الفصل 71 – كوحش جائع
رغم أن الوليمة لم تكن سوى نار مخيّمة، وأرض موحلة، وأناشيد الفرسان المدوية مصحوبة بالتصفيق، إلا أنها كانت مليئة بالبهجة والحرية.
ألقى الجميع بالبروتوكولات الصارمة وراء ظهورهم، ورقصوا كالأطفال، غير مبالين بالأحذية المتسخة بالطين.
واصلت الرقص حتى ارتفع أنفاسي إلى الحلق واحمرّ وجهي بحرارة، ثم تعثرت قدمي بحجر صغير.
وفي اللحظة التي فقدت فيها توازني وهممت بالسقوط، قبض أحدهم على كتفي.
“آه، شكرًا…”
استدرت لأبدي امتناني، فكان كاردين هو من أمسك بي.
لفّ ذراعه حول خصري برفق، وجذبني نحوه فجأة، فغمرني دفء جسده وعطره الخاص الذي تسلل بقوة إلى أنفي.
ثم انحنى كاريدين وهمس بصوت خفيض عند أذني:
“لا، لا يمكنني السماح لكِ بالرقص مع أحد سواي.”
“ماذا؟”
أمر غريب… لماذا صوته يبدو بعيدًا جدًا؟
كأن كلماته تتردد من أعماق كهف مظلم، ورأسي يطن بشدة.
فجأة شعرت بدوار غريب وكأن عاصفة تعصف بداخلي، وحرارة حارقة تصعد إلى وجهي.
هل كان السبب الإفراط في الرقص؟ أم تأثير الشراب؟
بدأت حالتي تتدهور بشكل مفاجئ. قلبي يخفق بعنف، ودمائي تغلي وتضج بجسدي.
حاولت التنفس بهدوء وأنا لا أزال بين ذراعي كاريدين.
“شوشو، ماذا بكِ؟ هل أنتِ بخير؟”
وضع يده على جبيني كأنه يتحسس حرارتي.
كانت برودة راحة يده كفيلة بتبديد بعض من دوار رأسي.
“وجهكِ محمر بشدة… هل تعانين من الحمى؟”
“أنظر، أنا بخير تمامًا. لا شيء يدعو للقلق.”
لم أفهم ما الذي يحدث لي. لوّحت بيدي كأنني أبدد الحرارة، لكن بلا جدوى.
“لا. يجب أن ترتاحي.”
ثم مدّ يديه أسفل ركبتيّ ورفعني إلى صدره، كما يُحمل الأميرات.
صدمت من تصرّفه المفاجئ، ولففت ذراعي حول عنقه لا إراديًا خشية السقوط.
“د-دوق كاريدين؟!”
لكنّه لم يلتفت لاستغرابي، وخرج بي من قاعة الوليمة دون أن يعبأ بنظرات الآخرين.
انتابني الحرج، فخفضت رأسي خشية أن يراني أحد على هذه الهيئة.
ولحسن الحظ، كان الجميع منشغلين بالاحتفال فلم يلاحظوا خروجنا.
قادني كاريدين إلى خيمة نُصبت في طرف القاعة.
كانت الخيمة تحتوي على أريكة وطاولة، يتلألأ فيها ضوء المصباح بهدوء ينير الداخل بأناقة خافتة.
أنزلني بلطف على الأريكة.
“ارتاحي قليلاً. سأحضر رون إليكِ.”
وحين همّ بالخروج، أمسكت بكمّه بسرعة.
“لا داعي لاستدعاء رون، إنه مستمتع بالحفل، لا أريد إزعاجه.”
“هل أنتِ متأكدة من أنكِ بخير؟”
رمقني كاريدين بنظرة مليئة بالشك، كأنه لا يصدق كلامي.
ابتسمت له بابتسامة مرحة كي أبدو مطمئنة.
“بالطبع، مجرد دوخة بسيطة. وإذا لم تصدقني، يمكنك البقاء بجانبي ومراقبتي.”
ضاق عينيه قليلاً، تنهد، ثم جلس بجانبي.
“حاولي أن تغلقي عينيكِ لبعض الوقت.”
ثم سحب رأسي بلطف، وأسندني على فخذه كما لو كان وسادة.
“م-مهلاً، لحظة؟”
شعرت بالحرج الشديد حين التصق خدي بعضلات فخذه القاسية، لكن لم أكن أملك الشجاعة لرفض إصراره، فقد كان عناده أقسى من أوتار الحوت.
“أريد فقط أن أتأكد من أنكِ بخير، استلقي الآن وارتاحي.”
صوته كان حازمًا كأمر لا يقبل الرفض، فاستسلمت لرغبته واستلقيت.
كنت مستلقية على الأريكة بثوب السهرة وحافية القدمين، مما جعلني أشعر بشيء من الحرج… ولكن بصراحة، كان الوضع مريحًا.
غطاني كاريدين بردائه برفق بالغ، كما لو أنه يدفئ طفلًا نائمًا.
“أنا حقًا بخير. لا تعاملني كطفلة.”
عبست شفتي قليلاً، فضحك بخفة وهو يدير وجهه للجانب.
كاريدين يضحك أحيانًا مهما فعلت، كأنه لا يستطيع مقاومتي.
تقلّبت قليلًا تحت عباءته ونظرت إليه.
كان منحنيًا نحوي يحدق بي بصمت.
انعكست أنوار المصباح في عينيه الزرقاوين، فبدتا كأعماق البحر، عميقة وساحرة.
تسمرت نظراتي في عينيه دون أن أشعر. دائمًا ما أشعر أنني محاصَرة في عالمه حين أحدق به.
