أنتِ لا ينبغي لكِ أن تموتي.
“ما بكِ يا لوسي؟”
نظرتْ آني إليّ بقلق، كأنّها تتساءل إنْ كان هناك موضع يؤلمني.
“أأُصِبتِ في مكانٍ ما؟”
حتى داميان أخذ يتفحّص جسدي.
مَن الشخص الذي قد يبحث عن رافين؟
مهما فكّرتُ، لم يخطر ببالي سوى عائلة تولدا التي خانت آل هاندسلاك، وجاءت هذه المرّة لتحصد ما تبقّى من الأرواح.
“يجب أن أذهب.”
لم يكن جسدي هو المشكلة الآن.
“ماذا؟”
إنْ كان فرسان تولدا قد عثروا على رافين في الكوخ……
“سأستعير هذا.”
جمعتُ القوسَ والسهام.
“انتظري قليلًا، لوسي! لوسي!”
—
“……لوسي؟”
كان رافين يقرأ كتاب أساسيات السحر حين شعرَ بحركةٍ مريبة في الخارج.
لم يسبق أن عادت لوسي باكرًا سوى مرّةٍ واحدة فقط.
وكان ذلك قبل انضمامها رسميًّا إلى نقابة بندون، حين عادت محمّلةً برُزمٍ من الأوراق.
ومنذ أن أصبحت عضوًا رسميًّا، كانت تعود دائمًا قُبيل المغيب.
‘ليست لوسي.’
نهضَ رافين بهدوءٍ، وبحث عن الخنجر الذي أخفاه.
فوق كلّ شيء، لم يكن هذا الجوّ الكئيب الخانق ممّا يخصّ لوسي.
تبك، تبك.
هناك شخصٌ يقترب.
الضيف غير المرغوب فيه لم يطرق الباب، بل توجّه بخطواته نحو الجهة التي فيها النافذة.
انزلق رافين أسفل السرير القريب من النافذة، وأخفى جسده.
وفي اللحظة نفسها، انسدل ظلٌّ كثيف غطّى السرير.
“…….”
“…….”
كان صاحب الظلّ رجلًا ضخم البنية، لا يحتاج المرء إلى التدقيق ليعلم ذلك.
“…….”
تحرّكت تفاحةُ حلق رافين بقوّة.
تسارعت ضربات قلبه فجأةً، حتى خُيِّل إليه أنّها ستشقّ جلده.
‘فارس تولدا…….’
لم يرَ وجهه، لكن الإحساس كان سيّئًا بما يكفي.
قبضَ رافين على الخنجر تحسّبًا لأيّ طارئ، ومع ذلك شعر برعبٍ يجعله غير قادر على فعل أيّ شيء إنْ بدأ الهجوم.
‘أرجوك.’
توسّل في سرّه أن يرحل الظلّ سريعًا.
“…….”
بعد قليل، اختفى الظلّ.
هل غادر الرجل؟
لم يُسمَع صوتٌ، لكنّ أثر الحركة ما زال محسوسًا.
لم يبتعد كثيرًا عن النافذة، بل ظلّ واقفًا أمامها.
لم يذهب.
إذًا، ماذا يفعل هناك؟
رفعَ رافين رأسه بحذر، فرأى أصيصًا زجاجيًّا على الرفّ بجانب النافذة.
كان النباتَ الوحيد في الكوخ، اشترته لوسي قبل أيّام.
كان الأصيص الأبيض شديد الشفافيّة، يعكس الأشياء كمرآة.
وذلك يعني……
رنّ!
اندفعت ذراعٌ ترتدي قفّازًا معدنيًّا من النافذة المحطّمة.
“آه!”
غطّى رافين رأسه بذراعيه، ثم فتح عينيه اللتين أغمضهما لا إراديًّا.
“…….”
في تلك اللحظة، تباطأ الزمن.
شظايا الزجاج المعلّقة في الهواء، والقبضة المعدنيّة التي تتحرّك بينها ببطء، بدت كأنّها مشهدٌ منفصل عن الواقع.
وفي ذلك الزمن المتباطئ، لمح رافين نقش غرابٍ باهتًا محفورًا على سطح القفّاز.
اتّسعت حدقتاه فجأة.
ذلك شعار تولدا!
“هناك شخصٌ مريب!”
صرخ الرجل الذي اكتشف رافين في اللحظة نفسها.
اندفع رافين نحو الباب محاولًا الفرار، ليصطدم برجلٍ آخر سدّ طريقه.
“……رافائيل هاندسلاك.”
تعرّف الرجل عليه.
شُووح!
تلاقَت سيوف الرجل ورافين.
تدفّق الأورا من كلا السيفين.
كانت أورا الخصم قويّة، لكن الأورا الحمراء التي لفّت سيف رافين كانت أعظم منها.
تضخّمت أورا رافين حتى بدت كأنّها ستبتلع الرجل.
تراجع الخصم خطوةً تحت وطأة الضغط.
لم يُضِع رافين الفرصة، وغرسَ سيفه في قلبه.
“غخ!”
كان كلّ شيءٍ في غاية السرعة.
بعد أن أسقط واحدًا، فرّ رافين نحو أعماق الغابة الكثيفة.
“أمسكوه! أسرعوا!”
كم عددهم؟
اثنان؟
مع الذي طعنه قبل قليل، يصبحون ثلاثة.
لم يكن لديه وقتٌ حتى ليزيل الدم عن سيفه.
ركضَ رافين لاهثًا.
خدشت الأغصان ذراعيه وخدّه، وشقّت الحجارة باطن قدميه مؤلمةً إيّاه.
فْيُوونغ!
“آخ!”
انغرز سهمٌ طائر في كتفه.
“إنّه هناك!”
كاد يسقط، فغرسَ سيفه في الأرض ليستند إليه، والتقط أنفاسه بصعوبة.
إلى أين يذهب؟
تشابه الأشجار أوقع الصبيّ الضائع في دوّامةٍ من التيه.
إلى أين، إلى أين……
وقفَ رافين عاجزًا.
‘رافائيل.’
في تلك اللحظة، تذكّر صوت أخيه.
تراءى القصر المحترق أمام عينيه.
الفارس الذي دافع عنه حتى النهاية مات بشرف، والخادمات والأُجراء لقوا حتفهم هناك أيضًا.
حتى الكلب الذي ربّوه هاجم أرجل الأعداء ليحمي سيّده.
لكنّه لم يفعل.
أخوه، الذي يفصله عنه عامان فقط، حمل السيف لينقذ والديه، أمّا هو فكان يختبئ تحت السرير، يحبس أنفاسه.
هربَ تاركًا خلف ظهره نار القصر المشتعلة.
هل يمكنني الاستمرار في العيش؟
‘وأخي قد مات؟’
مع كلّ خطوة، كان رأس السهم المغروس في كتفه يتحرّك.
الجسد المحموم بالألم كان يغلي، كأنّه سَيذوب في أيّ لحظة.
ومع فقدانه القوّة، سقط السيف الذي تشبّث به كأنّه حبل النجاة.
‘لا.’
طخ!
انغرز سهمٌ في ذراع رافين اليمنى وهو يمدّها ليلتقط السيف.
“……آه!”
تعثّر جسده، ثم سقط أخيرًا على الأرض.
لم يبقَ في ساقيه أيّ قوّة للحركة.
حاول الزحف، لكنّه لم يكن كافيًا للهرب.
“أمسكتُ بك.”
وصلت خطواتٌ ثقيلة إلى أذنه من فوقه مباشرةً.
ابتسم فارس تولدا، وهو ينتعل حذاءً جلديًّا خشنًا، وغرس سيفه بجانب وجه رافين.
“…….”
كم من أبناء هاندسلاك قُتلوا بهذا السيف؟
أغمضَ رافين عينيه، واضعًا خدّه على الأرض الرطبة.
كان يهرب من الموت قبل قليل، لكنّه حين واجهه الآن، لم يبقَ في داخله سوى الفراغ.
في الأصل، كان مقدّرًا له أن يموت.
لقد امتدّ عمره بتضحيات الآخرين، مرّةً بعد مرّة، حتى وصل إلى هنا.
