تمسّكت آيلي بطرف ثوبها بإحكام، ثم أومأت برأسها بثبات.
“أجل، هذا صحيح.”
عند هذا التأكيد، انتظرت سيلا بصمت، تُحدّق بعينين ثابتتين في ملامح الطفلة المرتبكة، منتظرةً أن تبوح بما في نفسها.
ارتجفت شفتا آيلي الصغيرتان قليلًا، قبل أن تنفرجا بالكلمات.
“اختي سيل… هل يمكننا التحدث على انفراد؟ فقط أنا وأنتِ؟“
ابتسمت سيلا برقة وقالت.
“ما دمتِ ترغبين في ذلك، فلنفعل.”
وقفت وطلبت من بقية الأطفال تفهّم الأمر، ثم التفتت نحو كاليكس، التقت نظراته، وأشارت له أنها سترافق الطفلة لبعض الوقت. لكنها ما إن همّت بالحركة، حتى قاطعها صوت مختلف، واضح النبرة، ليس صوت طفل.
“هل كنتم مؤدبين؟“
تسللت تلك الكلمات إلى الأجواء، لتقطع سكون اللحظة. استدار كل من سيلا وكاليكس على الفور نحو مصدر الصوت.
ثلاثة بالغين وصبي.
لم يكن من الصعب معرفة هويتهم.
لقد عثروا على الطفل المفقود.
الصبي الذي يُدعى هيوغو كان يُقاد من قِبل البالغين، ورأسه منكّس بانكسار. ثم، كمن استيقظ فجأة من غفوة، رفع رأسه فجأة، وعيناه تتفحّص المكان بقلق، حتى وقعتا أخيرًا على سيلا.
لا، بل على من كانت تقف خلفها بقليل.
“…آيلي…”
وصل صوته بالكاد، محمولًا على نسمة عابرة. أحسّت سيلا بالرجفة الخفيفة التي سرت في جسد الصغيرة إلى جوارها. التفتت نحوها، فوجدت آيلي تعض شفتها بقوة حتى تشكّلت خطوط باهتة حول فمها.
“ذلك الغبي… هيوغو.”
ثم، ودون إنذار، استدارت آيلي وركضت مبتعدة في اتجاه مجهول.
“آيلي؟“
لم تسنح الفرصة لسيلا لملاحقتها، إذ اختفت الطفلة عن الأنظار في لحظات. وبينما كانت سيلا مترددة، لا تدري ما إذا كان عليها اللحاق بها، سمعت وقع خطوات ثقيلة، مهيب.
دَق… دَق…
امرأة بشعر بنفسجي مصفف بإحكام تقدمت نحوهما بخطى هادئة وثابتة.
“لم يتم إعلامي بأي زوّار اليوم. من أنتما؟“
كانت نبرتها رقيقة، لكن الحذر يتخلّل كل حرف فيها. نظراتها الحادة جالت في سيلا كما لو أنها تزنها بسيف غير مرئي، متأهبة لأن تهاجم إن شعرت بالخطر.
لابد أنها هي.
استعادت سيلا المعلومات التي قرأتها بتفصيل في العربة، ثم فتحت فمها لترد.
“أعتذر عن الإرباك. جئت لأقابل نائبة المدير، فلوينا.”
“أنا هي.”
ردّت المرأة، وقد ضاقت عيناها بشك واضح، وكأنها كانت قد قررت مسبقًا أنّ وجود سيلا غير مبرّر. رفعت إصبعًا مهددة، توشك أن تطلب منهما الرحيل.
لكن قبل أن تتفوه بكلمة أخرى، وضعت سيلا خصلات شعرها خلف أذنها، وقالت بهدوء.
“لقد اتفقنا أن نلتقي عند سفح تل سانباس.”
ارتجفت رموش فلوينا قليلًا عند سماع العبارة.
‘سفح تل سانباس‘
كانت تلك كلمة سرّ، إشارة ضمنية بين الراحل ماركيز آرسيل ونائبته، تُقال فقط حين يحلّ ضيف بالغ الأهمية.
“هل من الممكن…؟“
اتسعت حدقتا عينيها وهي تحدّق في سيلا من جديد، فبدأت تُدرك أخيرًا تلك الهالة النبيلة التي تحيط بها، والتي استعصت على الاختباء. بلعت ريقها بتوتر، ثم نظرت نحو الرجل الذي يقف إلى جوار سيلا، ثم تماسكت وأخفت ارتباكها.
