38
لم يكن الحادث بحد ذاته مفاجئًا على الإطلاق. فالعالم السفلي، منذ أزمنة، كان مزبلة تجتمع فيها النفايات البشرية، لكنه، بمرور الوقت، اكتسب طابعًا فريدًا تحول إلى جاذبية غريبة، فصار يستقطب الغرباء من العالم الخارجي ليترددوا في أزقته.
ومع ذلك، ظل في جوهره منطقة جريمة حرة، لا قانون يحكمها سوى الفوضى. النبلاء الذين كانوا يترددون إليه، بحثًا عن إثارة المخاطرة، كانوا على دراية تامة بهذا الواقع.
يتظاهرون بالشجاعة والجرأة، لكن كلماتهم كانت أقوى من أفعالهم. فما كان منهم إلا أن يقتحموا هذا العالم محاطين بأمهر المرتزقة والفرسان لحمايتهم، إذ كانوا يعلمون أن أي خطأ قد يكلفهم حياتهم.
هنا، في هذا العالم، لم يكن لقب النبيل يعني شيئًا، ولم يكن أحد ليهتم به.
وفي مثل هذا المكان، كان يتجول طفل صغير وصبي دون أي حماية، في مشهد يفيض بالجرأة حتى بدا كمن يطلب الموت بيده.
ربما، لو حالفهما الحظ، كانا لينجوان بالخروج دون ضجيج، فالجميع هنا منشغلون بأنفسهم، لا يلتفتون للغرباء.
لكن، على الرغم من أرديتهما المغطاة بالقلنسوات التي تكاد تخفيهما من الرأس إلى القدمين، كان للتوأمين ولتشيشا حضور غامض يجذب الأنظار دون قصد. وهكذا، أصبحوا هدفًا لصيادي العبيد.
“يا لها من متعة!”، صاح أحدهم حين انكشف وجه كارها بعد أن انزلقت قلنسوته وهو يلوح بسيفه.
وجه الصبي النقي أشعل حماس صيادي العبيد أكثر. “انظروا إلى هذا الوجه!”، صاح آخر، بينما أردف ثالث بدهشة: “من أين أتى مثل هذا؟”.
ضحكوا بصخب وهم يتسابقون في تقدير قيمته كسلعة، كأن السوق قد فتح أبوابه أمامهم. نظرت تشيشا إليهم بعينين خاملتين، وفكرت في سرها: “هؤلاء من الدرجة الدنيا”.
كان صيادو العبيد البشريين هم الأقل شأنًا بين أقرانهم، بينما كان الأكثر شراسة وسمعة سيئة هم الذين يطاردون الكائنات الخيالية كالجنيات وأشباه البشر.
كان لهؤلاء دور كبير في دفع تلك الكائنات إلى حافة الانقراض. الإمبراطورية المقدسة لم تكن ترحب بهذه الكائنات، لكنها، كونها جزءًا من الطبيعة، كانت تتركها وشأنها.
أما الجنية ريتشيسيا، فكانت استثناءً، إذ أُصدر أمر بإعدامها لامتلاكها قوى منحرفة.
كلما ندر وجود الكائنات الخيالية، ارتفعت قيمتها حتى صارت لا تُقدَّر بثمن. ولهذا، تحول صيادوها إلى مطاردة النبلاء المتدهورين أو أفراد العائلات الملكية الضعيفة في الممالك الصغيرة.
“ثم ظهرت أنا، فانقلبت أعينهم جميعًا”، تذكرت تشيشا. جنية صغيرة جاهلة أظهرت قوتها في دار الأيتام، كانت بالنسبة لهم فريسة لا تُضاهى.
غامت عيناها وهي تستعيد تلك الذكرى، يوم اقتحم الصيادون دار الأيتام، مزيجًا من النيران والصراخ، لكنها سرعان ما دفنت تلك الصور في أعماقها مجددًا.
على أي حال، صيادو العبيد من هذه الطبقة الدنيا كانوا خصومًا يسيرين. كارها وحده كان كفيلًا بالتغلب عليهم دون عناء.
“لا خوف في قلوبهم…”، تمتم إيشويل بهدوء، مضيفًا بنبرة متضجرة: “خرجت مع أختي في نزهة، فإذا بالقذارة تعكر صفوها”.
لكنه، حين التقت عيناه بعيني تشيشا التي تنظر إليه، ابتسم فجأة كأن شيئًا لم يكن: “أختي، هل أغطي عينيكِ قليلًا؟”. رفع يدها برفق لتغطي عينيها، ثم أمر كارها: “لا تدع الدم يرذاذني”.
“حاضر”، أجاب كارها بطاعة.
امتثلت تشيشا لأمر إيشويل، لكنها لم تغطِ عينيها بإحكام، بل تركت فجوة صغيرة بين أصابعها لتراقب. وفجأة، انبثق الصيادون من كل زقاق، محاصرين الطريق من كل جانب لقطع منافذ الهروب.
وقف كارها صامتًا، يدير سيفه نصف دورة ببطء، ممسكًا بسيفين قصيرين في وضعية تقاطع، محدقًا أمامه بهدوء.
حين التقت عيناه الحمراوان الباردتان بأعين الصيادين، تراجعوا غريزيًا، كأن شيئًا ما أوقف اندفاعهم. وبينما كانوا يترددون، زجر رئيسهم: “ما الذي تفعلونه أمام طفل صغير؟!”. عندها انطلقوا نحوه كالسيل.
ابتسم كارها ابتسامة خفيفة وهو يرى الحشود تقترب، ثم قفز بجسده الصغير بسرعة خاطفة. كانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها تشيشا كارها يقاتل بجدية. لم يكن أسلوبه يشبه تقنيات الفرسان النظامية، بل بدا كوحش يتقلب في فوضى المعركة، يلوح بسيفيه القصيرين بسرعة وخفة تجعل تتبعهما بالعين مستحيلًا.
كأنه مرتزقة مخضرم قضى سنين في الحروب. فتنت تشيشا بأدائه الرشيق والمذهل، غير قادرة على رفع عينيها عنه.
“هذا… هذا الوغد!”،
“يا له من وحش!”، صرخ الصيادون مذهولين بمهارته غير المتوقعة. أدركوا أنه ليس فريسة سهلة، فاستلوا أسلحتهم جميعًا.
“اتركوه حيًّا فقط!”،
“اكسروا سيوفه أولًا!”، هتفوا وهم يندفعون بيأس. في تلك اللحظة، رن صوت واضح وغريب في ضجيج الليل: “كفى”. لم يكن عاليًا، لكنه اخترق الأذنين كالسحر.
ظهر رجل من العدم، هبط إلى الأرض برفق، شعره الرمادي يرفرف مع خيوط طويلة تتدلى من ردائه، وعيناه مغطاة بقماش.
“المزيد من الاضطراب ليس ما يريده السيد”، قال بهدوء. كان جيهان، أحد أتباع سيد العالم السفلي.
ما إن رأوه حتى تحول الصيادون، الذين كانوا كالذئاب الجائعة، إلى قطيع خائف. تبادلوا النظرات المرتبكة، ثم تقدم زعيمهم مسرعًا، يفرك يديه بخضوع: “يا إلهي! لم نكن نعلم أن السيد جيهان سيزورنا. لقد بالغنا في طمعنا قليلًا”.
كان جسده الضخم ينحني أمام جيهان النحيل، لكنه حاول استطلاع الأمر: “هل السيد قريب من هنا؟ إن كنا قد أزعجناه، فكيف نسدد الخطأ؟”.
كان تساؤله منطقيًا، فالسيد، الحافظ لأدنى حدود النظام، نادرًا ما يتدخل في شجارات الشوارع اليومية.
أن يرسل جيهان، أحد أعلى مرؤوسيه، لإيقاف هذا الهرج كان أمرًا غير معتاد، ما لم يكن السيد نفسه قريبًا ومنزعجًا من الضوضاء.
لكن جيهان لم يجب، بل اكتفى بالنظر إليه بصمت حتى بدأ الزعيم يتراجع متعلثمًا: “لم أقصد السوء، فقط تساءلت إن كان السيد هنا لنحييه… رجاءً، نقل تحياتنا له”
ثم انسحب مع رجاله بسرعة، تاركًا الشارع يغرق في سكون مفاجئ. بقي جيهان والتوأمان وتشيشا وحدهم. أدار جيهان عينيه المغطاتين نحو تشيشا أولًا، محدقًا فيها وهي ملفوفة في ردائها، فتظاهرت بالجهل. ثم نظر إلى التوأمين، وهنا بدأت الغرابة.
كان من المتوقع أن يحتفظ كارها بحذره تجاه الغريب، لكنه أعاد سيفيه إلى غمدهما. وجيهان، الذي كان جامدًا مع الصيادين، خفف من نبرته قليلًا: “ألم أقل إن الاضطراب سيسبب المشاكل؟”.
“آسف”، رد كارها بطاعة، بينما قاطعه إيشويل بحدة: “هم من بدأوا”.
“كان يجب ألا تأتوا أصلًا”، رد جيهان.
سكت إيشويل، متجهمًا، بينما اتسعت عينا تشيشا بدهشة وهي تراقب الحوار. “ما هذا؟… هل يعرفون بعضهم؟!”، فكرت، وهي تنظر بينهم في حيرة.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 38"