بما أنها قد جُرَّت إلى مملكة الجنيات، فقد قررت أن تستغل الفرصة لإنجاز كل ما يمكن إنجازه هناك. كانت تنوي إتمام مهامها بسرعة، وطرح الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات، وإذا كان هناك ما يمكنها فعله لمساعدة الجنيات، فستتولى ذلك أيضًا.
ثم، كان هدفها العودة إلى موطنها في أقرب وقت ممكن. كانت تقدر أن هذه العملية برمتها لن تستغرق أكثر من شهر على أقصى تقدير. بل، لنكن صرحاء، كانت تأمل في إنهاء كل شيء خلال أسبوع واحد فقط. ففي النهاية، كان الجميع ينتظرونها بلهفة وشوق.
حتى أن هيلرون قد تبعها بنفسه إلى مملكة الجنيات!
كلما تذكرت أولئك الذين ينتظرونها في الواقع بقلق وترقب، شعرت قلبها يضطرب وتسارعت نبضاتها. لقد أقسمت مرارًا وتكرارًا أنها ستعود بأسرع ما يمكن. لكن…
“سنة واحدة…”
تمتمت تشيشا بصوت مملوء بالحسرة. غرق صوتها الخافت وسط ضجيج السوق الصاخب، وتلاشى سريعًا. تداعت في ذهنها سلسلة من التصورات المقلقة، تتكشف واحدًا تلو الآخر.
هيلرون كان مصدر قلق كبير، لكن الرجال في عائلة باسيليان، وعلى رأسهم كييرن، كانوا هم الأكثر إثارة للقلق.
كانوا، رغم مظهرهم القوي، يمتلكون قلوبًا رقيقة. وكييرن، على وجه الخصوص، كان هشًا عاطفيًا، معتمدًا عليها بشكل كبير. تذكرت كلماته الأخيرة التي قالها في لحظة الوداع:
“…كذبة.”
“لن تعودي، أليس كذلك؟”
كانت عيناه الحمراوان، المفعمتان بالألم، لا تزال محفورة في ذاكرتها بوضوح. لقد أصر على استخدام السحر الأسود في قلب الإمبراطورية المقدسة، لكنها أقنعته بالكاد بالتراجع، موعدةً إياه مرات ومرات بأنها ستعود.
لكن الآن، ها هي قد اختفت لمدة عام كامل. كان الأمر كما لو أن الظلام قد ابتلع عينيها.
قررت على الفور أن عليها العودة إلى المنزل، فاستجمعت قوتها بسرعة.
“…مهلاً؟”
لكن شيئًا ما كان غريبًا. لم تشعر إلا بجزء ضئيل من قوتها المعتادة، كأنما تبخرت قوتها التي كانت دومًا تفيض وتتدفق، تاركةً إياها ببقايا بالكاد تكفي. بهذا المستوى، كان السفر لمسافات طويلة مستحيلاً.
فجأة، تذكرت مملكة الجنيات التي اختفت منها كل الزهور. هل يمكن أن يكون هذا مرتبطًا بضعف قوتها؟
“على أي حال، يبدو أنني لا أستطيع سوى استخدام بعض الحيل البسيطة الآن.”
ها هي في مكان غريب، تائهة كالأيتام، وبدون قوتها الكاملة. شعرت بالحيرة للحظة، لكنها سرعان ما هزت رأسها نافضةً اليأس، وأحكمت قبضتها الصغيرة.
“لنأخذ الأمور خطوة بخطوة.”
وقفت في وسط السوق، ممسكةً بدمية أرنب في يدها، وعلى وجهها تعبير جاد وصلب كمن يتخذ قرارًا مصيريًا.
كان مظهرها الطفولي يبدو مضحكًا بعض الشيء، لكن لا أحد استطاع رؤيتها، إذ كانت تخفي وجودها باستخدام الزهور. هكذا، تمكنت تشيشا من الحفاظ على جديتها وهيبتها الداخلية.
“لنبدأ بمعرفة أين أنا.”
هزت دمية الأرنب بحركة خفيفة وهي تتقدم بخطوات واثقة. من الطقس المشمس الحار ولهجة الناس، بدا أنها في الجزء الجنوبي من القارة. مرت عبر سوق يعج بالأسماك الضخمة التي تتحرك بنشاط، حتى وصلت إلى الساحة المركزية.
في الساحة، كان علم يرفرف بقوة على سارية، مزين بنمط المرساة والحبال والأسماك.
“مملكة سكايا؟”
كيف انتهى بها المطاف في مملكة سكايا، بعيدًا عن الإمبراطورية المقدسة هيلدرد في وسط القارة؟
ما إن أدركت أنها في سكايا، حتى تبادرت إلى ذهنها أران على الفور. الأميرة الصغيرة ذات العينين الذهبيتين، أران سكايا، التي كانت في الخامسة من عمرها، بالكاد مؤهلة للمشاركة في تجمع الأطفال المقدسين. بعد مرور عام، من المحتمل أن تكون قد نضجت لتصبح بحجم تشيشا تقريبًا.
“…وكذلك ريميل.”
تساءلت عن مصير الفتى الذي سلمها التاج في اللحظات الأخيرة. كل ما كانت تأمله هو ألا يكون كييرن قد أزعجه كثيرًا.
مرَّت بجانب تمثال ضخم على شكل مرساة في وسط الساحة، محاط باثني عشر تمثالًا صغيرًا وكبيرًا للأسماك، ثم اقتربت من فتى يبيع الصحف. لعدم امتلاكها المال، لم تستطع شراء صحيفة، لكنها، مستترةً بخفاء، ألقت نظرة على العنوان الرئيسي.
العنوان البارز كان أول ما لفت انتباهها:
**[صدمة! سلسلة من الوشايات الداخلية!]**
وكلما تقدمت في قراءة المقال، اتسعت عيناها أكثر:
[…تتجه الأوضاع في الإمبراطورية المقدسة هيلدرد نحو الظلام يومًا بعد يوم. وفي آخر التطورات، ظهر مُبلّغ داخلي جديد كشف أن الملك المقدس سيانور قد استولى على جزء من التبرعات التي وصلت إلى هيلدرد…]
وشايات داخلية في الإمبراطورية المقدسة؟ هيلدرد، تلك الجماعة المحافظة بشدة، التي تعتبر الولاء للحاكم وللملك المقدس الذي يتلقى إرادة الإله مباشرة بمثابة هوس.
حتى لو وُجدت فضائح، كانوا يبررونها بأنها إرادة الحاكم ويتجاوزونها. لكنهم الآن يتهمون الملك المقدس نفسه؟ كان ذلك أمرًا لا يُصدق.
بينما كانت تسرع لقراءة بقية المقال، سمعت صوتًا خشنًا:
“ابتعدوا! ابتعدوا عن الطريق!”
صوت الصراخ تخلله صوت سوط يضرب حصانًا. عربة ضخمة كانت تعبر الساحة المخصصة للمشاة فقط، مُحدثةً ضجيجًا. صرخ الناس وهم يتجنبون العربة بالكاد.
كانت تشيشا على وشك الابتعاد إلى زاوية آمنة عندما رأت من خلال نافذة العربة الشخص الجالس بداخلها.
“…!”
كان رجلاً ذا وجه متصلب، وجهٌ مألوف. كان ساميد، خادم أران. لقد رأته عدة مرات يتبع أران في الإمبراطورية المقدسة.
“لم يبدُ شخصًا متعجرفًا لدرجة أن يعبر ساحة المشاة بعربة!”
شعرت تشيشا بالحيرة للحظة، لكنها سرعان ما أدركت أن هذه فرصة ذهبية. كانت هذه زيارتها الأولى لمملكة سكايا، ولم تترك أي علامة على أران لتتبعها.
لم تكن قوتها كافية لتتبع أران بتحويل نفسها إلى فراشة. وفي خضم هذه الصعوبات، ظهرت وسيلة للوصول إلى أران بسهولة أمام عينيها.
نزعت تشيشا الزهرة التي كانت تخفي بها وجودها عن جبينها، ثم قفزت أمام العربة بحركة سريعة.
“آه!”
توقف السائق فجأة بسبب الطفلة التي ظهرت من العدم. كان على وشك أن يصرخ بغضب، لكنه توقف عندما رأى تشيشا. كانت طفلة ذات مظهر لافت للنظر، ترتدي ملابس ذات تصميم غريب لا يشبه أزياء سكايا، مما أثار دهشته.
تجاهلت تشيشا السائق واندفعت نحو العربة، ثم وقفت على أطراف أصابعها وطرقت باب العربة ثلاث مرات.
“أيتها الوقحة!”
هرع السائق ليمسك بالطفلة الجريئة، لكن نافذة العربة فُتحت قبل أن يصل إليها. ما إن رأى ساميد تشيشا حتى اتسعت عيناه وكأنهما ستقفزان من محجريهما.
“أ، أنتِ…؟”
نظر إليها بتردد، غير متأكد. آخر مرة رآها فيها كانت رضيعة، والآن هي طفلة، فلم يكن متيقنًا.
“أنا هي.”
لم تكن بحاجة لقول اسمها، فقد كانت واثقة أنه سيعرف من هي. نظرت إليه بعينيها الورديتين وقالت بلطف:
“أرجوك، دعني ألتقي بالأميرة.”
***
هل هذا هو الاستقبال الملكي؟
فكرت تشيشا وهي تُرفرف عليها مروحة فاخرة. ما إن تأكد ساميد من هويتها، حتى أسرع بإصطحابها إلى القصر الملكي، متعلقًا بها كظلها، يخدمها بنشاط بالغ. كانت تشيشا جائعة بالفعل، فأكلت من الأطعمة التي قدمها لها وهي تنتظر وصول أران.
بينما كانت تتذوق لقمة من سمك مشوي متبل بالتوابل، فُتح الباب بعنف.
“تشيشا باسيليان!”
ظهرت أران، وجهها محمر من الإثارة، تلهث وكأنها ركضت طوال الطريق، تقترب من تشيشا بخطوات ثقيلة. أسرعت تشيشا بمضغ وابتلاع السمك الذي كان يملأ فمها.
اقتربت أران، تنظر إلى تشيشا بعيون مليئة بالدهشة والشك.
“…هل أنتِ حقًا هي؟”
نظرت إلى أران، التي كبرت لتصبح بحجمها تقريبًا، وابتسمت بدلاً من الرد. عندها، نادتها أران بصوت مرتجف:
“تشيشا…”
ثم بدأت أران تتحدث بلا توقف، كأنها لا تتنفس. تحدثت عن حزنها عندما اختفت تشيشا فجأة، وعن صدمتها من رؤيتها وقد كبرت إلى طفلة، وعن مدى إعجابها بجمالها وجاذبيتها رغم كل ذلك.
كانت كلماتها تنهمر كالسيل، حتى شعرت تشيشا أن أذنيها ستنزفان. لم تستطع إلا الإنصات حتى أتيحت لها الفرصة أخيرًا لطرح سؤالها:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات