الفصل 164 : حُبّ أورفيوس ³
“لأكونَ صادقة، لا أظنُّ أن أحدًا في العائلة يمكنه أن يتصرّف كراشدٍ أمامك. لقد أظهرتِ أفضلَ كفاءةٍ بيننا جميعًا.”
“أوه، ما هذا الكلام؟ لقد نجحتُ بالكاد في مشروعٍ تجاريٍّ واحدٍ فقط. أرجو أن تواصلي إرشادي دائمًا.”
لم تكن تلك مجاملةً فارغة لإرضائها، بل كانت كلماتٍ صادقة.
ولهذا شعرت إيفانجلين بكثيرٍ من العزاء.
“حسنًا، سأفعل.”
***
قصر إيدينبرغ.
كانت أرتيا تقرأ عشرات الرسائل المتراكمة على الطاولة.
بعضها جاء من النبلاء، وبعضها الآخر من العائلة الإمبراطورية.
لكنهم لم يرغبوا في رؤيتها بدافع الفضول كما كان الحال عندما طلّقت حديثًا.
بل كان شعورًا بالودّ والاحترام تجاه أرتيا، التي أصبحت الإيثيريال ونجحت في مشروعٍ تجاريٍّ كبير.
رغم ذلك، كانت هناك بعض النوايا الأخرى المختلطة.
نظر كيليان إلى الأظرفة بلمحةٍ واحدة، ثم انتقى منها عشرًا أو أكثر.
“لا حاجة لقراءة هذه.”
كانت كلها طلبات زواج أرسلها رجالٌ يرغبون بلقاء أرتيا.
سألت أرتيا بدهشةٍ وقد عرفت الأمر.
“كيف عرفتَ دوّن أن تقرأ الرسائل؟”
“تفوح منها رائحةٌ مزعجة. رائحةٌ تجعلني أرغب في الذهاب فورًا وقطع أعناقهم.”
“سأحرقها.”
بدلًا من أن تُعاتبه على حرق رسائلٍ موجهةٍ إليها دون إذنها، أومأت أرتيا برأسها.
سرعان ما اشتعلت الرسائل بنيرانٍ ذهبية وتحولت إلى رماد.
‘رأيتُ هذا المشهد عدة مرات، لكنه لا يكفُّ عن إدهاشي في كل مرة.’
“إلى أي حدٍّ يُمكنك استخدام قواك السحرية؟”
منذ أن عُرف أن كيليان يستطيع استخدام المانا، راجت حوله الكثير من الأحاديث.
“سمعتُ أن صاحب السمو كيليان يستطيع أن يستدعي الغيوم الماطرة.”
“ويُقال إنه قادرٌ على إحياء الموتى.”
لكن كل ذلك كان هراءً.
فكيليان لم يكن كالإمبراطور المؤسس أورفيوس، الذي اعتُبر شبيهًا بالحاكم، وليس بقدرته كلّ شيء.
“لا أستطيع تحقيق كل ما أريده. الأمر أشبه بطيِّ ورقةٍ بيضاء لصنع شيءٍ منها.”
يجمع المانا في جسده ويُشكّل بها ما يرغب فيه.
في بعض الأحيان يُحقق ما يتمنى، وأحيانًا يفشل فشلًا ذريعًا.
“هل سبق أن فشلت؟”
تأخر كيليان لحظةً قبل أن يُجيب.
“…لم أستطع شفاء أخي.”
***
منذ أن كُشف أمر الطفل كيليان حين تحوّل إلى فرخٍ صغير وذهب إلى غرفة أرسين، لم يُسمح لهما باللقاء مجددًا لفترةٍ من الزمن.
أراد كيليان أن يطلب من الإمبراطورة أن تسمح له برؤية أرسين مجددًا، لكن الإمبراطورة تجنّبته تمامًا فلم يستطع قول شيء.
ثم بعد عدة أشهر، صادفها في أحد ممرات القصر الإمبراطوري.
بمجرد أن رأته، ارتسم على وجهها تعبيرٌ وكأنها صادفت حشرة.
وحين حاولت الهرب منه، صاح كيليان.
“أمي، سأُحاول شفاء أخي أرسين!”
“…؟!”
توقفت الإمبراطورة عن السير.
وتابع كيليان وهو يواجهها.
“لقد أصبحتُ قادرًا على استخدام المانا.”
توسعت عينا الإمبراطورة.
“إذًا لهذا السبب استطعت التسلل إلى غرفة أرسين.”
في تلك اللحظة، انكشف ما كانت تحاول دفنه ونسيانه؛ حقيقة ما حدث.
المانا.
القوة المطلقة.
لم يكن الأمر أنهم لم يعرضوا أرسين على السحرة من قبل.
بل كانت الإمبراطورة قد بذلت جهدًا كبيرًا للعثور على سحرةٍ نادرين من أجل علاجه.
لكنهم فشلوا جميعًا.
(لكن هذا الطفل مختلفٌ عن أولئك الحمقى.)
سليل أورفيوس، الذي قيل إنه كان يمتلك قوةً شبيهة بقوة الحاكم.
ربما يكون قادرًا على صنع معجزة.
امتلأت عينا الإمبراطورة، التي طالما كانت كئيبة، ببصيصٍ من الأمل.
أما كيليان، فقد ظل يحدّق فيها بصمت.
لم يسبق له أن التقى بها بهذه المدة الطويلة من قبل.
(عينا أمي جميلتان حقًا.)
ثم قالت الإمبراطورة، موجّهة حديثها إلى كيليان، الذي احمرّت وجنتاه الممتلئتان.
“عالِج أرسين بقوتك.”
“…!”
“لكن لا تُخبر أحدًا بذلك. سيكون سرًّا بيني وبينك وأرسين فقط.”
وكان السبب في ذلك الإمبراطور.
فهو لم يكن يُطيق وجود أرسين أصلًا.
ولو علم بالأمر، لأفسده بلا شك.
وكان كيليان الصغير يعلم ذلك، فأومأ برأسه موافقًا.
ومنذ ذلك اليوم، بدأ كيليان يسهر لياليه في قراءة كتبٍ تتعلق بالمانا وتشريح الجسد.
كانت تحتوي على محتوى يصعب على البالغين فهمه، لكنه لم يشعر بالمشقة.
لأن رغبته في إسعاد الإمبراطورة وأرسين كانت أقوى من أي شيء.
وبعد عدة أيام، وبمرافقة الإمبراطورة، توجّه كيليان إلى غرفة أرسين.
“أخي!”
“كيليان!”
عانق كلٌّ منهما الآخر بشوقٍ شديد.
لكن الإمبراطورة عبست ثم سحبت أرسين نحوها وأبعدته عن كيليان.
“جسد أرسين ضعيف، وقد يتأذى إن لامسه أحدٌ بتهور. احذر في المرة القادمة.”
“…نعم.”
شعر كيليان بوخزٍ في جانبٍ من صدره، لكنه أومأ برأسه دون أن يُظهر شيئًا.
قالت الإمبراطورة بصوتٍ يملؤه التوتر.
“هيا، عالج أرسين بسرعة.”
حتى الآن، الشيء الوحيد الذي فعله كيليان باستخدام قواه السحرية هو تغيير مظهره.
لم يسبق له أن عالج إنسانًا من قبل.
لكن علاج أرسين لم يكن مسألة إمكان أو عدم إمكان، بل كان أمرًا لا بد منه.
لذلك، أغلق كيليان عينيه دون أن يسمح لفكرة العجز أن تراوده.
بدأ العرق يتجمع على جبينه المستدير.
جمع كيليان كل ما في جسده من قوى سحرية، ثم فتح عينيه ونظر إلى أرسين.
تألقت عيناه الذهبيتان ببريقٍ ساطع من الذهب.
الإمبراطورة، التي كانت ترى استخدام كيليان للسحر لأول مرة، لم تُخفِ انفعالها، وأمسكت بيد أرسين الصغيرة بشدة.
(الطاقة التي أشعر بها تختلف عن طاقة السحرة الآخرين. ربما يمكن لهذا السحر أن يُشفي أرسين حقًا…)
…لكن آمال الإمبراطورة تحطّمت تمامًا.
أطلق كيليان قواه السحرية، لكن لم يحدث أي شيء.
ومرّت ساعات، ولا شيء تغيّر.