تقدّمت سيلا بخطوة وقالت.
“ناديني سيل، نائبة المدير. أما هذا فاسمه ليكس.”
نظرت فلوينا حولها بسرعة، ثم همست.
“أرجو المعذرة. لقد شتّتني الأحداث الأخيرة، ونسيت تمامًا أمر الموعد. فلنذهب إلى مكتبي.”
دخلوا الغرفة، وكان عبير خافت من القهوة يملأ الأجواء، كأنّه يُحاكي ذاكرة بعيدة. جلست سيلا وكاليكس على الأريكة، بينما جلست فلوينا أمامهما.
“أعتذر بشدة عن فظاظتي السابقة. لقد فقدنا طفلًا من القرية المجاورة، وكانت أعصابنا مشدودة، فأخطأت بحقكما.”
ردّت سيلا بلطف، مانعة فلوينا من الانحناء.
“من الطبيعي أن تتوخي الحذر في مثل هذه الظروف. نحن من أتى دون سابق إنذار.”
وضعت فلوينا يدها على صدرها، ثم انحنت خفيفًا وقالت.
“أشكركِ على رحابة صدركِ.”
ثم نهضت وهي تحمل مفاتيح صغيرة، أصدرت رنينًا خفيفًا، كأنه إعلان عن بدء فصل جديد. عادت بصندوق قديم أخرجته من درج، وجلست أمام سيلا، ثم وضعته على الطاولة.
“الراحل ماركيز آرسيل كان نعمة لا تُقدّر بثمن في حياتي.”
نفضت الغبار المتراكم على سطح الصندوق، بينما نظرتها غابت في زمن مضى.
“كنتُ مجرد لصّة وُلدت في فقر مدقع، لا أملك شيئًا ولا أُجيد شيئًا. منحني فرصة جديدة لأصبح إنسانة مختلفة.”
ابتسمت ابتسامة باهتة، كأنها تُخاطب شبحًا من الماضي لن تراه مجددًا.
’ألم يكن جدي يشارك في الأعمال الخيرية؟‘
استعادت سييلا مشهدًا قديمًا… رأسها مسند إلى حجر جدّها في حديقة غمرها النسيم.
[“إن لم يكن الأمر مستحيلًا، فلا تدر ظهرك لمن يطلب العون.”]
’كان يقول ذلك كثيرًا، ليس في الحديقة فقط، بل طوال حياته.’
كانت نصيحة يقدّمها ليس لها وحدها، بل كثيرًا ما شاركها مع الماركيز آرسيل وزوجته أيضًا.
وحين مات جدّي، تخلّيا عن كل مشاريع الخير مباشرة.
مرّ طعم مرّ في فمها، كمذاق قهوة سوداء شديدة السواد. انقبضت يدها لا إراديًا.
“لا بد أنكِ قرأتِ الوصية.”
“أجل، قرأتها.”
“كان قلقًا عليكِ دومًا، يتمنى أن تعثري على عائلتكِ الحقيقية. وأنا جئت لهذا الميتم لأجله، بعد أن عملت سابقًا مع أطفال في ميتم آخر.”
دفعت الصندوق نحو سيلا.
“في كل ميتم بالإمبراطورية، تُحفظ متعلّقات الطفل التي يأتي بها يوم دخوله. فهي قد تُسهم في العثور على أسرته ذات يوم.”
أومأت سيلا، فقد كانت تعرف تلك القاعدة.
“عادةً لا يطّلع على تلك الأغراض سوى المدير، لكنني خبأت صندوقكِ بنفسي، بعيدًا عن الأعين.”
قالت هذا بابتسامة مازحة، بدت فيها التجاعيد عند عينيها كأنها خطوط من حنانٍ قديم.
“لم أفتحه يومًا، ولا أعرف ما فيه، لكنني آمل أن يحمل لكِ شيئًا ذا معنى.”
مدّت سيلا يدها وسحبت الصندوق نحوها.
