في الوادي العميق لجبل بلاسين المنهار، يوجد كهف بلا اسم.
دخل مخلوق ذو خياشيم الكهف المظلم متمايلا. كان شكله يشبه الإنسان، لكنه كان يزحف على أربع، بجسمه الضخم المنحني. شق طريقه عبر الظلام، وتوقف في النهاية عند نقطة ما تسرب منها شعاع ضوء واحد، وبدأ يتقيأ. آه، آه – صوت لم يكن صادرًا عن أحباله الصوتية، بل عن تشنج أحشائه ومريئه.
آه، آه. بعد محاولات متكررة، ظهرت امرأة، غارقة في لعاب لزج. شعر أسود، وجه شاحب. سعلت المرأة وتأوهت. لم يستطع الباهاموت عديم الأذنين سماع صوتها، لكنه رآها تتلوى فشعر بالرضا. أدرك أخيرًا أنه سرق الملكة.
***
عندما كانت صغيرة، كانت والدتها تقول لها في كثير من الأحيان: “فيرو، يمكنكِ تحقيق أي شيء تحلمين به. لا يوجد طفلة في العالم مميز مثلكِ.”
“حقاً؟ ماذا عن أصدقائي؟ هل هم عاديون؟”.
“لا، أصدقاؤك مميزون أيضًا. همم، كل شخص في العالم مميز وثمين بطريقته الخاصة.”
“ماذا يعني هذا؟ أنتِ لا تعرفين حتى معنى كلمة “خاص” يا أمي.”
هل ضحكت والدتها على تعليق الطفل اللطيف والوقح، أم حاولت أن تشرح أكثر؟ على أية حال، لقد كان ذلك بمثابة تعويذة لرفع احترامها لذاتها وملؤها بالثقة.
“أنتِ مميزة، ثمينة، وجميلة كما أنتِ.”
حتى النجوم التي تتلألأ في السماء تنقسم إلى لامعة وخافتة. ندرك بطبيعتنا، مع تقدمنا في السن، أن العالم مبني كالبرج. كلما ارتفع المرء في السماء، ازداد تميزه.
نُعجب بمن هم في الطوابق العليا ونحسدهم، بينما نشفق على من هم في الأسفل ونتجاهلهم. نُعزي أنفسنا بالمقارنة، مُعتقدين أننا أفضل حالًا، ونجد العزاء في ذلك. نحن مختلفون. مهما كان الشخص قريبًا، فهو ليس “أنا”. من المستحيل أن نفرح حقًا لشخص آخر كما لو كان الأمر يخصنا. شعرت بالألم عندما لم يستطع أصدقاؤها فهمها تمامًا، لكنها أدركت في مرحلة ما: الأنانية هي مأساة البشرية.
إلى أي مدى عليك أن تصل لتجد السلام؟ متى يمكنك التوقف عن الاهتمام بالعالم من منظورك العلوي، أو تجاهله باعتباره عاديًا؟ متى ستكوّن صداقات فقط من نفس المستوى، دون الحاجة إلى إجبار نفسك على النظر إلى الأسفل عند المعاناة؟.
يا ليتنا جميعًا متشابهين. يا ليتنا جميعًا نعيش في الطابق العلوي من البرج.
– حينها لم نكن لننجو.
في اللحظة التي أجاب فيها الصوت، انهارَت الأبراجُ المُرتَّبةُ صفًّا واحدًا على الأرض. لم ينجو أحدٌ من البرج الذي كان يسكنه الجميع في الطابق العلوي.
فتحت فيرونيكا عينيها.
“آه…”
شعرت بألم شديد في معدتها. حاولت رفع ذراعها للتحقق من وجود إصابة، لكنها ترددت.
دق، دق.
كانت عينٌ عملاقةٌ أمامها مباشرةً. حبست فيرونيكا أنفاسها، تحدق في الكائن المُستلقي بجانبها، مُحاكيةً وضعيتها كما لو كان ينظر في مرآة – مُقلوبةً فقط، دون أن يُغيّر إصبعٌ واحدٌ مكانه.
انتابها قشعريرةٌ في جسدها. كان يشبه الإنسان إلى حدٍّ كبير، مما زادها غرابةً – إلا أنه لم يكن يمتلك شعرًا وخياشيم بدلًا من آذان.