قال كيليان وهو يحاول أن يُخفي توتره موجّهًا حديثه إلى الإمبراطورة التي تجمد وجهها.
“لأنه أول مرة فقط. كان الأمر كذلك أيضًا عندما غيرت شكلي، لكن إذا واصلت المحاولة، سأُتقنه.”
“…حسنًا.”
أومأت الإمبراطورة برأسها، بالكاد كابحةً غضبها.
لم يكن بإمكانها أن تغضب.
فكيليان كان الأمل الوحيد.
بعد ذلك، بدأ كيليان يزور غرفة أرسين مرة كل نصف شهر، ويُجري محاولاته السحرية.
لكن حتى بعد مرور سنوات، كانت النتيجة كما هي.
ظل أرسين عاجزًا عن المشي، وكثيرًا ما كان يختنق ولا يستطيع التنفّس، ويُصبح في خطر من أقلّ صدمة.
تحوّل أمل الإمبراطورة إلى يأس، ثم إلى غضب وعتاب.
“هل تنوي علاجه فعلًا أم لا؟!”
كيليان، الذي أنكرت والدته مشاعره الصادقة، تأذّى من كلماتها.
لكنه لم يجرؤ على التعبير عن ألمه.
فالعاجز لا يملك الحق في ذلك.
“أنا آسف…”
ثم واصل بصوتٍ خافتٍ بالكاد فيه قوة.
“سأبذل جهدًا أكبر. من فضلكِ، دعيني أواصل زيارته.”
وأثناء محاولته تفادي نظرة الإمبراطورة المتضايقة وتنهدها، ابتسم أرسين لكيليان.
(شكرًا لك، كيليان.)
كانت تلك الابتسامة الشاحبة العزاء الوحيد له.
ثم، بعد بضعة أيام، وقعت الحادثة.
ما إن استخدم كيليان سحره، حتى أطلق أرسين، الذي كان في حالٍ جيدة قبل لحظات، أنينًا قصيرًا وسقط أرضًا.
“آ… أرسين!”
أسرعت الإمبراطورة إليه واحتضنته بفزع.
لم يكن يتنفّس.
وكان جسده باردًا كالجليد.
تمامًا كالميّت.
“أرسين! استفق! أرسين!”
صرخت وهي تهز جسده الصغير بقلق، لكنه لم يستجب.
وقف كيليان في صدمةٍ يحدّق بالمشهد، ثم اندفع خارج الغرفة وصرخ على وصيفات الإمبراطورة اللواتي كنّ في الخارج.
“أحضِرْن الطبيب فورًا!”
وصل الطبيب المكلّف برعاية أرسين، والذي كان يقيم في الغرفة المجاورة، بسرعة.
فحص الطبيب أرسين، ثم قال بوجهٍ متجهم.
“إنه يتنفّس… ولكن تنفسهُ ضعيفٌ جدًا، لدرجة أنه يمكن أن يتوقف في أي لحظة.”
ولزيادة الطين بلّة، لم تفلح البطانيات السميكة ولا المدفأة المشتعلة كالنار في إعادة الدفء إلى جسده.
ولم يستطع أن يفتح عينيه.
“أرسين! استفق، أرجوك!”
صرخت الإمبراطورة وهي تنادي اسم ابنها، لكن دون جدوى.
“لقد مرّ الأمير أرسين بلحظاتٍ حرجة كثيرة، لكن هذا الوضع لم نره من قبل. هل حدث شيء غير اعتيادي؟”
كل شيء كان كما هو.
الطعام، الملابس، النوم…
لا، هناك شيء واحد تغيّر.
تحوّلت نظرة الإمبراطورة نحو كيليان، الذي لا يزال واقفًا داخل الغرفة.
“ما الذي فعلتَه بأرسين؟!”
“…!”
“بمجرد أن استخدمت سحرك، أصبح أرسين هكذا!”
خرجت الكلمات كالسّم من فم الإمبراطورة، التي فقدت عقلها.
“آه… كنت حمقاء! كيف اتّكلتُ على الطفل الذي كان أكثر من يودّ زوال أرسين في هذا العالم…؟”
غُرِست كلمات أمه كخنجر في قلب كيليان.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 164"