1
رموشٌ تُجمع…
لم تكن ڤلوريا من النوع الذي يلاحظ التفاصيل… لكن صباح ذلك اليوم لم يحتج سوى دقيقة ليخبرها بأن الجامعة ليست كما اعتادت.
منذ أن عبرت البوابة، شعرت بثقلٍ غير مرئي.
في الحديقة، طلاب يتجمعون في دوائر هامسة… بعضهم شاحب، بعضهم يركض بلا هدف، فقط يهرب من شيء لا يُرى.
وفي الممرات، آخرون يتصرفون وكأن شيئًا لم يحدث، يضحكون… يتصنعون اللامبالاة.
لكن ما جذب عينيها حقًا كان أولئك الرجال المنتشرين عند الأعمدة والمداخل… شارات فضية على أكتافهم تعلن هويتهم بوضوح.
شرطة.
شرطة حقيقية… داخل الجامعة.
ارتجفت أصابعها؛ فهي تكره الشرطة، تكره حضورهم، تكره شعور التفتيش الذي يضعونه في صدور الناس.
وقبل أن تضع قدمها على الدرج، أمسكت إحدى الفتيات بذراعها بقوة، وهمست قرب أذنها وكأن الجدران تتصنت:
— ڤلوريا… الشرطة الخاصة جاءت للتحقيق في مقتل “ميني”.
— وسيتم استجواب جميع الطلاب… أتدرين من سيتولى التحقيق بنفسه؟ رئيس الوحدة، ألبرت مارينڤال… يا إلهي، ما أوسمه!
هزّت ڤلوريا كتفها لتبعد الفتاة عنها، لكن الأخيرة أشارت بلهفة إلى الأمام:
— انظري… انظري هناك!
اتّبعت نظرتها…
فتجمّد الهواء في صدرها.
كان يمشي وسط الممر كأنّ المكان ملكه.
قميصٌ أسود يعتنق جسده الرياضي، وأحد أزراره العلوية مفتوح يكشف خطّ عظام الترقوة.
أكمامه مرفوعة إلى ما فوق المعصمين، تُظهر ساعدين قويين بلونٍ مسمَرّ.
ملامحه حادّة، ونظرته قاتمة لدرجة توحي بظلٍّ أسود يحيط بعينيه.
شعرت بشيء ممزوج بين التوتر والكره…
أو ربّما الخوف.
—
لم تجد في نفسها القدرة على حضور المحاضرة، فاتجهت إلى مكانها المفضل: مسرح الجامعة.
ذلك الفضاء الهادئ الذي لا يدخله أحد في هذا الوقت.
خلعت حذاءها، وضغطت زر التشغيل…
وانساب صوت الموسيقى كخيط ماءٍ بارد.
أغمضت عينيها، وتركت جسدها ينساب مع الإيقاع؛
خطوة… دوران… امتداد ذراع…
فقد اختفى العالم بكل ثقله، ولم يبقَ سوى رقص الباليه الذي يحرّرها من كل ألم.
لم تكن تعلم أن باب المسرح قد فتح بصمت.
كان الضابط مارينڤال يمرّ يتفقد المبنى.
توقف عند الصوت، فالمحاضرات قد بدأت، ولا سبب لوجود موسيقى هنا.
رفع حاجبه، وأمسك مقبض الباب، ودخل دون أن يُحدث ضجيجًا.
ثم رآها.
كانت ترقص وحدها كأنّ الأرض تتنفس من خلالها.
ظلال جسدها تنساب بنعومة، وشعرها يتحرك مع كل التفافة.
استند على الباب بصمت، ضمّ ذراعيه أمام صدره…
وانتظر.
ظلّ يراقبها حتى قطع سكون الموسيقى صوته الجهوري العميق:
— على موتِ مَن ترقصين… يا بجعة؟
كأن صاعقة أصابتها.
ارتجف جسدها، وفقدت توازنها، فاصطدمت بزاوية الطاولة الصغيرة؛
سقطت زجاجة المشروب على الأرض، وانسكب السائل حول قدميها كحلقة تحاصرها.
حاولت الابتعاد عن الفوضى، لكن صوته اخترقها من جديد:
— لا تتحرّكي.
تجمّدت.
كان الخوف ينهش أطرافها.
سمعت وقع خطواته يقترب…
خطوة… ثم أخرى…
حتى أصبح أمامها مباشرة.
رفعت عينيها ببطء، لتجده قريبًا للغاية؛ قريبًا حدّ اضطراب أنفاسها واحمرار وجهها.
وفجأة…
أحاط خاصرتها بذراعه الصلبة، يجرّها نحوه ليمتلك ثباتها للحظة.
شهقت؛ اشتعلت وجنتاها.
ثم قال بصوتٍ خافت، آمرٍ بطريقة لا تقبل نقاشًا:
— ضعي قدمكِ على قدمي.
ترددت لحظة، ثم امتثلت.
وما إن فعلت، حتى بات رأسها بمحاذاة كتفه، والهواء بينهما أثقل من أن يُستنشق.
حرّك قدميه ببطء، يبعدها عن الزجاج المتناثر، خطوة وراء خطوة، بعناية تشبه الحصار.
وعندما توقّف، همس بالقرب من أذنها:
— أهكذا تعجبكِ هذه الوضعية…؟
انتفضت مبتعدة عنه، خجلها فاضح تبتلع ماء جوفها تجعل من غمازتيها اللطيفة تظهر بوضوحٍ لديه، لكنها لم تهرب بعيدًا.
لم يمهلها طويلًا، بل تقدّم نحوها بخطوات هادئة، ووضع يديه في جيبيه:
— ڤلوريا… صديقة ميني المقرّبة.
— هل ستتشرفين اليوم بالسماح لنا بالبدء في التحقيق معكِ؟
قالت بصوتٍ متردد:
— لقد قلتُ كلّ ما أعرفه، أيها الضابط… لن يزيد شيء أو ينقص.
تأملها… حتى انتبه لتلك الرمش التي سقطت على خدّها من شدّة توترها.
قال ببطء:
— لكنّ التحقيق معكِ لم ينتهِ بعد… ولا أريد له أن ينتهي.
رفعت رأسها نحوه بصدمة تبحث عن معنى، لكنه أكمل:
— أغمضي عينيكِ… يا ذات الغمازتين.
تراجعت بخوف.
— لِم… لماذا أفعل ذلك؟ ماذا تريد؟
أجاب بنبرة ثقيلة:
— لن أقبلكِ. فلا تجادليني.
بعد تردّدٍ طويل، أغلقت عينيها… ورهبة خطواتها إلى الخلف جعلتها ترتجف.
لكن صوته قاطعها:
— قفي.
سكنت كما لو أن الأوامر سلاسل.
اقترب…
ومدّ إصبعه الخنصر، بطرف ظفره فقط…
التقط الرمش من خدّها.
فتحت عينيها من دون أن تدري، لكن يده كانت أسرع.
فتح منديلًا أبيض، وضع الرمش بداخله، طواه بعناية، ثم خبأه في جيبه.
استدار ليغادر وقال بصوتٍ منخفض:
— إلى محاضرتكِ… أيتها الطالبة.
تسارعت أنفاسها، وتصبّب العرق من جبينها.
خطفت حقيبتها، وخرجت راكضة دون أن تنظر خلفها.
الكاتبة /حاجه خفيفة بسلك بيها أسناني
التعليقات لهذا الفصل " 1"