“……”
كأنها تقترب من حيوان حساس، رفعت فيرونيكا يدها ببطء. وبينما كانت تلمس بطنها، قلّدها البهاموت، رافعًا يده ومقلّدًا حركاتها.
لم يكن هناك دم على يدها. وبينما كانت فيرونيكا تفحص كفها، فعل البهاموت الشيء نفسه. كان المنظر البشع لا يُطاق. تذكرت الصوت الذي سمعته عندما اندمج معها تمامًا: أعطيني وجهكِ، وروحكِ.
أرادوا هويةً فرديةً، أن يكونوا مختلفين. بعد صمتٍ مُريع، أخذت فيرونيكا نفسًا عميقًا، مُستجمعةً شجاعتها.
“…أعرف ما تريد مني. لقد قرأت جميع أفكارك.”
صدى صوتها في الكهف، يرتجف قليلا.
كانت فيرونيكا تخشى النظر مباشرةً، فأخفضت عينيها وتابعت: “أنت تعتقد أن “الحاكم” نائمٌ في رأسي. لا بد أنك تأكدت عندما فقدت السيطرة في جبال بلاسين.”
لقد جعلت فيرونيكا مكلنبورغ هدفها بدلًا من ليون. لقد حققت اندماجًا كاملًا لم يحققه بشر آخرون، دون أن ينفجر رأسها – نجاة دون قوة مقدسة، والتلاعب بالهواء، وفتح وإغلاق “الجفن الثاني” للتحكم في رؤية الباهاموت كما تشاء.
كان كل ذلك ممكنًا بفضل الحاكم. ورغم غرابة الأمر، إلا أنه كان أمرًا طالما شكّت فيه. والآن، أصبح التشكيك في إمكانية حدوثه أشبه بمجادلة المنطق مع الحقيقة.
“هل تريد أن تصبح مثل كائنات هذه الأرض؟” سألت فيرونيكا بحزن.
كانت رائحة البحر المالحة المألوفة تملأ الجو. أتت هذه المخلوقات من عالم آخر – من البحر، تحاول التأقلم مع اليابسة، باحثةً عن حاكم السماء.
كان هذا تحديدًا الكائن الفريد الذي بحثت عنه فيرونيكا طويلًا في طفولتها. الوحيد من نوعه في العالم. والغريب أن معرفتها بذلك ملأها حزنًا. كان أمرًا غريبًا. كان عدوها، من قتل عائلتها وأصدقاءها، ومع ذلك شعرت بالشفقة. مخلوق وحيد، يكافح للتواصل مع هذا العالم – وإن كانت وسيلته هي الاستهلاك.
“لا أستطيع مساعدتك. أنا آسفة. لا أعرف حتى كيف أساعد، ومهما كان ما يجول في خاطري، فأنا ما زلت إنسانة. لا أعرف شيئًا عن الحاكم. أنا فقط أنا.”
ربما لم تكن الإجابة التي أرادها. أو ربما لم يفهمها. ظلّ مستلقيًا بجانبها، ساكنًا. منفرًا جدًا من النظر إليه مباشرةً، اكتفت فيرونيكا بنظرة سريعة، لكن عندما التقت عيناهما، لم تستطع أن تُشيح بنظرها عنه.
بؤبؤ العين داكن كالهاوية، وقزحية العين حمراء كالنار. نبضها.
دق، دق، دق.
شعرت بالسحر، كما لو كانت تحدق في نار مخيم مشتعلة في منتصف الليل. فقدت فيرونيكا إحساسها بالوقت، منجذبةً إلى اللهب الجميل. شعرت وكأنها فراشة، يلفها دفء الأم. متى كانت آخر مرة شعرت فيها براحة تامة، بلا أفكار أو هموم؟.
شعرت وكأنها عادت إلى المكان الذي تنتمي إليه حقًا.
مع تزامن أنفاسهما ونبضات قلبهما، تلاشى التوتر والحذر تدريجيًا. احمرّ الكهف المضاء بنور الشمس، وتألّقت أمامها صورٌ كالفانوس كما كانت خلال اندماجها الأولي – ذكرياتٌ في الغالب عن المصاعب التي واجهتها منذ سقوط بايرن. ليون يصوّب سيفًا على رقبتها، ونزلاء النزل الذين لم يدعوها ترحل، وقطاع الطرق في البرية، والبابا الذي عاملها معاملةً دونية، والإمبراطور اللامبالي، والأميرة القاسية.
نسيت فيرونيكا مخاوفها المُستمرة، وأسئلة انفصالها عن ليون، وهل نجا هانا وأوسكار بسلام؟ لم يعد أيٌّ من ذلك يُهمّها.
ما يهم الآن هو… نهاية الإنسانية الشريرة.
جابت نظرتها المكان وتوقفت عند زاوية مغمورة بأشعة الشمس. هناك، كان هناك سيف مقدس محفور عليه أسد – إرث مكلنبورغ. كان النصل الأبيض يلمع كما لو كان ينادي ليُمسك به. حدقت فيه فيرونيكا بنظرة فارغة، ونهض جسدها لا شعوريًا، ومدت يدها.
***
“ابتلعها بالكامل… ماذا تقول؟”.
شحب أوسكار، وبقي عاجزًا عن الكلام. لم يُقدّم ليون أي تفسير إضافي. جاء أوسكار ليُبلغ بوصوله وهانا بسلام، ليُفاجأ بخبر غير متوقع.
“هل ماتت؟ يا إلهي، اشرح أكثر – ماذا حدث، ما الذي أدى إلى ذلك…”.
“لقد أكلها باهاموت. هذا كل ما في الأمر. لا يوجد تفسير يُغير الوضع.”
كان جواب ليون مقتضبًا. صر أوسكار على أسنانه، عاجزًا عن الكلام.
“لقد أعطيتها سيفًا وتركتها تذهب لأنني وثقت بك.”
“……”
“رأيتُ آثار المذبحة على الأنقاض. كان مشهدًا مُرعبًا. أتقول لي إنك ثارتَ هكذا ولم تستطع إنقاذ امرأة واحدة؟ كيف تُسمّي نفسك رسول الحاكم بعد ذلك؟”.
حدقت عينا أوسكار المحمرتان في ليون، مطالبين بإجابة قبل أن يتوقف، كما لو كان يدرك شيئًا ما. لم يفشل ليون في إنقاذها على الرغم من ارتكابه المذبحة – فقد رسم الأرض بالدماء لأنه لم يستطع إنقاذها.
“اللعنة، اللعنة…!”.
غير قادر على احتواء غضبه، أمسك أوسكار بشعره وسقط على الأرض.
“لماذا… لماذا يعانى الأبرياء فقط…؟”.
نظر ليون إلى جسد أوسكار النحيل وملابسه السوداء الحزينة بنظرة لا مبالية. بدا أن موت عائلة أوسكار محتوم.
نعم، فقدت المدينة بأكملها عائلاتها وأصدقاءها. كان هذا الفقدان طبيعيًا ومتوقعًا تمامًا.
“هل فهمت مشاعر الآنسة شوارزوالد؟”
اخترق صوت أوسكار أفكار ليون. التقت نظراته بهدوء. ما رآه أوسكار هناك جعله يهز رأسه مرتجفًا.
“أنت قاسي.”
– “أنا أحبك.”
تناوبت أصوات المرأة وأوسكار في ذهن ليون. استدار لينظر من النافذة.
“بينما كانت في الممر الأسود، كانت تنادي عليك كثيرًا.”
– “أنا أحبك، لذلك كنت أنتظرد.”
“ولكنك لم تأت أبدًا، حتى أتت إليك بنفسها.”
لم يُقدّم ليون أي دفاع ضد كلمات أوسكار اللاذعة. كان أوسكار مُحقًا تمامًا، وليون، المُتغطرس حتى النخاع، يغرق الآن وحيدًا في بحرٍ من الفراغ، خاليًا من أي شعلة.
وجد ليون نفسه يتمنى لو يعود الزمن إلى الوراء – إلى أول مرة التقى بها، إلى بايرن. لو استطاع البدء من جديد، لربما خان الحاكم. كلا، سيفعل بالتأكيد. لأنه في ذلك اليوم، لم تكن هي من نجت، بل هو.
“مرحبًا، آسف لمقاطعة هذه المحادثة الجادة، ولكن هناك شيء تحتاج إلى رؤيته.”
حينها دخل هاينز من الباب المفتوح. كان سلوكه المتسرع مختلفًا عن سلوك النبلاء. شعر ليون بالتوتر في الأجواء. وبينما التقت عيناه بعيني هاينز، تنهد.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 73"