أغراضها الأولى حين دخلت الميتم. لم تكن تظن أنها ستشعر بشيء، لكنها الآن، وقد أصبحت وجهاً لوجه مع ماضيها، شعرت بجفاف في حلقها. تنفست بعمق، جمعت شجاعتها، وفتحت الغطاء بعزم.
“هذه…”
“حفّاظة طفل… ودمية.”
كان الغبار يغطي محتويات الصندوق. حفّاظة بيضاء قد اصفرّت أطرافها بفعل الزمن، ودمية غريبة الملامح، مفككة الأطراف، خياطتها غير متقنة، أشبه بشيء قد ينهار بمجرد لمسه.
لا يمكن أن تساعد في العثور على أحد.
وربما كان ذلك أفضل. فهي لم تكن تبحث عن أحد أصلًا.
همّت سيلا بإغلاق الصندوق والنهوض، لولا أن أوقفها ليكس.
“ليكس؟“
“هل لي أن أفحص هذه الأشياء عن قرب؟“
“بالطبع.”
رفع كاليكس الحفّاظة بحذر شديد، وفحص القماش بعين خبيرة، ثم قال.
“رغم اهتراء النسيج، إلا أن هذه ليست قطعة عادية. إن تأكدنا من مصدرها، فقد تكون من نوعية لا تُتاح لعامة الناس. والدمية أيضًا…”
“هل تقصد أن عائلتي الحقيقية قد تكون من النبلاء؟“
“لو افترضنا… فهذا ممكن.”
“ولكن، لو كانوا نبلاء، ألم يكن الأجدر بهم أن يشتروا دمية جاهزة أو يطلبوا من مربية صنع واحدة؟ أما هذه… فهي أقرب إلى كتلة من القماش.”
“ربما صُنعت يدويًا.”
“يدويًا؟“
“رغم عيوبها، قد تكون صُنعت بحبّ من أحد أفراد الأسرة.”
“هذا نادر… أليس كذلك؟“
فالنبيل عادة لا يضيّع وقته بأعمال لا يُجيدها، بل يُفضّل إنفاق ثروة على دمية مكسوّة بالذهب. نادرًا ما يتولى صنع شيء بنفسه.
“ليس مستحيلًا. دميتي المفضلة في الطفولة، مثل دمية القطة التي هناك، صنعتها أمي بيديها.”
اتسعت عينا سيلا بدهشة، أما كاليكس فتنحنح وقد احمرّ وجهه قليلًا، كأن الحديث عن دمية طفولته أمام من يحب أمر يفوق احتماله.
“قطة؟ هل ترى أنها تشبه قطة فعلًا؟“
“نعم. رغم بساطتها، يمكنك رؤية الأذنين والذيل والعينين.”
صمتت سيلا، تنظر للدُمية بتركيز. لاحظ كاليكس ارتيابها، فحوّل نظره إلى فلوينا. لكن الأخيرة تهرّبت من نظراته، وكأنها لا تريد الخوض في الأمر.
بدأت سيلا تتتبع وصفه بعين متفحصة. صحيح، الأذنان مستديرتان قليلًا، الذيل طويل لكن غير منتظم، والعينان مختلفتا الشكل، أما الكفوف؟ فهي مكونة من شكل بيضاوي وثلاث دوائر صغيرة… بالكاد توحي بأنها قطة.
“فكّري في تيتي، أليس فيه شبهٌ بسيط منها؟“
“حسنًا، الآن بعد أن ذكرتِ ذلك، أظن أن هناك شبهًا طفيفًا بالفعل.”
كانت تنظر إلى دمية القط سيئة الصنع (كما أصرّ كاليكس على تسميتها ) ورأت فيها ربما 1% من الشبه. لكنها لم تكن تُشبه تيتي كثيرًا.
‘تيتي أكثر ظرافة بكثير، لذا لعلّ هذه الدمية تشترك معها في… 0.01% من سحرها؟‘
لا، 0.001%. لا،لحظة، 0.00001%.
وبينما استمرت في حوارها الداخلي بإضافة المزيد من الأصفار، قاطعها ضحك خافت قطع خيط أفكارها.
لقد أطلقت فلوينا ضحكة ناعمة، وقد بدا عليها بوضوح مدى التسلية مما كان يجري أمامها.
“أعتذر، لكنكما تبدوان كثنائي جميل حقًا، فلم أتمالك نفسي.”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 47"