البحث عن زوج للدوقة - 128
الفصل 128 : كسر البيضة والخروج منها ¹¹
بعد انتهاء العرض، تحدثت بيبي.
“سأعود إلى النُزل أولًا لأُرتِّب مكان النوم.”
كان هَذا تصرُّفًا لَمْ يكُن مُمكنًا إلا لأنَّ كيليان كان بجوار أرتيا، فطالما هو معها، فلا داعي للقلق على سلامتها.
“ستفعلين ذَلك؟”
أجابت أرتيا بوجهٍ مُبتسم.
“لا بدَّ أنَّكِ مرهقةٌ بعد هَذا اليوم الطويل. لا تهتمي كثيرًا بترتيب سريري، ارتاحي جيدًا، بيبي.”
‘حتى عندما عدتُ بعد أربعة أيام مِن صيد الذئاب، قطَّعت اللحم المشوي بعناية، وغسلت الملابس، ونظَّفت المكان…’
لكن لم يكن هناك داعٍ لقول ذلك.
“حاضر.”
أجابت بيبي، ثم التفتت لتنظر إلى كيليان.
كان واضحًا لها أنهُ أصبح في مزاجٍ أفضل بعدما علم أنَّها سترحل، رغم أنْ التغيّر كان طفيفًا لدرجة أنَّ بيبي وحدها مَن استطاعت ملاحظته.
“أُعوِّل عليكَ في الاهتمام بسيدتي.”
ارتفع حاجب كيليان قليلًا.
لطالما وجد هَذهِ العبارة مؤذيةً للأعصاب.
لكن في النهاية، بيبي هي الخادمة التي تعزُّها أرتيا كثيرًا، لذا أخفى كيليان انزعاجه وأومأ برأسه بتكبُّر.
“حسنًا.”
بعد رحيل بيبي، توجَّه الاثنان إلى السوق الليلي القريب مِن المسرح.
وكما يليقُ بمدينة الفنون، كان السوق الليلي مليئًا بالألوان والنشاط.
الباعة، الذين ارتدى كلٌّ منهم ملابس فريدةً تعكس شخصيته، كانوا يبيعون بضائع متنوِّعة، جميعها غريبةٌ وغير مألوفة.
“جميل! غريب! رائع! مُضحك! مُخيف!”
بينما كانت أرتيا تتنقل بين البضائع مًبهورةً، سمعت صوتًا منخفضًا يناديها.
“أرتيا فون إيدينبرغ.”
“نعم؟”
ما إنْ التفتت إليّه، حتى وضع كيليان شيئًا على رأسها.
“وجدتُ شيئًا يُناسبُكِ تمامًا.”
“ما هو…؟”
ما إنْ رأت انعكاسها في المرآة على الطاولة، حتى أطلقت شهقةً صغيرة.
لقد كان طوق شعرٍ مُزيَّنًا بأذني أرنب طويلتين ومتدلّيتين.
ارتداؤه كان مُبالغًا فيه للغاية بالنسبة لسيدةٍ نبيلة في الثالثة والعشرين مِن عمرها.
احمرَّ وجهُ أرتيا حتى أطراف أذنيها، وبينما كانت على وشك خلعه، غيَّرت رأيها فجأة.
‘بما أنني تلقَّيتُه، لا بدَّ أنْ أُعيد لهُ شيئًا بالمقابل.’
أخذت تُقلِّب بنظرها بين البضائع بسرعة، وسرعان ما وجدت شيئًا مُناسبًا.
أشارت بيدها نحو أحد الطاولات.
“آه، انظر هُناك…!”
بينما كان كيليان يُدير رأسه آملةً أنْ تعابير وجههِ غير المهتمة كانت مُجرَّد وَهْمٍ منها، انتهزت الفرصة لانتزاع الطوق الذي اختارتهُ وحاولت وضعه على رأسه.
لكن… يا للمُفاجأة!
لَمْ تصل يدها إليّه!
‘كنتُ أعلم أنَّ فرق الطول بيننا كبير، لكن لَمْ أكُن أدرك أنهُ بهَذا القدر…!’
في تلكَ اللحظة، التقت عيناهما مُجدَّدًا، بعدما عاد إلى وضعهِ الطبيعي وكأنهُ لَمْ يُحرِّك رأسه مِن الأساس.
نظر كيليان إلى أرتيا المتجمِّدة مكانها وقال بنبرةٍ ساخرة:
“يبدو أنكِ فشلتِ في محاولة اغتيالي.”
“حسنًا…”
أخذت أرتيا تُحرِّك عينيها بارتباك، ثم أومأت برأسها كأنَّها تعترفُ بهزيمتها أمام قائد العدو.
