1
المرتزق؛ ذاك الذي لم يُتوَّج بلقب فارس، غير أنّه يملك من البأس والبراعة ما يضاهي الفرسان. لا يقدّس الشرف كما يفعلون، فإن قُدِّم له المال، صنع كلّ شيء. ولهذا كان منبوذًا بين الناس.
“أتعلمين، لا أظن أنّ فرسان القصر جميعهم يحيون حياة مبهرة. الجميع يقول إنّ الأمير المغادر اليوم ما هو إلا أمير منبوذ. أترى لهذا السبب يسود هذا الصمت الثقيل؟”
“اصمتي، معظم فرسان القصر من النبلاء، وحتى إن كانوا من العوام، فلا يُعدّون عوامًا مثلنا.”
عند توبيخ ريجينا، سكتت روزي، لكنها لم تستطع كبح عينيها عن التحديق في العربة التي يستقلّها الدوق.
ريجينا، التي سلكت درب المرتزقة طيلة حياتها، وهي ابنة “غيلان روفمان”، الملقب بملك المرتزقة، تختلف كلّيًا عن روزي التي لا تزال مبتدئة، مندهشة من كل شيء تراه.
كانت روزي تبتهج كجرو صغير طوال مدة المهمة، حتى قرّرت ريجينا أنّها ستلقّنها درسًا صارمًا فور عودتهما إلى “بيرسونا”.
فالمرء، مهما استغرب الموقف، لا يجوز له أن يتهاون بهذا الشكل.
‘ولكن، كيف لرجل مصاب بجنون أن يصبح حاكمًا؟ بل ويستبدلون الحرس الشخصي للأمير بالمرتزقة؟!’
اليوم، يغادر الأمير المجنون القصر متوجهًا إلى “فالمين”.
لقد أُلقي على عاتقه لقب دوق “يوليوس”، ليُصبح حارسًا لأرض قاحلة حُرمت من نِعَم الآلهة، يُشبه كلبًا مكلّفًا بحماية الخراب. تقول الإشاعات إنه كمن أصيب بسُعار الكلاب، لا أكثر ولا أقل.
‘هل هو أمير منبوذ فعلًا؟’
“بيرسونا”، نقابة المرتزقة التي لا ترفض أي مهمة، مهما بلغت صعوبتها أو تعقيدها، ما دام الأجر كافيًا، ذاع صيتها بالقوة الساحقة التي تفتقر للرحمة. وقد تميزوا ليس فقط في الحراسة، بل حتى في إنجاز أكثر المهام تعقيدًا.
ومع ذلك، فحتى ريجينا، القائدة الفعلية للنقابة، لم تتلقّ من قبل مهمة لحراسة فرد من العائلة الإمبراطورية. لا أحد سوى النبلاء أو كبار التجار طلبوا خدماتها من قبل. فما بالك أن تكون المهمة إلى جانب فرسان القصر المتأنقين بردائهم المطرّز على الكتف الأيمن؟
فجأة، راود ريجينا خاطرٌ ساخر، بأنّ تلك العربة الفخمة تبدو كأنها وحيدة.
“جميعكم، تركيز! راقبوا المقدّمة!”
صرخ أحد فرسان القصر حين تشتّت صفّ الفرسان. كانت صرخاته المتكررة تُضفي مزيدًا من التوتر على هذا الجوّ المكفهر.
‘في ظروفٍ أخرى، لما قبلت بمثل هذه المهمة.’
لكن وضع النقابة المالي المتدهور أجبر ريجينا على قبول أي عملٍ يقع بين يديها.
وكان كلّ ذلك بسبب ذاك المعتوه المجهول الذي أفسد عليهم سلسلةً من المهام في الآونة الأخيرة، إحداها كانت الأغلى في تاريخهم. وزاد الطين بلة والدها الأرعن، الذي ترك لها حمولة هذه المؤسسة.
ريجينا، ابنة “غيلان” ملك المرتزقة، نشأت في كنفهم منذ مولدها.
منذ أن أمسكت بالسيف لأول مرة في سن العاشرة، وسّعت نفوذ نقابة “بيرسونا” وأعلت بنيانها، حتى غدت النقابة مرآةً لحياتها. ولهذا لم تبخل يومًا في أي مهمة أو تقاعست.
“هجوم مباغت!”
“ارفعوا السيوف! إنهم قتلة!”
“مرتزقة بيرسونا، استعدوا! دافعوا عن الهدف!”
صاحت ريجينا، فاستلّ أعضاء النقابة أسلحتهم. انبثق القتلة من خلف الأشجار، من حفرٍ خفية، كأنّهم خفافيش أو جرذان.
