طرق، طرق. طرق الباب أطفأ لهيب عيني ليون. كان كأنه استيقظ من حلم كان يلعب فيه بالنار، ليفتح عينيه على واقع ممطر. انقضت تلك اللحظة العجيبة العابرة، ولن تعود أبدًا. شعرت فيرونيكا بحزن كاد أن يكون ألمًا. مسح ليون خدها وأطلق ضحكة قصيرة.
“هل تريدين أن تخمني من هو؟”.
بانج، بانج. عندما لم يأتِ رد، ازداد الطرق قوة.
“أعتقد أنه فارسكِ.”
ألقى ليون نظرة خاطفة على الباب قبل أن يتركها ويحاول الوقوف. أمسكت فيرونيكا بذراعه غريزيًا. لم يكن قرارًا عقلانيًا؛ بل لأنها شعرت أنه إذا مضت هذه اللحظة، فلن تتمكن أبدًا من كشفه مجددًا. إن لم يكن الآن، وهو في حالة ضعف – متأثرًا بأخبار مكلنبورغ.
تردد ليون، ناظرًا إليها، ثم استخدم يده الأخرى بلا مبالاة ليُبعدها عنه. كانت لمسة خفيفة، لكنها بدت غريبة. غمرتها يده الكبيرة، بعروقها البارزة، تمامًا قبل أن تُفلتها.
جلست فيرونيكا في ذهول، تحدق في يدها الفارغة. أصابعها، المفتوحة على مصراعيها، ترتجف وتتشنج ككائن حي.
“هل أنت هناك؟”.
جاء صوت مألوف من خارج الباب. سار ليون وفتحه دون تسرع.
ظهر أوسكار وهو يلهث بشدة. التصق شعره المبلل بجبهته، وارتفع صدره وكتفاه. عندما التقت عيناه بعيني فيرونيكا، تمتم قائلًا: “كنت أعرف ذلك”، قبل أن يبدأ بتوبيخها.
“هل تعلمين كم كنت قلقًا عندما اختفيتِ فجأة؟ كان عليكِ على الأقل إخبار أحدهم بمكان ذهابكِ.”
اشتكى أوسكار وهو ينفض شعره البني المتعرق. شكاوى – نعم، لم يكن غضبًا، بل قلقًا. هذا هو نوع التبادل العاطفي الذي كانت تتمناه مع ليون.
“أنا آسفة. لم أستطع إخبار هانا بكل شيء؛ لم أُرِد أن تتدخل دون داعٍ…”. اعتذرت فيرونيكا على عجل، وكان صوتها لا يزال أجشًا بعض الشيء بسبب الأحداث الأخيرة. حينها فقط فحص أوسكار وجهها بدقة. وجنتاها ملطختان بالدموع، ورقبتها محمرة، وشفتاها منتفختان، والسرير.
أصبح وجه أوسكار قاسياً قليلاً. “هل أنت هنا لتستعيدها؟ أُقدّر اهتمامك بها، لكن إن كنت هنا لتأخذها بعيدًا مرة أخرى، فهذا لن يُجدي نفعًا.”
انحنى ليون على الباب، وتحدث بأسف مصطنع، “هناك كلاب بابوية تلاحقني، وتحيط بالمكان لذا لا استطيع حملها معي”.
“…لا تتحدث عنها وكأنها شيء.”
“ومن هو الذي سرقها وكأنها شيء؟”. قام ليون بتمشيط شعره الأشعث للخلف، كاشفًا عن جبهته الناعمة.
“الفرسان المقدسون يتبعون الأوامر. ظننتُ أنك تعرف ذلك أكثر من أي شخص آخر. إذا علم قداسته بسقوط فارسه الحبيب، فسيصاب بخيبة أمل كبيرة.”
ضغطت شفتا أوسكار بقوة عند كلماته التي تشبه السكين. انحنت عينا ليون، اللتان تبعتا حركة يد أوسكار الانعكاسية، في ابتسامة باردة.
“ألمسني إن شئت، طالما أنك مستعد لتحمل العواقب.”
“لا!”
وقفت فيرونيكا فجأة، وكانت ساقيها المرتعشتين بالكاد تحملانها وهي تكرر نفسها.
“أنا بخير. دعني أذهب.”
رغم أنها لم تستخدم خطابًا رسميًا، إلا أن نظرتها كانت مُثبّتة على أوسكار. لم تكن تعرف مهارته، لكنها رأت سيف ليون بما يكفي لتُدرك استحالة فوز أوسكار.
“إن كنت تفعل هذا لأنك تشعر بالذنب تجاه ما حدث في الزنزانة، فهذا يكفي. لقد عوّضت عن ذلك بمساعدتي سرًا على الهروب.”
“لكن-“.
