البحث عن زوج للدوقة - 129
الفصل 129 : كسر البيضة والخروج منها ¹²
لَمْ يُبدِ صاحب الحانة، الذي يحرصُ على حياته، أيَّ تذمُّرٍ مِن طرد جميع الزبائن، بل رسم ابتسامةً لطيفةً على وجهه.
“أيُّ نوعٍ مِن الشراب تودان شُربه؟”
“هل لديكَ مشروبٌ مفضل؟”
“ليس حقًّا، لا أحبُ الكحول كثيرًا.”
اتَّسعت عينا أرتيا بدهشة.
“إذًا، هل نطلب الحليب أو العصير؟”
عند سماعه ذَلك، ارتفع طرفُ حاجب كيليان وكأنَّه انزعج مِن معاملتهِ كصبيٍّ صغير.
“قلتُ إنِّي لا أحبُ الكحول، ولَمْ أقُل إنِّي لا أستطيع شُربه. اجلب لي أقوى مشروبٍ لديكم.”
“أما أنا، فأريدُ أضعف مشروبٍ لديكم.”
أومأ صاحب الحانة برأسهِ مع ابتسامةٍ على وجهه.
بعد لحظات، وصل الشراب، وكان غريبًا كما هو مُتوقعٌ مِن مدينةٍ تُعرف بالفن.
لَمْ يكُن المشروب نفسه مُميزًا، لكنَّ الكأس كان استثنائيًا.
أمام أرتيا وُضِع كوبٌ خشبيٌّ نُحت على شكل فمٍ مفتوحٍ يحوي بداخلهِ الجعة، بينما كان الكأس المعدنيُّ أمام كيليان يحمل نقشًا لدبٍّ يستحمُّ في سائلٍ أرجوانيٍّ داكن.
“رائع، لَمْ أرَ مثل هَذهِ الأكواب مِن قبل!”
“لقد فقدتُ شهيتي تمامًا لشرب الكحول.”
لَمْ تُنكر أرتيا كلامه.
“يبدو أنَّهُ تدبيرٌ مِن صاحب الحانة اللطيف لمنع الزبائن مِن الإفراط في الشُّرب حفاظًا على صحتهم.”
لكن كلماتها لَمْ تلبث أنْ فقدت معناها، إذ لَمْ يَمضِ حتى ساعةٌ واحدةٌ حتى تراصَّت أمامها خمسةُ أكوابٍ خشبيةٍ فارغة.
كيليان، الذي كان قد فكَّ وشاحهُ بعد مغادرة الناس، عبس وهو يُحدِّق بها.
“ألستِ تشربين كثيرًا؟”
“إنْ طعم الجعة لذيذٌ للغاية… لا بأس، أنا بخير.”
أجابت أرتيا بصوتٍ واضحٍ دوّن أيِّ تلعثم، وكأنَّها لَمْ تكُن في حالة سُكر، ثم رفعت كأسها وشربت دفعةً واحدة.
وضعت الكأس الفارغة على الطاولة بحماسٍ.
“كأسٌ أخيرةٌ فقط.”
“هَذهِ خامس مرةٍ تقولين فيها ذَلك.”
“هَذهِ المرَّة، أعدكَ أنَّها الأخيرة.”
لَمْ يكُن كيليان شخصًا يُبدي اهتمامًا بالآخرين.
سواءٌ شرب أحدُهم السمَّ بجانبه، أو أقدم على جرح نفسهِ بسكين، فَلَمْ يكُن ليُلقي عليهِ حتى نظرةً واحدةً طالما لَمٌ يُسبب لهُ ضررًا.
لكن، لماذا كان ينزعج كثيرًا مِن رؤية أرتيا تشربُ عدَّة أكوابٍ مِن الجعة؟
كان بإمكانه ببساطةٍ أنْ يأمرها بالتوقُّف إنْ كان الأمر يُزعجه، لكنَّه لَمْ يفعل.
“هاه…”
تنهد كيليان تنهدًا قصيرًا، ثم رفع يدهُ ليطلب لها الكأس السادسة.
احتضنت أرتيا الكأس بسعادةٍ كما لو أنَّها تحتسي الجعة لأول مرة، ثم رفعتها بكلتا يديها وأخذت ترتشفًها بنشوة.
كانت عيناها تضيقان بسعادة، وخدَّاها يتوهَّجان بحمرةٍ دافئة.
‘حتى وهي ثملة، تبدو جميلةً للغاية…’
بينما كان كيليان يُفكِّر بذلك، سألتهُ أرتيا فجأةً.
“بالمُناسبة، ألَمْ نمرَّ بموقفٍ مُشابهٍ مِن قبل؟”
“ماذا تقصدين؟”
“أعني، لقد كنتُ ثملةً ونظرتُ إليّكَ مُباشرةً هَكذا مِن قبل، صحيح؟”
“……!”