“غغخ!”
“الهدف أولًا! احموا العربة!”
صاحت ريجينا ثانية، بينما كانت تقتل أحد القتلة الذين تسللوا نحو العربة. فهرع بعض فرسان القصر لمساعدتها.
‘أي فرسان قصر هؤلاء؟ ما أبطأهم!’
ريجينا كانت تظنهم حرّاسًا مخلصين للنبيل داخل العربة… إلى أن سحبوا أسلحتهم وهاجموا العربة ذاتها.
“ابتعدي عن الطريق، أيتها المرتزقة!”
صرّ ريجينا على أسنانها وهي تصد رمح أحدهم. لو أنها وثقت بهم تمامًا، لاخترق رمحهم جدران العربة ومزّق جسد من فيها.
“خونة إذًا؟”
“هه، وهل يهمّ الآن؟ كلكم ستموتون.”
لهذا لا ينبغي قبول المهام المريبة. أرجأت ريجينا شعورها بالندم، وواجهت أولئك المغترين بابتسامة باردة.
“…أتراك متأكدًا من ذلك؟”
ردّت الطعنة وأفلتت من أمامه بخفة، غرست خنجرها في موضع قاتل، وسقط الرجل الضخم.
تحوّلت أنظار الخونة نحوها، بعد أن أسقطت ذلك الجبّار بضربة واحدة.
“ما الذي تظنونه عن نقابة بيرسونا؟ أنتم تسيئون لكرامتي.”
أشارت بذقنها نحو المعركة.
أفراد “بيرسونا” كانوا كالثيران الهائجة، يتقاتلون بضراوة. قد لا تكون مهارتهم دقيقة كالفرسان، ولكن وحشيتهم تفوق المقارنة.
“اللعنة، ارمِها! اقذف الحجارة السوداء!”
بقيادة أحد الخونة، رموا حجارة سوداء على العربة. ريجينا، بدافع الغريزة، أبعدت بعضها بسيفها، لكن القليل منها أصاب العربة.
ما كانت لتقدر على صدّ كل تلك المقذوفات وحدها، كمن يحاول تفادي قطرات المطر في عاصفة.
‘تبًا!’
دوّي!
اهتزّت الأرض بانفجار عنيف، وتحطّمت العربة.
“الأمير فالنتين!!”
“ريجينا!!”
ترددت صرخات الفرسان والمرتزقة وسط الغبار والدخان. غير أن الدخان والحرارة التهمت كل شيء دون أن تترك أثرًا.
متى كان ذلك؟ لعلّه اليوم الذي نجحت فيه ريجينا بأول مهمة، عندما احتضنها “غيلان” وعمه “ماوت”، يثنون عليها حتى تخلخل شعرها من شدة المدح.
كانت تلك الذكرى تتقدّم في ذهنها كلما ألمّ بها المرض. ربما لأنّها عاهدت نفسها آنذاك أن تحمي نقابة بيرسونا ومن فيها، مهما كلفها الأمر.
لذا، حينما اندلعت الحرب، وحين أصيب أفراد النقابة بسبب ذاك الهجوم المشؤوم من المعتدي المجهول، تألّمت بشدة.
وخاصةً أنها لم تنل منه ولو خدشًا واحدًا. لم تكن تنام من الغيظ.
كما هو الحال الآن.
“استفيقي الآن.”
عند أول لمسة تهزّها، ثم قطرة ماء سقطت على خدّها، فتحت ريجينا عينيها، فرأت رجلًا يحدّق بها.
قطرات الماء كانت تتساقط من شعره الأشقر المبتل فوق وجهها.
“آه…”
“تدحرجنا معًا من الجبل حتى سقطنا في الوادي، وأعتقد أن عظمة كتفك أصيبت بصدع.”
حين حاولت النهوض وقبضت على كتفها، حدّق بها الرجل بلا مبالاة.
حينها فقط، بدأت تتفحص ما حولها. بدا صوت الماء جارياً بقربهم، لعلّ هذا الرجل هو من سحبها إلى تحت هذه الشجرة.
“هل أنقذتني من النهر؟ شكرًا جزيلًا.”
“أنتِ من أمسكتِ بي ولم تتركني. بالكاد تمكنت من الزحف خارج قاع النهر.”
من يكون هذا الرجل؟
تأملت ريجينا وجهه، وهو يزيح الماء عن شعره بيده الخشنة.
قامة طويلة، وشعر أشقر بلاتيني يشعّ بريقًا، شفاه حمراء، أنف مستقيم، وعينان غائرتان تجسّدان مزيجًا صنعته يد الخالق بجلالٍ وفخر.
“…هل أنتم الدوق يوليوس؟”
وهي تتأمّله، عادت إليها ذاكرتها التي غادرتها من هول الصدمة.
القتلة رموا المتفجرات نحو العربة، انفجارات عدّة حجبت الرؤية، فدخلت العربة واحتضنت الشخص الذي وُكّلت بحراسته.
كان لديها درعٌ يحميها من أثر الانفجار، لذا صمدت، قبل أن يطيحها الانفجار من فوق الجرف.
“أجل، أيتها المرتزقة.”
المرتزقة الأنثى. لم تكن تحبّ هذا اللقب. غالبًا ما يُقال بسخرية، وكأنّ في الأمر عارًا لأنها امرأة تمتهن هذا العمل.
رغم إحساسها بعداوةٍ غامضة في نبرة صوته، فهو لا يزال من وُكّلت بحمايته. رفعت جسدها ببطء، ونظرت حولها.
“إذا ما تتبعنا النهر، يمكننا اللحاق برفاقي. فلنبدأ بالتحرك.”
“بهذا الكتف؟”
“آه، لم تُكسر، فقط خُلعت.”
“سيؤلمك كلما تحرّكتِ.”
“عليّ إعادتها لمكانها.”
مزّقت قطعة من ردائها، وعضّتها، ثم أعادت كتفها إلى موضعه على طريقة المرتزقة القاسية، دون أن تصدر صوتًا يثير الوحوش أو القتلة.
“آه…”
سقطت دموع الألم على جبينها، لكنها تماسكت. حتى تجتمع برفاقها، عليها أن تتحمّل.
‘عيناه… ذات لون مميز.’
نظرت إلى فالنتين، الذي كان يرمقها بعينيه البنفسجيتين كالجمشت.
“هل تشعرون بالغثيان؟”
الأمير المجنون. ريجينا لم تكن تريد استفزازه. وإن بدا الآن طبيعيًا، فقد ينفجر في أي لحظة.
طال صمته وهو يتأمّلها، ثم هزّ رأسه نافيًا. شعره بدأ يجفّ، وخصلاته الثقيلة انسدلت على جبينه.
“كلا، ليس كثيرًا. بل العكس، يبدو أنك تتساءلين: متى سأفقد صوابي؟ أو لعلّي مجنون فعلًا.”
“…أنا الوحيدة المكلّفة بحراستكم الآن، لذلك لا تغضبوا، كان ذلك بدافع الحرص والمعرفة.”
وقف فالنتين، وأخرج من جيبه قارورة زجاجية فارغة، وحرّكها أمامها.
“تناولت دوائي، لن أفقد عقلي قريبًا.”
دواء؟ إذًا حالته يمكن السيطرة عليها!
ريجينا بدأت بالمشي. البقاء وانتظار الإنقاذ أسوأ من أن تتحرك عبر النهر. لا أحد يضمن أن القتلة لن يهاجموهم ثانية.
‘عليّ اللحاق بالآخرين قبل أن يفوت الأوان.’
لم تمضِ سوى لحظات حتى لاحظت خطواته الغريبة خلفها. كانت قد نسيت أنه يعرج بقدمه اليسرى.
كان يستند إلى جذع شجرة، ثم قال:
“تمهّلي قليلًا.”
أحست بالإحراج، فبحثت عن غصن يصلح كعصا، لكن لا غصن يستطيع حمل جسده القوي الطويل.
‘أتذكّر حين احتضنته… كان جسده صلبًا. رغم العرج، لا يبدو مهملاً لصحّته. لا بدّ أنّه عانى.’
مدّت إليه سيفها وهي لا تزال تمسك بغمده. بحوزتها خنجر صغير يكفي للدفاع المؤقت.
“تفضل.”
“تعطيني سيفك؟”
“لكي تتكئ عليه.”
“وإن جُننتُ، وأخذت ألوّح به؟ الدواء ليس سحرًا.”
“عندها سأتصرّف. ولا أظنّكم ستعتبرون الأمر إساءة لهيبة العائلة المالكة. بعد أن تدحرجنا معًا من الجرف، وسقطنا في النهر.”
ناولته السيف دون تردد، وعادت لتُكمل الطريق، وقد بدأت تُبطئ خطواتها دون أن تدري.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 1 - 1- كيف يحمي المرتزق من كُلّف بحراسته 1 2025-06-04
التعليقات لهذا الفصل " 1"