الفصل 67 – لقد تأذيت قليلًا
“هل كان لا بد أن تصلي إلى هذا الحد؟”
تنهد أوين بخفة، وعلى وجهه أمارات الحرج.
لكن تنهيدته لم تكن سوى وقود لصبّ الزيت على نيران غضب يوديث، فاستلت سيفها من خاصرتها كالصاعقة، دون تردد.
“الفارس يردّ بالسيف، لا بالكلام. كفّ عن الثرثرة واشهر سيفك!”
ساد صمت ثقيل في ساحة التدريب، حتى بدا أن الهواء نفسه قد توقف عن الحركة.
انتظري لحظة… الأجواء أصبحت متوترة للغاية! هل سيتواجهان بالسيوف الحقيقية بهذه السرعة؟!
صحيح أن يوديث سريعة الغضب، لكن هذا… هذا جنون. التحدي بهذا الشكل لفارس التقت به للتو؟ تصرف متهور للغاية.
حتى الجنود من حولنا بدوا مرتبكين، يهمسون فيما بينهم إن كان عليهم التدخل. أما رون، فقد أخذ يذرع المكان قلقًا.
“الوضع سيئ… يبدو أن السيدة يوديث غاضبة بحق. وإذا غضبت، فلن يوقفها أحد.”
أوين، وقد بدا أنه لم يعد بإمكانه التراجع، انحنى باحترام، ثم مدّ يده نحو سيفه المعلق على خصره.
لا، لا يمكنني الوقوف مكتوفة الأيدي.
كلاهما بلغ حدّ الغليان! لما يتشاجر اثنان من نفس الجانب؟! ليسا طفلين!
قفزت بخفة من بين ذراعي رون، واقتحمت المسافة الفاصلة بين يوديث وأوين.
“شوشو! إلى أين تذهبين؟”
“لإيقاف القتال.”
ولوحت بذَيْلي الكثيف، فهبت عاصفة جليدية خفيفة وسط الساحة. هوووش!
تساقطت ندف الثلج اللامعة بين الاثنين، تلتف حولهما كستار ناعم من البرد.
هبّت عاصفة بيضاء على رؤوسهما، تبرد الدماء المتقدة.
“ما هذا…؟!”
عينا يوديث اتسعتا دهشة، وفي تلك اللحظة وقفت بثبات بينهما، أنظر من واحدة إلى الأخرى.
“كفى كلاكما. التقطا أنفاسكما! أنتما في صفّ واحد، فلمَ تتقاتلان؟!”
“شوشو… أعتذر. لقد تسرّعت.”
أوين انحنى ليعتذر، بينما بقيت يوديث تحدّق بي بدهشة ظاهرة.
“أأنتِ… حيوان ناطق قادرة على استخدام السحر؟”
“نعم. استخدمت سحري لأوقف القتال بينك وبين السير أوين.”
“وهل هذه من شأنكِ؟”
قالتها يوديث ببرودٍ قاطع. توقعت ذلك، لكن لا يمكنني الانسحاب الآن.
“أنتِ أخت الدوق، والسير أوين فارس مخلص له. سمو الدوق لن يرضى أن يتقاتل أحباؤه.”
حدّقت بي بصمت، ثم أخذت نفسًا عميقًا وأعادت سيفها إلى غمده ببطء.
تنفست الصعداء.
ثم استدارت إلى الجنود المتجمهرين وأمرت بصوت صارم:
“انتهى التدريب لهذا اليوم. تفرقوا!”
تحرّك الجنود بارتياح، يؤدّون التحية في انسجام.
“شكرًا لكم، سيدتي يوديث.”
أوين تقدم بخطوة وانحنى احترامًا. رمقته بنظرة متفحصة، وقالت:
“سأتذكرك، السير أوين. وقوفك من أجل رجالك، لا بأس به.”
لم يتوقّع الإطراء، فارتبك للحظة، ثم انحنى شاكرًا بنظرة هادئة.
لحسن الحظ… يبدو أن يوديث بدأت تنظر إليه بإيجابية.
تجمّع الجنود حول أوين، يسألونه بقلق إن كان بخير، فابتسم يطمئنهم بلطف.
“ماذا عنكم أنتم؟ عالجوا المصابين أولًا.”
كان واضحًا أن تدريب اليوم كان شاقًا، فقد بدت عليهم آثار الإرهاق، وبعضهم جلس من التعب، يشكون من الكدمات والشد العضلي.
رون هرع نحوهم، يطلق تعاويذ الشفاء، لكن العدد كان أكبر من أن يتولّاه وحده.
“سأساعدك، رون.”
ركضت نحو أحد المصابين، ووضعت يديّ الأماميتين على كتفه، لتخرج منهما أنوار ناعمة تشعّ دفئًا.
على الفور، استرخى الجندي، وزال الألم عن ملامحه.
تابعت التنقل من واحد لآخر، أضغط بأقدامي الصغيرة فوق أجسادهم، وقلبي يمتلئ بالرضا وأنا أرى الابتسامة تعود إليهم.
قدرتي على الشفاء تطوّرت كثيرًا مؤخرًا، مجرد لمسة خفيفة تكفي لتخفيف آلامهم.
“شوشو، شكرًا لك!”