كانت الخيمة تتمايل مع الريح، والضوء يتراقص على ملامحه كظلال متحركة.
مددت يدي لا إراديًا ولمست وجنته البارزة.
“شوبيليا…؟”
كان صوته مترددًا، متقطع الأنفاس، رغم أنني لم أفعل سوى أن لامست وجنته بلطف.
يا له من رد فعلٍ مفاجئ من شخصٍ لطالما بدا لا يعرف للخوف سبيلًا… إنه يبدو مختلفًا، ورقيقًا على نحو غير متوقّع.
لا أدري إن كنت مشوشة بسبب الحمى أم أن شيئًا ما داخلي تغيّر.
بأنامل مرتجفة، مررت على وجنته، ثم إلى خط فكه، حتى وصلت إلى فمه الذي بدا بلونٍ أحمرٍ دافئ.
ارتبكت حين نظرت إلى شفتيه، وأدركت فجأة أنني كنت متعطشة لشيءٍ ما… شيءٍ خفيٍّ لا أستطيع وصفه.
هل لاحظ اضطرابي؟ ابتلع ريقه ببطء، كأن قلبه يشاركني ذات الحيرة.
كنت بالفعل عطشى… لكن ليس للماء.
منذ أن نظرت إليه، عادت إلى ذاكرتي نكهة سحره التي جربتها سابقًا… دافئة، حلوة، لا تُنسى.
بدأ رأسي يدور، وشعرت كأن شيئًا يحترق في داخلي، وكل ما أردته هو أن أهدأ، أن أستمد شيئًا من تلك الطاقة المألوفة التي تشفيني.
“أنا… عطشى، يا دوق.”
نظر إليّ باستفهام، ثم قال بلطف: “هل أُحضر لكِ ماء؟”
هززت رأسي هامسة: “ليس
الماء… أحتاج القليل من سحرك.”
بدت عليه المفاجأة للحظة، ثم ابتسم بأسف، كأن شيئًا ما تذكّره لتوّه.
“صحيح… كان ينبغي أن أمدّك به منذ فترة. سامحيني.”
بدأ يفك أزرار كمّه بهدوء، كمن يتهيأ لأداء واجب يعرف أهميته، لكن حركته بدت أبطأ من صبري.
لم أتمالك نفسي، فمددت يدي إليه وجذبته نحوي دون تفكير.
“شوشو؟”
ناداني بدهشة، لكن صوته اختفى حين اقترب وجهانا، وتلامست شفاهنا بهدوء.
في تلك اللحظة، أحسست بالسحر يتدفق إلى داخلي، رقراقًا ودافئًا، كأنه ماء الحياة.
ضممته برفق، أستمد منه القوة، وكأنني أرتوي من نبع أمانٍ وسكينة.
كانت همسته قريبة: “شوبيلّيا… أنتِ جزء مني.”
يده مرّت على ظهري بخفة، تبعث الطمأنينة، فشعرت بأن دفء السحر يملأني ويهدّئ ما بي من توتر.
اقتربت منه أكثر، أستلهم من طاقته، من وجوده، من تلك الروح التي تشعرني أنني لست وحدي.
لا أدري متى وجدت نفسي جالسة على ركبتيه، ونحن نتبادل هذا الاتصال الروحيّ العميق، لا كلمات فيه، بل طاقة خالصة.
خفقات قلبه كانت عالية، تتناغم مع خفقات قلبي، وكنت أرى في عينيه شيئًا أكبر من اللحظة.
نظرت إلى عنقه… لم أفكر بشيء سوى أن أطلب سحره فقط، ذلك النبع الذي منحني دومًا الطمأنينة.
لم تكن رغبة عابرة، بل حاجة روحٍ عطشى للشفاء.
* – أستغفِرُ الله الْعَلِيُّ الْعَظِيم وَأَتُوبُ إِلَيْهِ .*
وابتسمت بخفوت، شاعرةً بلذة هذا السلام العميق الذي اجتاحني.
عندها، اهتزت الخيمة بعنف!
“شوشوووو!”
صوت ثمل صاخب كاد يشق رأسي – أحدهم يصرخ باسمي من الخارج.
“شوشو! أين أنتِ؟!”
كان صوت يوديث، يبحث عني بجنون من خارج الخيمة… فأفقت كمن خرج من حلم.
ما الذي أفعله الآن؟!
فتح كاردين عينيه ونظر إليّ.
كانت عيناه الحمروان تلمعان بنظرة مشتعلة لا أستطيع تفسيرها
لكن بداخلها أيضًا، اشمئزاز واضح من هذا التدخل الطارئ.
“…آه…”
أخيرًا استوعبت الموقف. يداي المرتجفتان تلامسان كتفيه.
عضضت شفتاي المرتعشتين لأمنع نفسي من الانهيار.
كنت… ألهث وراء سحره كوحش جائع… كأنني أراه مجرد فريسة.
حين أدركت ما فعلته، اجتاحتني موجة من الخجل والذنب.
“شوشو، ماذا بكِ؟”
سألني كاردين بعينين مملوءتين بالقلق، فابتعدت عنه بخجل عميق، دون أن أجرؤ على رفع نظري إليه.
أنا آسفة جدًا… لا أستطيع حتى النظر في وجهه.
* * * *
﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
- سُبحان الله .
- الحَمد لله .
- لا إله إلا الله .
- الله أكبر .
- لا حَول و لا قوة إلا بالله .
- سُبحان الله و بِحمده .
- سُبحان الله العَظيم .
- أستغفِرُ الله الْعَلِيُّ الْعَظِيم وَأَتُوبُ إِلَيْهِ.
-لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
-اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.
-يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك .
التعليقات لهذا الفصل " 71"