حتى عندما كان الأعداء يُهاجمونه مِن الخلف، ليمْ يكُن يشعر بأنَّ قلبهُ يهوي بهَذا الشكل.
لَمْ يكُن ينوي أنْ يُخبر أرتيا بما حدث تلكَ الليلة، إذ كان يعلم أنَّ استعادة ذكرياتها قد تًفسد علاقتهما.
لكن ذَلك كان مُجرَّد قرارٍ عقلانيٍّ فقط، أمَّا قلبُه فكان له رأيٌ آخر.
لقد كان حزينًا لأنَّها لا تتذكَّر تلكَ اللحظات الدافئة والمليئة بالشغف.
“أم أنَّني كنتُ أحلم فحسب؟”
تمتمت أرتيا وهي تُميل رأسها، عندها أجابها كيليان.
“لَمْ يكُن حلمًا.”
“……!”
“في تلكَ الليلة، وأنتِ ثملة… لقد كنتِ…”
ضيَّق كيليان عينيه قليلًا ثم أكمل.
“لطيفةً معي.”
تحت ضوء المصباح الخافت، بدت ابتسامة الرجل ساحرةً على نحوٍ غير واقعيٍّ.
حدَّقت بهِ أرتيا بفمٍ مفتوحٍ قليلاً، ثم فجأةً شهقت قائلةً.
“تذكَّرتُ الآن!”
فجأةً، وقفت مِن مقعدها ومدَّت يديها لتُمسك بخدي كيليان، ثم…
“قبلة.”
تلامست شفتاها مع شفتيه لبرهةٍ قصيرة.
عندما ابتعدت عنه، ابتسمت ببراءةٍ وقالت.
“لقد فعلتُ هَذا، صحيح؟”
حدَّق بها كيليان بصمتٍ، فقد بدت ملامحُها بريئةً كطفلٍ صغيرٍ أجاب للتوِّ على سؤالٍ صعبٍ بشكلٍ صحيح.
ثم، وبعينين متَّسعتين، همس لها.
“لا، لقد كان هكذا.”
وقف كيليان مِن مقعدهِ، ثم وضع يدهُ على مؤخرة رأسها وجذبها إليّه، قبل أنْ يُقبلها.
لكنَّها لَمْ تكُن قبلةً سريعةً طفوليةً كما فعلت هي.
بل كانت قبلةً عميقة، مُفعمةً بالمشاعر، قبلةَ رجلٍ ناضج.
ارتجفت أكتاف أرتيا مِن الصدمة، لكنَّها سرعان ما استسلمت له، كما لو أنَّها كانت تنتظرُ ذَلك طوال الوقت.
“نعم، هَذا هو الشعور ذاته…”
“ناعمٌ، دافئٌ، وحارقٌ في الوقت نفسه…”
* * *
“أحبُّ ذَلك كثيرًا، فلنستمر…”
بصعوبة، أبعد كيليان أرتيا التي لَمْ تُظهر أيَّ نيةٍ للابتعاد عنه.
لو استمرَّ أكثر مِن ذَلك، لشعر أنَّ عقله سيتلاشى تمامًا.
“لكنني أريدُ المزيد…”
تمتمت أرتيا بصوتٍ مُتحشرج، ثم غطَّت في النوم على الفور.
لقد استسلمت للنوم وهي متكئةٌ عليهِ كما لو أنَّها انقضَّت عليهِ لتحتضنه.
شعر كيليان بالكامل بملمس جسدها الناعم ودفء حرارتها، مِما أشعل مِن جديدٍ اللهب الذي كان بالكاد يُسيطر عليه.
“اللعنة.”
أغمض كيليان عينيهِ بإحكامٍ، غير قادرٍ على لمس أرتيا.
كُل أساليب ضبط النفس القاسية التي تعلَّمها منذُ صغرهِ لَمْ تعد تُجدي نفعًا. كان بحاجةٍ إلى وسيلةٍ أقوى.
تذكر صورة والدته.
في اللحظة التي تذكَّر فيها وجه الإمبراطورة، البارد كرياح الشتاء، خمدت نيران جسدهِ قليلًا.
“لَمْ أتخيَّل أنني سأضطرُ يومًا لاستخدامها بهَذا الشكل…”
تنهد كيليان بعمق، ثم فتح عينيهِ ببطء.
رفع أرتيا بين ذراعيهِ بحرصٍ، مُحاولًا تجاهل عبيرها العذب، وملمس خصلات شعرها الرقيقة، وأنفاسها المُنتظمة، وجسدها الطري الدافئ.
وفي كُل مرةٍ شعر فيها بأنَّها تُثيره، تذكر صورة والدته في ذهنه ليُحافظ على سيطرته، إلى أنْ تمكَّن أخيرًا مِن مُغادرة الحانة.