“سأجلب لك غدًا كمية من اللحم المجفف!”
“تريدين كعكة؟ أي نوع تحبين؟!”
ابتسمت بفخر، وهززت رأسي بحماس.
“أي شيء سيكون رائعًا. فقط لا تنسوا أجري، هذه خدمات مدفوعة.”
بدأت أفكر… ربما عليّ أن أفتح عيادة علاج مستقبلًا، حين أستقلّ عن هذا المكان.
لا يمكنني أن أظلّ “حيوانًا أليفًا” إلى الأبد، أعيش تحت رحمة غيري.
لكن بينما كنت أرسم خططي العظيمة، شعرت بنظرة تلسع مؤخرة رقبتي.
نظرت خلفي بحذر… لتقع عيناي على يوديث، ما تزال واقفة هناك، عاقدة ذراعيها، ترمقني بنظرة صارمة.
ما الأمر الآن؟ هل فعلت شيئًا خاطئًا؟
من الأفضل أن أنسحب، قبل أن تنفجر في وجهي.
“أيتها الثعلبة… أنتِ…”
نادَتني فجأة، فتخشبت مكاني، وقفز ذيلي في الهواء من الخوف الفطري.
قبل أن تتحدث، اقترب أحد الجنود مسرعًا.
“سيدتي يوديث، سمو الدوق يطلب رؤيتك في الحال. ويرغب بحضور الآنسة شوشو أيضًا.”
“أنا؟ الدوق يريد رؤيتي؟”
رفعت حاجبها، ثم أومأت برأسها موافقة، وتوجهت فورًا نحو مكتب الدوق.
أنا أيضًا؟ لماذا؟
أمالت رأسي في حيرة، ثم لحقتها بخطى حذرة.
طوال الطريق إلى مكتب الدوق، لم تنطق يوديث بكلمة. كانت تسير أمامي بخطى رشيقة، وأنا خلفها أشعر وكأنني أمشي على جليد رقيق.
شعرها الأسود اللامع يتمايل في النسيم… يا للجمال! في عالم لا يعرف البلسم، كيف تحافظ على هذه اللمعة؟!
بين الحين والآخر، كانت تلتفت قليلًا، كما لو
كانت تتأكد أنني ما زلت خلفها.
هل… هل تهتم لأمري؟
في الواقع، أريد أن أكون صديقتها. لكن لا أعرف كيف.
لطالما نجحت جاذبيتي في كسب قلوب الجميع… لكن يوديث؟ صخرٌ لا يلين.
كيف أجعلها تقع أسيرة لطافتي؟!
تابعت النظر إليها، حتى اصطدمت بكعب حذائها عندما توقفت فجأة.
سقطت على ظهري، وانكشفت بطني المنتفخة.
يا للحرج!
حاولت الوقوف بسرعة، لكن يدًا ناعمة اقتربت من رأسي.
“أنتِ…”
مدّت يدها، ثم توقفت في منتصف الطريق. تقوّست حاجباها، وعضّت شفتيها بقوة.
تألم وجهها الجميل وكأنها تحاول كتم ألمٍ داخلي.
ثم تراجعت بسرعة، أدارت ظهرها، وفتحت باب المكتب.
“أنتِ عبء. لا تلاحقيني دون إذن.”
تجمّدت في مكاني.
بصراحة… شعرت بالخذلان. هل تكرهني إلى هذا الحد؟
دخلت المكتب خلفها، لأجد كاردين جالسًا في ركن الاستقبال، وقد ارتسم الضيق على وجهه.
رمقني بنظرة حادة ما إن رآني.
“شوشو، أين كنتِ؟ لم تتناولي الفطور معي.”
“كياو؟”
“أنا من أطعمكِ، وأحضنك، وأدللك… وها أنتِ تخونينني بهذه السرعة؟”
“خيانة؟! عمّ تتحدث؟!”
صفقت على السجادة بأقدامي أمامه من شدّة الغضب.
غطى فمه، وهو يهتزّ من كتمان الضحك.
مايلد، بابتسامته الهادئة، أيد موقفه.
“سمو الدوق كان ينتظركِ لتتناولا الفطور معًا.”
“لمجرد هذا؟! أيعقل أن أتخلف عن الإفطار ويكون هذا السبب؟! متى سيكبر هذا الدوق ويتعلم الاعتماد على نفسه؟!”
كنت على وشك الانفجار.
نظرت إليه بجدية، أعطيه درسًا، لكن كل ما فعله هو أن أومأ برأسه موافقًا:
“إذاً، من الآن فصاعدًا، افطري معي.”
“أنا لا أقول إنني سأفطر معك، بل إنك يجب أن تتوقف عن الاعتماد عليّ!”
بينما كنا نتجادل، كان مايلد يبتسم في الخلف، كأن الأمر كله كوميديا لطيفة.
آه، ليت أحدهم يساعدني في تهذيب هذا الدوق.
عندها، أخيرًا، تحدّثت يوديث، التي ظلّت صامتة طوال الوقت.
“لقد تغيّرت كثيرًا يا أخي.”
كانت كلماتها باردة، لكنها ثابتة.
تجمّد وجه كاردين.
“يوديث… ماذا تقصدين؟ هل تريدين افتعال الشجار؟”
التعليقات لهذا الفصل " 67"