“لا أريد أي علاقة معك بعد الآن.”
رسمت فيرونيكا خطًا حازمًا. كان صوتها حازمًا، لدرجة أن أوسكار، الواقف بجسده المتوتر، بدا منهكًا. كان ذلك من أجله أيضًا.
كان ليون بعيدًا كل البعد عن صوابه الآن. فرغم أنه بدا هادئًا، إلا أن عينيه كانتا داكنتين بشكل ينذر بالسوء لفترة طويلة.
أي حركة خاطئة ستؤدي إلى كارثة. أوسكار هو من أخرج المرأة المزعجة التي تخلى عنها ليون.
في النهاية، وبعد لحظة طويلة، أرخى أوسكار قبضته على سيفه. لم يكن له الحق في التدخل أصلًا. فيرونيكا امرأة حرة، وإن اختارت البقاء بجانب ليون، فهذا هو الحل.
نظر أوسكار إلى وجهها الملطخ بالدموع، ثم انحنى برأسه أخيرًا وقال: “إذا احتجتِ إلى مساعدة، فابحثي عني. سأتحدث مع هذين الاثنين نيابةً عنكِ.”
هذا كل ما استطاع فعله. صرّ الأرضية الخشبية، وسرعان ما اختفى حتى ظله. تنهدت فيرونيكا بعد أن أغلق الباب. تكلم ليون بصمت.
“وداعٌ دامع. لا بد أنك أصبحتَ قريبًا جدًا.”
“… ماذا ستفعل معي الآن؟”.
“لا أعرف. ما زلتُ أفكر في الأمر. لا أريد أي اتهامات لا أساس لها. لكن إرسالكِ للموت سيكون مضيعة للوقت.”
بينما اقترب ليون، تراجعت فيرونيكا عفويًا. وعندما تعثرت على السرير، أمال رأسه قليلًا.
“سأحضر لك كتابًا. من الغد، دوّني كل ما ترينه.”
“هل هذا كل شيء؟”.
“لا.”
انحنى فوقها، وكان صوته خاليا من أي تسلية.
“لا تتركِ هذه الغرفة بدون إذني.”
كانت ظلال الغروب الطويلة تتلاشى. وسرعان ما سيحل الظلام الكئيب.
ليلة اشتعلت فيها النيران وحدها في قتال مصيره الهزيمة.
لم يكن هناك وقتٌ لفتح فمها والرد. قبل أن تتمكن، قبّلها مجددًا. ضغط ظهرها على السرير، وشعرت بالألم مجددًا. لكن هذه المرة، لم تُقاوم. عرفت أن الأمر لا طائل منه. أراد ببساطة أن يؤذيها. تحملت الضغط الساحق واللذة الجارفة. انهمرت دموعها.
على عكس ما كان عليه سابقًا، لم يتوقف ليون. بالطبع، لم يتوقف. لقد تُركت تلك البرية العجيبة خلفه، وأصبحت بعيدة المنال الآن.
‘هل أنتِ خائفة؟ لماذا ترتجفين هكذا؟’.
فكرت، إنه أمر خطير. ندوبه، من الأعلى، بدت اليوم كدموع جارفة. عينان بلا مشاعر. عينان لا تريدان سوى جلب العار والألم لها. لن يعانقها أبدًا.
‘الوحش الحقيقي ليس أنا، بل أنت.’
لو نستطيع أن نحترق معًا. لو نستطيع أن نرقص كشعلة واحدة.
***
ظلت المرأة تبكي حتى خرجت القوة المقدسة من جسدها الفارغ تقريبًا.
لم يكن لدى ليون أدنى فكرة عما فعلته أوسكار. لولا القوة المقدسة، لكانت قد ماتت بالفعل. ومع ذلك، ها هي ذا، على قيد الحياة، فلا بد أن شيئًا ما قد حدث. ومع ذلك، لم يكن هناك أي أثر للحيوية في جسدها. بل على العكس، بدا الأمر كما لو أنها تتلاشى تدريجيًا. أزعجه هذا.
تركها وحيدةً، وذراعاها تغطيان عينيها، وخرج من النزل. كان صوتُ الحجارة المرصوفة تحت قدميه خشنًا، مُدوّيًا.
مرّ الناس في الشوارع، كلٌّ منهم متجهٌ إلى منزلٍ دافئٍ حيث تنتظره عائلته. كان ليون الوحيد الذي يتجول بلا هدف. تصاعدت رائحة المرق ودخان المدخنة العطرة هنا وهناك.
توقف أمام النافورة في منتصف تقاطع طرق، يدوس على ثلجٍ مُسودّ وذوّب. ورغم أنه سار بلا وجهة، وجد نفسه واقفًا أمام الطريق المؤدي إلى الكرسي الرسولي. قبل اثنين وعشرين عامًا، ظهرت له صورةٌ – شابٌّ آنذاك كما هو الآن – أمام النافورة.
