الابنةُ الكبرى العاجزة.
بدلًا من الإجابة، استدعيتُ ذكرى قديمة.
كان بيتُ أوهان يستقبل عددًا لا يُحصى من الضيوف.
من كبار المسؤولين، إلى أفراد الأسرة الإمبراطوريّة، فالعظماء من السحرة، وسادةِ السيوف.
وكان معظمهم من عمالقة الإمبراطوريّة الذين يُحرّكونها من خلف الستار.
لكن، إن سُئلتُ إن كان بينهم شخصٌ يحمل اسمَ عائلة «كاردينغ»، فالإجابة: لا.
وقبل كلّ شيء، لا يُمكنني أن أنسى زائرًا بتلك الملامح.
“كيف تعرفني؟”
سألتُه أنا أيضًا بجدّيّة.
كانت آني تُمعن النظر بيني وبين داميان، وحين التقطت جوّ الحديث، خرجت بصمت.
“إذًا أنتِ فعلًا لوسي أوهان.”
“اسمٌ جميل، فهلّا تفضّلتَ ونزعتَ عنه ذلك اللقب القذر؟”
“هل أرسلكِ سيّدُ عائلة أوهان هذه المرّة سرًّا لتتعلّمي شيئًا من الحياة الاجتماعيّة؟”
لا أدري إن كان ذلك أسلوبه المعتاد، لكن سخريته خرجت بسلاسةٍ لافتة.
“على الأقلّ لديكِ شيءٌ من الحياء. هذه المرّة لم يُقحِمكِ السيّدُ في الأكاديميّة بيده، بل جئتِ بنفسكِ.”
“إذًا كنتَ هناك حين درستُ في الأكاديميّة.”
“بالطبع. دخلتُها الأوّل، وتخرّجتُ الأوّل، على عكسكِ.”
أكاديميّة شُول، أعظمُ مؤسّسةٍ تعليميّة في الإمبراطوريّة.
وقسمُ السحر فيها، الذي لا يقبل إلّا الموهوبين فطريًّا.
كيف يُمكن نسيان ذلك المكان؟
كان القبول فيه أسوأَ ذكرى في حياتي.
لأنّ ما جرى لم يكن قبولًا بقدر ما كان فرضًا بقوّة النفوذ.
كان أبي يؤمن بأنّ موهبتي ستستيقظ إن التحقتُ بالأكاديميّة، لكنّ النهاية لم تكن كذلك.
‘أهذه هي الابنةُ الكبرى المشهورة بعجزها، صاحبةُ تلك الشائعة؟’
رسوبٌ في كلّ اختبار.
وآخرُ الترتيب في كلّ تقييمٍ فصليّ.
لم يُبقِ زملائي، كبارهم وصغارهم، أحدًا إلّا واتّخذ منّي مسافة.
ولا بُدّ أنّ داميان كان من بينهم.
“آسف، لكن لا مكان لكِ هنا.”
“…….”
“اتّحادُنا مشغولٌ أكثر من أن يتحمّل خدمةَ آنسةٍ أرستقراطيّة مغرورة.”
قال ذلك على عجل، كأنّ الوقت الذي يقضيه في الحديث معي إهدار.
“ثمّ إنّني شديدُ التطلّب. لا أملك من السعة ما يجعلني أُثني على تقريرٍ رديء.”
“ليس رديئًا.”
“هذا رأيكِ.”
أطلق داميان ضحكةً ساخرة عند إجابتي الحازمة، ثمّ أشار إلى رُزم الأوراق المتراكمة حتّى ركبتيّ.
“أترين هذا؟ مُعاوِنان لعينان تركا العمل دون كلمة. والتقارير غير المُرتّبة أكثر من ذلك. إن أردتِ إنهاء هذا الكمّ، فعليكِ إنجازه في يومين. هل تستطيعين؟”
كان داميان وحشًا.
وحشَ عملٍ.
وحين لاحظ دهشتي، ابتسم بخفّة.
“يا للعجب. يبدو أنّني واصلتُ الإساءة إلى آنسة أوهان. اعتبريه تفهّمًا للوضع، فنحن الآن قائدُ اتّحادٍ ومُعاوِنة جديدة. أمّا الآن.”
“…….”
“اخرجي. أنتِ مفصولة.”
لكنّ هذا كان ظُلمًا.
“ستتولّى كلوديا توديعكِ، فلا تأخذي الأمر على محملٍ شخصيّ، يا آنسة.
إلى اللقاء.”