ضمَّ أرتيا إلى صدرهِ بقوةٍ، حتى لا يراها أحدٌ نائمةً بين ذراعيه.
لَمْ يجرؤ أحدٌ على التحديق فيهم، فقد كانت هالتُه المُخيفة كافيةً لردع أيِّ متطفل.
“لقد عدتم، سيدي.”
استقبلتهم بيبي عند مدخل النزل.
ألقى كيليان نظرةً على أرتيا.
“لقد شربت كثيرًا، ستُعاني مِن صداعٍ شديدٍ عند الاستيقاظ. اعتني بها جيدًا.”
“حسنًا، سأتولَّى أمر سيدتي مِن هُنا.”
مدَّت بيبي يديها لتأخذ أرتيا، لكن كيليان، دوّن أنْ يُدرك، شدَّ قبضتهُ عليها أكثر.
“لا أريدُ أنْ أُسلِّمها.”
لكن لَمْ يكُن بإمكانهِ البقاء خارج الباب هَكذا طوال الليل.
ظهر على وجههِ تعبيرٌ متألِّم، ثم أخيرًا، سلَّم أرتيا إلى بيبي.
كانت نظرته في تلكَ اللحظة حادَّةً وحزينة، ما جعل بيبي تتذكَّر عندما كانت الذئبة الأم يُنتزع منها صغارها.
انحنت بيبي بخفوتٍ وهي تأخذ أرتيا.
“تفضَّل بالدخول، سموَّك.”
أغلق كيليان الباب فورًا، خشية أنْ يستسلم لرغبتهِ في استعادتها مِن بيبي مُجددًا.
كانت غرفتُه بجوارها مُباشرة.
بضعُ خطواتٍ فقط، ثم دخل غرفته وسقط جالسًا على الأرض.
استمرَّت الذكريات تُطارده—ملمس شفتيها، عطرها، وحرارتها التي لَمْ تُفارقه بعد.
لَمْ يكُن يعلم أنَّ شيئًا قد يكون جميلًا إلى درجةٍ تجعلُه مؤلمًا.
ومع مرور الوقت، بدأ الفجر يُضيء السماء.
كان كيليان لا يزال جالسًا على الأرض، حدَّق في زرقة السماء التي بدأت بالظهور.
“هل ستتذكَّر أرتيا فون إيدينبرغ ما حدث الليلة الماضية؟”
في المرَّة السابقة، لِمْ تتذكَّر شيئًا، وهِذا ما سمح لهُ بالتظاهر وكأنَّ شيئًا لَمْ يحدُث.
لكن، هَذهِ المرة؟
رغب في أنْ تتشارك معه تلكَ الذكرى، لكنَّه في الوقت نفسه تمنَّى أنْ تنساها.
لأنَّه أراد أنْ يبقى صديقها.
وأراد، بأيِّ طريقةٍ كانت، أنْ يُبقيها قريبةً منه.
عندها، دخل طائرٌ أسود الغرفة بصمتٍ، وهبط على معصم كيليان.
ومِن منقاره، خرج صوتٌ خالٍ مِن أيِّ نغمةٍ عاطفية.
“سموَّ الأمير أرسين في حالةٍ حرجة. مطلوبٌ منكَ العودة فورًا.”
انتفض كيليان كما لو أُفرغ عليهِ دلوٌ مِن الماء البارد.
عندها، أدرك مدى تفاهة قلقهِ السابق مُقارنةً بما هو أهم.
نهضّ واقفًا، وألقى نظرةً طويلةً على الغرفة التي كانت أرتيا نائمةً فيها.
ثم أخفض رأسهُ ببطء، مُدركًا ما عليهِ فعله.
تحوَّلت عيناه الذهبيتان.
ذَلك الوهج العاطفي، المليء بالمشاعر المُتقدة، تبدَّد، ولَمْ يتبقَّ سوى برودة العقل والمنطق.
وبعد لحظات، اختفى وجودهُ تمامًا مِن الغرفة.
***
استيقظت أرتيا بعد وقتٍ طويلٍ مِن بزوغ الشمس، وأطلقت صرخةً قصيرة.
“آه!”
اندفعت بيبي إلى داخل الغرفة بسرعة البرق.
“ما الأمر، سيدتي؟!”
“ل-لا شيء… أشعرُ ببعض الغثيان فقط…”
“توقَّعت ذَلك، لذا أعددتُ لكِ شاي النعناع. هل تُريدينه الآن؟”
“أجل…”
بعد أنْ غادرت بيبي، وضعت أرتيا يديها على رأسها وهي تُتمتم لنفسها.
“يا إلهي… يا إلهي، لقد جُننتُ تمامًا… حتى لو كنتُ في حالة سُكر، كيف يُمكنني فعل شيءٍ كهَذا؟!”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة