.”
وقف توماس حائرًا، يحاول أن يجد في الموقف منطقًا، لكنّه أدرك عبث المحاولة.
سأل أخيرًا:
“هل الفتاة… ماتت؟”
“لا، إنّها فقدت الوعي فحسب.”
أغلق فالنتين عينيه وأرهف سمعه إلى اهتزاز الأرض تحت وقع حوافر الخيل؛ كان يعرف أنّ التعزيزات قد وصلت. سمع خلفه تنهيدةَ توماس، فتجاهلها، وهمس باسمٍ واحدٍ قبل أن ينسدل عليه صمتُ الراحة:
“رِجينا لوفمان…”
امرأةٌ كهذه، كان يعلم يقينًا أنّه سيحتاج إليها يومًا ما.
Chapters
Comments
- 3 - كيف يحمي المرتزقُ من كلف بحراسته 2025-11-05
- 2 - كيف يحمي المرتزق من كُلّف بحراسته 2025-11-05
- 1 - كيف يحمي المرتزقُ من كلف بحراسته 2025-11-05
التعليقات لهذا الفصل " 3"