وبعد أن أنهى ما أراد قوله، دخل داميان الغرفةَ الواقعة خلف رفوف الكتب.
—
طُرِدتُ.
بعد ساعاتٍ قليلة فقط.
“…….”
أيعقل هذا؟
وقفتُ وحيدةً في الغرفة الواسعة، أعجز عن كبح خوائي.
لم يستغرق الفصل أكثر من عشر دقائق.
مدّةٌ لم ترقَ حتّى إلى توقّعات الفرسان الذين راهنوا عليّ قبل قليل.
كان الأمر ظالمًا، لكنّني لم أعجز عن فهم موقف داميان تمامًا.
شابٌّ موهوبٌ اجتهد ليدخل الأكاديميّة، سُدّ دونه الباب لأنّ مكاني شغلته أنا، ابنةُ عائلة أوهان.
كان داميان يعرف ذلك، ولذلك طردني.
“أنا آسفة، لوسي.”
قالت آني، وقد ظهرت إلى جانبي فجأة، تراقب ردّة فعلي.
“القائد طبعه كطباع الكلاب، أليس كذلك؟ هو كذلك أصلًا.”
هو كذلك فعلًا، لكن—
“أنا بخير.”
كنتُ بخير حقًّا.
ما أغضبني لم يكن داميان، بل أفعالُ عائلة أوهان التي سدّت طريقي.
تلك العائلة القذرة التي أجبرتني على دخول الأكاديميّة، ثمّ لفظتني حين فشلتُ في التكيّف وطُردتُ منها.
راودتني فكرةُ محاولة الحديث مع داميان انطلاقًا من هذا القاسم المشترك، لكنّني لم أجدها مجدية.
“لكن يا لوسي، أأنتِ حقًّا من عائلة أوهان؟”
نظرت إليّ آني بعينين حائرتين.
كان سؤالها يقول: إن كنتِ من تلك العائلة العظيمة، فما الذي أتى بكِ إلى مكانٍ كهذا؟
“لا. لستُ من تلك العائلة القذرة.”
“قذرة؟ أليست عائلة أوهان أشهرَ سلالةِ سحرةٍ في الإمبراطوريّة؟”
“قبل ذلك، يا آني، تلك الأوراق هناك.”
قاطعتُها وأنا أُشير إلى رُزم التقارير.
“أهي الأعمال المتراكمة؟”
قالت آني، وقد أشارت إلى الكومة التي ذكرها داميان.
“نعم. لا أفهم ما الذي يفكّر فيه القائد. لا بدّ من تعيين مُعاوِن في أسرع وقت، وإلّا تعقّد كلّ شيء.”
تنفّست آني تنهيدةً ثقيلة حين رأت حجم العمل.
“هل يُمكنني أن أتولّاها؟”
“ماذا؟ لكنّكِ مفصولة…….”
“لديّ خبرةٌ سابقة في العمل الميدانيّ. سيستغرق وصول المُعاوِن الجديد يومًا على الأقلّ. سأُعيدها صباح الغد. اعتبري أنّ الاتّحاد أسند العمل إلى جهةٍ خارجيّة.”
ارتسمت على وجه آني ملامحُ الحرج.
“مهما كان الأمر عاجلًا، لا يُمكننا تسليم تقارير الاتّحاد لشخصٍ من خارجه. فهناك تفاصيل ماليّة وتجاريّة دقيقة.”
كان توقّعها صحيحًا.
أدركتُ أنّ طلبي كان مبالغًا فيه، فاعتذرتُ في داخلي.
“لكن…… ربّما يكون ذلك ممكنًا.”
قالت آني، وقد خطرت لها فكرة، ثمّ ذهبت إلى الطاولة أمام الأريكة وأخرجت ملفًّا.
“هذا أحد الأعمال المتراكمة بسبب استقالة المُعاوِن السابق دون إنذار.”
ناولَتني ملفًّا سميكًا بحجم الكفّ.
“تعرفين أعمال اتحاد بِنْدون، أليس كذلك؟ نحن نصنع أسلحةً عالية الجودة. وهذه المرّة نطمح إلى توسيع نشاطنا عبر التبادل مع قبيلة «أوبوم» في البحر الجنوبيّ. ولهذا نجمع معلوماتٍ عنهم، وندرس طباعهم وسبل التواصل معهم.”
كانت قبيلة «أوبوم» من الأقوام البحريّة، مشهورةً بالقوّة والموارد الغنيّة.
لكنّها أيضًا غير ودودة تجاه البشر، ممّا يجعل التعامل معها بالغ الصعوبة.
“وهذه موادّ جمعها المُعاوِن السابق من الكتب بلا تمييز.”
“إنّها كثيرة.”
“القائد دقيقٌ للغاية. لا يتسامح مع أيّ تقصير، سواء في التقارير أو في جمع المعلومات. والمُعاوِن السابق لم يحتمل ذلك في النهاية…….”
قالت آني ذلك بتعاطفٍ واضح.
“هل أستطيع استعارة هذه الموادّ؟”
“يمكنكِ ذلك، لكن ألا تشعرين بالكراهية تجاه القائد داميان؟”
هززتُ رأسي.
“لا. ليس كرهًا، بل شعورٌ آخر.”
“شعورٌ آخر؟ غضب؟”
“لا. عناد.”
نظرت إليّ آني بدهشة.
“إذًا، سأعود غدًا! يا آني.”
وهنا بدأت المشكلة.
【قبيلة أوبوم قبيلةٌ ‘شديدة’ العدوانيّة، و‘شديدة’ الحدّة، و‘شديدة’ الانغلاق…… (مختصر) …… وميزتهم الوحيدة أنّ موطنهم ‘شديد’ الجمال.】
كانت الموادّ سيّئةً إلى حدٍّ يُرثى له.
لا شكّ أنّ المُعاوِن السابق جمعها نكايةً بداميان.
مع ذلك، كنتُ قد التقيتُ أفرادًا ودودين من قبيلة أوبوم أثناء إقامتي في بيت أوهان، وتحدّثتُ معهم كثيرًا.
‘بل إنّ البطل، لا، رافين، كان قد تعامل مع الأوبوم أيضًا.’
وفي الرواية الأصليّة <زهرة الانتقام>، ذُكِرَت طريقةُ التواصل معهم.
وكان الحلّ هو الفاكهة.
لأنّ قبيلة أوبوم تعيش في السواحل والمياه، كانت الفاكهة طعامًا غريبًا عليهم.
وحين أدرك رافين ذلك، قدّم لهم أنواعًا متعدّدة، فنال ودّهم.
المشكلة كانت كيف أشرح هذا لداميان……
وفي النهاية، مررتُ على المكتبة، وطبعتُ بالمِداد السحريّ كلّ ما أحتاجه من موادّ عن قبيلة أوبوم.
‘عشرون ساعة فقط…… هل أستطيع إنجاز هذا كلّه؟’
تضاعف حجمُ الموادّ، وضاق الوقت أكثر.
“……عدتِ مبكّرًا اليوم.”
قال رافين، وهو ينظر إليّ بذهول، حين دخلتُ حاملةً تلك الأكوام.
كان هذا عادةً وقتَ العمل بعد الغداء.
“هل كنتَ تقرأ مدخلَ علم السحر؟”
لفتَ انتباهي الكتابُ على الطاولة.
“……كنتُ أشعر بالملل.”
أغلق رافين الصفحات بخجل.
“كيف هو؟ ممتع، أليس كذلك؟”
رغم افتقاري إلى الموهبة، كان السحر علمًا ساحرًا بالنسبة إليّ.
فكيف يكون شعور رافين، وهو الغارق في الموهبة؟
لو قرأ إلى هذا الحدّ، لكان قادرًا على استخدام أساسيات سحر العناصر.
“هل ستعودين مبكّرًا هكذا غدًا أيضًا؟”
حوّل رافين الحديث بسؤالٍ آخر، وكأنّه غير مرتاح.
“لا أدري. حقًّا لا أعلم.”
“ماذا؟”
“الأمر العاجل الآن هو هذا.”
وضعتُ الموادّ على الطاولة، فوسّع عينيه دهشةً.
“ما كلّ هذا؟”
“واجب.”
“؟”
“آه، تعشَّ كما تشاء هذا المساء. والعصير، اشرب منه ما تشاء.”
وبعد لحظةِ ارتباك، بدا أنّ رافين أدرك عجَلتي، فأزاح الأكواب والأشياء عن الطاولة بهدوء.
“لن…… أُزعجكِ.”
“إزعاج؟ لا تُبالغ. حتّى لو نبح كلبٌ بجانبي، لا يتشتّت تركيزي. ثمّ إنّك ساعدتني، أليس كذلك؟”
لقد دللتني على طريقةِ التواصل مع قبيلة أوبوم.
وحين مال رافين برأسه في حيرة، ابتسمتُ.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"