“كنتَ مختبئًا كجرذٍ طوال هذا الوقت.”
“…….”
“مَن الذي أخفاك؟ صاحب الكوخ؟”
ارتجفَ رافين عند سؤاله.
“يبدو أنّها هي بالفعل.”
“اشكرني، سأرسلها إليك بعد قليل.”
توقّف الفارس عن سحب سيفه، ونظر إلى الأسفل.
“……لا تلمسها.”
كان رافين، الذي بدا كأنّه استسلم لكلّ شيء، يمسك نصل السيف بيديه العاريتين.
نزفَ الدم من يده الممزّقة بغزارة، وغمر الأرض تحته.
“ماذا؟”
“قلتُ لا تلمس ذلك الشخص!”
توقّف الفارس للحظة أمام نظرة رافين المشحونة بالشرّ.
“ما زال لديك ما—.”
سحبَ الفارس سيفه بعنف، مستعدًّا لقطع عنق الصبي.
وفي اللحظة نفسها.
“تبًّا! ما هذا؟!”
ظهرت فجأةً كرومٌ شوكيّة، التفّت بسرعة حول ساقَي الفارس.
“ما الذي تفعل—!”
زحفت الأشواك حتى ذراعيه، فشلّت حركته.
ولم تدم دهشته طويلًا، إذ اجتاحه ألمٌ جديد.
“آآآه!”
اندلعت ألسنة نارٍ زرقاء عند أطراف الكروم، وأذابت درعه بحرارةٍ مرعبة.
“آآآآه!”
بينما كان الرجل يلقى حتفه، نهضَ رافين بصعوبة، وانتزع السهم من ذراعه.
امتدّت النار حتى وجه الرجل، ثم انقطع نَفَسه.
“هاه… هاه…”
تحرّك رافين بكلّ ما تبقّى له من قوّة.
ما زال هناك فارسٌ واحد.
حتى لو مات، يجب أن يقطع عنق ذلك الوغد.
‘وإلّا، سيقتل لوسي…….’
تقدّم قليلًا، ثم استند إلى جذع شجرة ليستريح.
جسده المدمّر صار عبئًا ثقيلًا بالكاد يطيق حمله.
“أنتَ! هل أنتَ بخير؟ اللعنة!”
دوّى صوت الفارس الأخير من الأمام، وقد بدا أنّه وجد جثّة رفيقه.
مدّ رافين يده، يتحسّس كم من المانا ما زال قادرًا على استخدامه.
كان جمع المانا صعبًا، بعد أن بلغ حدّه الأقصى.
هجمةٌ واحدة فقط، لا أكثر.
“آه.”
لا يكفي.
يجب أن يموت ذاك الرجل أيضًا، لتعيش لوسي.
‘اهربي، لوسي.’
أنتِ لا ينبغي لكِ أن تموتي.
‘إنْ لم أستطع قتله، فليُصَب في ساقه على الأقلّ.’
لا.
إصابة الساق لا تكفي.
كانت لوسي تعود دائمًا إلى البيت مبتسمةً، تحمل لحمًا أو خبزًا شهيًّا بعد انتهاء عملها.
واليوم لن يكون مختلفًا.
‘يجب أن أقتله… تمامًا.’
هبّت ريحٌ خفيفة حول رافين.
تجمّعت المانا المنبعثة في كفّه بسرعة.
ولّدت الطاقة المتكاثفة جاذبيّةً هائلة ضغطت على جسده.
انفجرت جراحه واحدةً تلو الأخرى تحت الضغط الشديد.
عضّ على أسنانه ليتحمّل الألم المتزايد.
“توقّف.”
أمسك أحدهم بمعصمه.
في تلك اللحظة، ذاب التوتّر المتراكم في جسده كالجليد.
هدأ خفقان قلبه، الذي كان يضرب بجنون عند حافّة الهاوية، كأنّه تعرّف إلى صاحب اليد.
كان رافين قد شعر منذ ثوانٍ بعطرٍ مألوف وخطواتٍ خفيفة.
ظنّها وهمًا وُلِد من شدّة التمنّي.
“لوسي…….”
وجاء النور.
التعليقات لهذا الفصل " 18"