– “انسَ الماضي. من اليوم، اسمك ليون. ليون بيرج.”
أمال رأسه للخلف، يحدق في سماء الليل الحالكة السواد، بينما بدأت رقاقات الثلج تتساقط. عندما أغمض عينيه، ذابت البلورات الباردة على وجهه.
مات مكلنبورغ. ذاك الذي لم يبذل دمه وقوته المقدسة فحسب، بل أيضًا اسمًا جديدًا. رجلٌ سمّاه العالم “أبًا”.
لكنه لم يكن أبًا لليون قط. ولا حتى مرة واحدة. كان كل شيء إلا أبًا. فارسًا صامدًا في عزته، رجلًا لبس شرف الدوقية الكبرى كدرع. هدفًا ومنافسًا لكثير من المبارزين. جسر الوصل بين البابا والإمبراطور. فخر الأطفال والمواطنين. احترام. تبجيل. بطل.
“هاهاهاهاها.”
انفجر ليون ضاحكًا وسقط أمام النافورة.
مات مكلنبورغ. ألبريشت فون مكلنبورغ العظيم.
“أنت لم تكن ذا قيمة كبيرة بعد كل شيء،” همس وهو يمسك بجبهته.
هل رحل من أجلي؟ لا، هي لا تعلم شيئًا.
كان ليون مصدر عارٍ لمكلنبورغ طوال حياتها. كان من المتوقع أن يمتلك كل نبيلٍ من نسله قوةً مقدسة. ومع ذلك، في البداية، لم يُبدِ ليون أي اهتمام. لم يُدرك ليون مدى عظمة قوته المقدسة، ومدى بركات الحاكن عليه إلا بعد أن أدرك عظمة قوته.
الحاكم وحده أحب ليون، لا أحد غيره.
– “… هل كنت تعلم؟”.
“هل انت تبكي؟”.
توقفت أفكاره فجأةً عند صوت الطفل، فأعاده إلى الواقع. رفع ليون، الجالس بجانب النافورة الجافة، رأسه ببطء. كانت تقف هناك فتاة صغيرة تحمل دمية دب، وكان وجهها مليئًا بالفضول.
“ظننتُ أنك تبكي. هل كنتُ محقة؟ هل كنتَ تبكي؟”
“لا، لم أكن كذلك.”
في تلك اللحظة، وبينما كان يجيب، عاد شعورٌ رطبٌ غامضٌ إلى أصابعه. ابتسم ليون بهدوءٍ مجبرًا.
“لا يحتاج الأشرار إلى البكاء، فشخص آخر يبكي لأجلهم.”
“حقا؟ هل أنت شخص سيء إذن؟”.
سألت الفتاة بدهشة. لم يُجب ليون – أو بالأحرى، لم تُتح له فرصة الإجابة، إذ نادى أحدهم باسم الطفلة. نظر ليون في ذلك الاتجاه، فرأى امرأةً، نصف قلقة ونصف حذرة، تُشير للطفلة بالاقتراب.
“نعم، أنا شخص سيء. لذا عودي إلى والدتك”.
لم تُظهر عينا الطفلة البنيتان المستديرتان أيَّ فهم. لكنها بدت خائفةً بما يكفي للركض، تتعثر وتسقط في طريقها. بكت بصوتٍ عالٍ، كما كان الجميع يسمعها، حتى جاءت أمها واحتضنتها. ومع ذلك، بكت لفترة أطول.
راقب ليون المشهد بصمت قبل أن يقف. فكّر في دموعه. كان يعلم أن دموعها التي ذرفتها، دموع امرأة ادعت أنها لم تبكي، لم تكن لأجلها. أشفقت عليه. وعزّته على لامبالاته بوفاة والده. سقطت دموعها على روحه العطشى. دموعها تقطر.
أصابته موجة من الغثيان.
حدث خطأ ما. متى؟ من أين؟.
كان قلبه كأنه انفتح، وتركه عاجزًا. مع كل نبضة قلب، كان دمٌّ ينهمر. نظر ليون إلى راحة يده التي لامست دموعها. قبض قبضته، كما لو أنه سيحتفظ بهذا الشعور إلى الأبد. كان عليه أن يقتلها. كان عليها أن تموت. حتى لو فسدت عواطفه الراكدة وأحرقت روحه في النهاية.
كان هذا مصير ليون، لا نواه – رسول الحاكم. عندما رفع بصره، رأى الشوارع المظلمة، وفي الأفق، ظهور رفاقه الذين سقطوا في تيران. الثلج الذي بدأ يتساقط لامس الأرض، لكنه لم يصل إلى يده.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات