كدتُ أذعن لذلك السحر وأهزّ رأسي موافقة، لكنني سرعان ما عضضتُ على باطن شفتي.
“أصطحابك اليوم عسير، فالذي سنلتقيه….”
“ميااااااو—”
“حسنًا، سأحاول إذن.”
“مياو!”
تنهدتُ كمن يغسل وجهه جافًا، ثم رفعتُ تيتي بين ذراعيّ. هُزمت. نعم، لقد هُزمت. لطالما كنتُ ضعيفة أمام نظرته تلك. وأيّ إنسان يقع بصره على تلك العينين الساحرتين سيغدو ضعيفًا مثلي.
كيف لا، وعيناه أنقى من ندى الفجر، وأشدّ بريقًا من الماس، تفتكان بالقلب حتى لا يُترك أمامي إلا أن أُذعن.
‘ما دام الأمر أن لا أصطحب كاليكس وحده، فلا مخالفة في ذلك.’
أقنعت نفسي بجرأة، غير أنّ شيئًا من التوجّس أخذ يعبث بصدري وأنا أحدّق في تيتي بين ذراعيّ.
‘هل يعقل أن يكون الأمير قد حال بينه وبين المجيء، فاضطر أن يتجسّد في هيئة قط؟! لا… لا بدّ أنّها مجرد أوهام.’
لكن ما إن رأيت تيتي حتى خطر بذهني كاليكس، فأطرقتُ برأسي نافضةً ذلك الوهم.
وما أن خرجتُ من القصر حتى توقفت أمامي عربة بيضاء ناصعة وكأنها تنتظر قدومي.
“يا للأسف، لقد جعلتُ آنستنا تنتظر.”
“……ولِمَ حضرتَ بنفسك متنكّرًا حتى بوضع باروكة؟”
“أتسألين ما هو بديهي؟ جئتُ بالطبع لأرافقك.”
كنتُ أعلم أنّه سيرسل العربة، لكن أن يأتي بنفسه لم يكن في الحسبان. حدّقتُ فيه بدهشة، وقد جلس متبسمًا بمكر والباروكة البنية تميل على رأسه بلا اكتراث، ثم ألقى بنظره إلى تيتي.
“وهذا القط؟”
“إنه رفيقي.”
“همم… قد سمعتُ عن ذلك، لكن لم أتخيل أنكِ حقًا تقتنين قطة.”
كان الناس ينفرون من القطط ويعدّونها نذير شؤم، ونادرًا ما يربيها أحد. لقد واجهتُ عائلة الماركيز حين أرادوا التخلص من تيتي، ولولا أنّ ليليا يومها ساندتني لما تمكنت من الاحتفاظ به.
‘طبعًا، مساندتها لم تكن حبًّا لي، بل لغاية في نفسها… أرادت أن أُلامَ بامتلاك قطة مشؤومة.’
“لقد أصرّ على مرافقتي، أيمكن أن نصطحبه؟”
“أما تخشين أن يضطرب خارج بيته؟”
“لا، سيكون بخير.”
“إن قلتِ ذلك، فليكن.”
وافق لوكاس بسهولة، غير دارٍ بتلك النظرات المتقدة التي كان تيتي يصوّبها إليه.
تحرّكت العربة التي تقلّ الاثنين ومعهما القطّ بخفّةٍ وهدوء.
لكن خلفنا، حين غاب آخر أثر للعربة، أطلت من وراء شجرة فتاة بعينين متسعتين كالظبي. كانت تيفاني.
‘ما الذي رأته عيناي؟!’
سيلا… ورجلٌ، وإن أخفى ملامحه بشعرٍ مستعار، فقد كان بلا ريبٍ وليَّ العهد. كانت قد لمحته من قبل حين كانت أنستها تلتقي بالآنسة هايلي، ولذلك حفظت وجهه جيّدًا
ارتجف قلبها ارتجاف الطبل، وتهاوت أنفاسها المضطربة، حتى سقطت من يديها بعض متاعها.
‘حتى قبل أيام خِلتُ أنّ مصيري سيؤول إلى ما آلت إليه…’
بيد أنّ الرعب الذي غطّى ملامحها منذ قليل تبدّل سريعًا إلى بريق أمل. فبعد أن تغيّر مقام ليليا، تبدّل معه حال تيفاني في القصر، وزاد الأمر سوءًا أنّ الخادمة ليزا ـ المرافقة الدائمة لسيلا ـ كانت مجدة وبارعة وأحبها الجميع، فباتت تيفاني تُقارن بها على الدوام.
لكن… إن هي أفشت ما رأته للتوّ!
ارتسمت على فمها ابتسامة مرتجفة وهي تلتقط متاعها على عجل.
“آنستي! آنستي!”
هرولت بخطى لاهثة.
****
في ركن قصيّ من العاصمة توقفت العربة. كان المكان مقهى صغيرًا يملكه القصر، فارغًا من الزبائن. بدا الأمر وكأنه خُصّص لنا.
تقدّم لوكاس بخطى واثقة، فاتبعته في صمت.
“فكرتُ طويلًا أين ألقاك، ولما كنتِ تحبين الحلوى… ها نحن هنا.”
آه… مكعبات السكر.
“حتى في الحديث، لا بدّ أن يكون على مائدة طيبة.”
“كما ترى، يا سمو الأمير.”
“ها قد اتفقنا، إذن. ولكن قبل أن تأتي الحلوى…”
خفض عينيه إلى تيتي.
“أيجوز لي أن ألمسه؟”
“فششش!”
لم أفتح فمي بعد، حتى انتفش تيتي وأطلق زمجرة حادة، وذيله يضرب الطاولة كالجلد.
“هو كالسوط!”
“المعذرة. إنه لا يطيق أن يلمسه أحد.”
“لا بأس، لا أُكره من لا يريد.”
لوّح بيده كأن الأمر لا يعنيه، وأسند ذقنه إلى راحته. وبعد هنيهة جاء الخادم بصينية الحلوى. تناولتُ حبة ماكرون ووضعتها في فمي، فارتجفت أهدابي ارتجافًا خفيفًا.
“ألذّ ما يكون، أليس كذلك؟ هذا المقهى بارع في صنع الحلويات.”
“……حقًا.”
“أذواقنا واحدة، عجيب. أما هايلي، فكانت تجد حلواهم هذه مفرطة السكر.”
ابتسم وهو يرفع حاجبًا، ثم رشّف من فنجانه وألقى إليّ نظرة ماكرة.
“فلنبدأ إذن بالحديث الجوهري.”
وضعتُ الشوكة وأطبقتُ بيدي على تيتي، أستمدّ منه سكينةً وأنا أستعدّ لسماع ما شغلني طويلًا.
“حين كنّا صغارًا، أهديتِني رسالة حب.”
“ماذا؟!”
“…..”
في اللحظة ذاتها انتفش تيتي كالقنفذ، وبثّت هيبته القاتمة بردًا في أجواء المقهى. ارتعد لوكاس لحظة، إذ حسب أنّ كاليكس قد حضر، قبل أن يتلفّت مطمئنًا ثم يزفر.
“سموك، سامحني، أظنّني قد أسأت السمع… أعِدها عليّ رجاءً.”
“ألا تذكرين؟! لقد كنتُ حبكِ الأوّل، بلا ريب.”
تقلّص جبيني حتى تشوّه ملامحي. لم أستطع ضبط تعابيري، فرفعت فنجان الشاي إلى شفتيّ متظاهرةً بالهدوء، وأنا أستشيط فكرًا.
‘مهما يكن مزاح الأمير خفيفًا، فليس من عادته أن يمزح في مثل هذا.’
شعرتُ بصداع يتفجّر في رأسي، وابتلعت ريقي بمرارة.
“لقد قلتُ من قبل إنني في ذلك الحين لم أحبَّ أحدًا قط.
وإن كان انطباعي عن سمو ولي العهد حين أبصرته لا يتجاوز كونه خطيب هايلي ليس غير.”
لم تتذكر جميع تفاصيل طفولتها، غير أنّها كانت على يقينٍ من أمرٍ واحد. أنّها ما كانت لتقع في هواه.
‘حتى لو أن قلبها قد مال إليه يومًا، فكيف لها أن تفعل وهو رجل صديقتها؟’
حين رحل الماركيز آرسيل السابق عن الدنيا، لم يمض وقت طويل حتى استبدّ بها شعور الفقد، وفي تلك المرحلة، حيث كانت أشد ما تخشى فقدان الأحبة، لم يكن بوسعها أن ترتكب مثل ذلك الجنون، ولو خطأ.
‘المهم أنّ هايلي نفسها تصدّق هذه الترهات…’
بدلًا من أن ترفع يدها لتداعب صداع رأسها، مدّت يدها لتمسّد رأس تِيتِي.
قالت.
“هل لي أن أسأل عمّن كان رسول تلك الرسالة؟”
إنّ ثقتها العمياء بصدقها يوحي بأنّ من حملها كان شخصًا محلّ اعتماد، ولو وضعنا جانبًا أنهما كانتا طفلتين حينها.
“كانت السيدة كاساندرا.”
“إنها مرضعة سمو ولي العهد.”
“أجل، انها مرضعتي.”
وما إن خرج اسم السيدة كاساندرا من بين شفتيه، حتى فغرت سيلا فاها. إذ اتّضح لها سبب ثبات ذلك الإيمان لديهم.
فلم يكن ولي العهد وحده، بل حتى الأمير الذي فرّ من القصر نشأ في حجرها، وكذلك قيل إن الإمبراطورة نفسها كانت تعتمد عليها كالأم والأخت.
‘ألم يقولوا إنها الآن متقاعدة، تعيش مع زوجها في منزلها الخاص؟’
حين حدّقت سيلا في فنجانها، ارتسمت في عينيها بادرة عزم.
عليها أن تلتقي كاساندرا. فإن كان في هذا الأمر سرّ، فلن يعرفه سواها.
‘أول ما أعود، سأكتب إليها رسالة…’
وبينما كانت تجمع شتات فكرها وترفع الفنجان إلى شفتيها، كان لوكاس يرقبها بصمت.
وبينما كانت ترتّب أفكارها وترفع فنجان الشاي، كان لوكاس يتأمّلها بصمت. فمكانة وليّ العهد لا تسمح له أن يثق بأحدٍ بسهولة. غير أنّها كانت مُنقذة أمّه، و خادمة يثق بها.
‘وفوق ذلك، ردودها هذه متّسقة بلا تردّد…’
لقد اختبرها مرارًا، وكان الجواب نفسه في كل مرة. وها هو يرى تقطيب حاجبيها وهي تحمل الفنجان كما لو عجزت عن ضبط قسمات وجهها، فتملكه شعور طفيف بالارتجاف عند طرف شفتيه.
‘إن كان هذا كلّه مجرّد تمثيل، فهي إذن آنسة مرعبة بالفعل.’
وضع لوكاس يده على الطاولة ونهض.
وقال مبتسمًا.
“يبدو أنكِ ترغبين بلقاء السيدة كاساندرا، فلِمَ لا ننطلق إليها الآن؟”
ثم مدّ يده، وجذب طرف شفتيه بابتسامة واثقة.
***
بفضل كرم ولي العهد لوكاس، تمكّنت سيلا من زيارة منزل كاساندرا سريعًا.
وقد انشغل الخدم باستقبالهم على عجل، إذ باغتتهم الزيارة غير المتوقعة.
جلسوا في قاعة الاستقبال ينتظرون، حتى دخلت سيّدة في منتصف العمر، شَعرها البلاتيني مرفوع إلى الأعلى في جديلة أنيقة، وبجانبها رجل مهيب بوقار الشيب، وهو زوجها نيلسون.
قالت السيدة كاساندرا معتذرة.
“أعذرونا على التأخر، وقد شرّفتمونا بقدومكم.”
“بل أنا من فاجأتك بالزيارة، وإنني ممتنّ لحسن استقبالك.”
“لا تقل ذلك، فما من شيء يسعدنا، أنا وزوجي، أكثر من زيارة سموك.”
كان اهتمام نيلسون منصبًّا كلّه على وليّ العهد. أمّا كاساندرا، فعلى خلاف زوجها الذي أتى بخطى متّزنة، فقد هرعت بخفّةٍ لمّا بلغها خبر قدوم لوكاس، حتى إنّها نسيت أن تؤدّي التحية.
وغمر الحنين نظرتها وهي تتأمل الفتاة.
فقال لوكاس.
“سيدة كاساندرا، أهناك أمر؟”
رمشت بعينيها، ثم عاد بصرها إلى صفائه.
وقالت بانحناءة.
“أشكرك على زيارتك، سمو ولي العهد. لعل سرور هذا الصباح كان نذير لقدومك.”
وقفت كاساندرا أمامهم متمسكة بأدب النبلاء، غير أنّ نظراتها بقيت معلّقة بسيلا.
“لكن… هذه الآنسة، من تكون؟”
بادرت سيلا قائلة.
“أعتذر عن التأخير في تقديم التحية. ليكن الشرف حليفك. أنا سيلا أرسيل.”
فشهقت كاساندرا بدهشة.
“آه…! إنها الآنسة الصغيرة!”
وعادت إلى ذهنها صورة تلك الطفلة، تسير بخطى صغيرة ممسكة بيد هايلي.
فابتسمت كزهرة تتفتح، وقالت.
“كم مضى من الوقت سريعًا!.”
همست لنفسها برفق، مستشعرة مرور الزمن حين رأت تلك الفتاة التي كانت صغيرة قد نمت وأصبحت شابة مهيبة.
ثم نظرت بينهما قائلة.
“لكن، ما الذي أتى بكما معًا إلى هنا؟”
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة. شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 103"