“أعتذر عن وقاحتي.”
كانت على وشك إنزال يدها بخيبة أمل، لكن كيليان انحنى قليلًا أمامها.
“تابعي، سأدعكِ تفعلينها.”
اتسعت عينا أرتيا بدهشة.
لكنها لَمْ تُضيِّع هَذهِ الفرصة النادرة.
بسرعة، وضعت الطوق على رأسه.
الآن، كان أمامها رجل مفتول العضلات، وجهُه ملفوفٌ بوشاح كالمومياء، ويرتدي طوقًا بأذني قطة.
“صاحب السمو، أنتَ تبدو تمامًا وكأنكَ أحد سكان ريجو!”
أمسكت أرتيا بطنها مِن شدَّة الضحك.
“مشاهدتهُ هَكذا أمرٌ ممتع، لكن…”
عندها، مدَّ كيليان يدهُ وسحب الوشاح الذي كان يُغطي وجهه.
ومع انكشاف وجهه، ساد الصمت فجأةً.
شعرٌ أسود كالليل، وعينان ذهبيَّتان تتوهَّجان بانعكاس ضوء القمر عليهما.
وجهٌ يخلو مِن أيِّ عيب، جمالٌ يأسر الأنفاس.
توقَّف ضحك أرتيا على الفور.
اتسعت عيناها، وهي تحدِّق بهِ مشدوهة.
ابتسم كيليان وهو يراها على هَذا الحال.
كان يُعجبه أنْ تنعكس صورته في عينيها الوردية.
أراد أنْ يُبقي نظرها مُعلَّقًا عليهِ إلى الأبد.
لكن هُناك أمرٌ واحد لَمْ يحسب حسابه.
وجهُه، الذي فاق جماله ضوء القمر نفسه، لَمْ يؤثر على أرتيا وحدها.
فحتى المارَّة في السوق، رجالًا ونساءً، توقَّفوا في أماكنهم وتسمَّروا وهم يحدِّقون بهِ بأفواهٍ مفتوحة.
“هآه…!”
أدركت أرتيا أخيرًا الموقف، فانتزعت بسرعة الوشاح مِن يده وأعادته إلى وجهه.
لكن… لا، لا يكفي لفَّه مرَّة واحدة، عليه أن يُلفَّ بإحكام!
أخذت تُدوِّره مرارًا حول رأسهِ وهي تتمتم:
“يقولون إنْ القطط كائناتٌ ساحرة… يبدو أنْ هَذا صحيح. أنتَ خطيرٌ جدًّا.”
* * *
رغم أنَّ أرتيا لفت الوشاح حول كيليان هَذهِ المرَّة بطريقةٍ أكثر شراسة حتى صار كالمومياء تمامًا، إلَّا أنَّ ذَلك لَمْ يكُن كافيًا لإخفاء وسامته بالكامل.
رأت كيف كانت بعض النساء ذوات النظرات الحادَّة يُلقين نظراتٍ خاطفة نحوه، فتكلمت بصوت جادّ.
“لقد انتهينا تقريبًا مِن التجوُّل، فلنذهب إلى مكانٍ هادئ.”
أومأ كيليان برأسهِ كما لو كان ينتظر هَذا الاقتراح.
فهو أيضًا لَمْ يكُن يرغب في أنْ يراها الرجال الآخرون.
غادرا الزحام واتَّجها إلى أحد الأزقَّة الخلفية.
لكن في هَذا الوقت المتأخر مِن الليل، لَمْ تكُن هًناك أماكن مفتوحة سوى الحانات المُريبة.
كيليان عبُس، مترددًا في اصطحابها إلى مثل هَذا المكان، لكن على العكس منه، تألَّقت عينا أرتيا بلمعانٍ مُتحمس.
“لطالما رغبتُ في زيارة مكانٍ كهَذا.”
“رغبتِ في ذَلك؟”
“نعم، فهو مِن العناصر الكلاسيكية في روايات الرومانسية!”
الأرستقراطية الصغيرة التي تتسلَّل إلى حانة العامَّة!
في العادة، تكون هَذهِ الأرستقراطية فتاةً ساذجة تجهل واقع الحياة، تتسلل إلى حانةٍ للفقراء مُتخفِّيةً بثوبٍ بسيط حصلت عليه مِن خادمتها.
لكن رغم ذَلك، يبقى مظهرها الأرستقراطي الأنيق بارزًا، مِما يجذب انتباه السكارى الأشرار الذين يبدأون بمُضايقتها.
[“أنتِ جميلة، أيتُها الآنسة. ما رأيكِ أنْ نمضي بعض الوقت معًا؟”]
[“إ-إنْ اقتربتم أكثر، فَلَن أسامحكم!”]
تصرخ الفتاة بشجاعة، لكن بلا جدوى.
يُقهقه الأوغاد وهم يسخرون منها:
[“إنْ اقتربتم أكثر، فَلَن أسامحكم!”]
[“أوه، كم أنا خائف! رُبما عليَّ أنْ أذهب لأشتكي لأمي!”]
بينما كانت أرتيا تحكي هَذا المشهد، بدأ جبين كيليان ينكمش بامتعاض.
“هَذا مزعجٌ فحسب…”
“آه، اصبر، لَمْ أكمل بعد!”
تمامًا في اللحظة التي يمدُّ فيها الأوغاد أيديهم نحو الفتاة، ينهض رجلٌ جالسٌ في زاوية الحانة ويشهر سيفهِ بسرعة البرق، فيسقط الأوغاد على الأرض متأوِّهين.
“ومَن يكون هَذا الرجل؟”
“مَن غيرُه؟ إنَّه الأمير الذي خرج في جولةٍ متخفِّيًا!”
تألَّقت عينا أرتيا بحماسٍ وهي تروي القصة.
عندها، ارتسمت على شفتي كيليان ابتسامةٌ ساخرة مائلة.
كان على وشك أنْ يقول: ‘أيُّ صدفةٍ هَذهِ التي تجعل أميرًا في ذَلك المكان بالضبط في ذَلك الوقت؟’
لكنَّه صمت فجأة.
فكلُّ تلكَ الصدف، في الحقيقة، كانت تصف تمامًا ما كان يفعله.
لَمْ يكُن أيٌّ مِن لقاءاتهما في الشوارع، والمكتبات، والمقاهي، والحفلات، وغيرها مِن الأماكن صدفةً على الإطلاق.
بل كان هو مَن يتعقَّبُها ويتحرَّك بحثًا عنها.
لَمْ يكُن هُناك فائدةٌ مِن إطالة الحديث في هَذا الموضوع، لذا مدَّ يدهُ إلى مقبض الباب.
“تفضَّلي بالدخول، أيتُها الأرستقراطية الطائشة.”
لكن، للأسف، لَمْ يحدُث لأرتيا شيءٌ مِن المشاهد الروائية التي تخيَّلتها.
لَمْ تكُن الحانة فارغةً تمامًا، إذ كان هُناك بعض الرجال ذوي المظهر السيئ، تفوح منهم رائحة الخمر.
لكن…
‘م-ما هَذا الشخص؟!’
رجلٌ طويل القامة، يضع سيفًا عند خصرهِ، وجهُه ملفوفٌ بوشاحٍ نسائي بحيث لا يظهر منهُ سوى عينيه.
كان ذَلك وحدهُ كافيًا ليبدو غريبًا، لكنهُ كان يُشعُّ بهالةٍ مُخيفةٍ أيضًا.
‘يا له مِن مجنونٍ نادر الوجود! اهربوا!’
حتى وهم في حالة سُكر، احتفظ هؤلاء الرجال بغريزة البقاء لديهم، فنهضوا على الفور وغادروا الحانة بسرعة.
مِن دوّن أنْ يُلقوا نظرةً واحدةً حتى على أرتيا.
كان الأمر قد حدث بسلاسةٍ وهدوء، لدرجة أنْ أرتيا لَمْ تُلاحظ شيئًا مِما جرى، وأُصيبت بصدمة.
“حتى مُجرَّد التعرُّض لمُضايقات مِن سفلة المدينة ليس بالأمر السهل!”
“بمظهري الباهت هَذا، لا يُمكنني أنْ أحصل على موقفٍ مُثيرٍ كهَذا…”
أدركت فجأةً مدى روعة بطلات الروايات اللواتي يمررن بهَذهِ المواقف، ثم جلست إلى الطاولة التي اختارها كيليان.
كانت الطاولة في زاويةٍ مُظلمة، يضيئها مصباحٌ واحدٌ خافت، وكان المقعد مُنخفضًا قليلًا، مِما جعل المكان يُشبه جُحر الأرنب.
“كما توقَّعت، هِذا النوع مِن الأماكن يُناسبني أكثر.”
كان كيليان جالسًا في الجهة المُقابلة، يغطي بجسدهِ القوي المساحة المفتوحة، مِما جعلها تشعرُ براحةٍ أكبر.
“حارسٌ قويٌّ يقفُ عند المدخل… هَذا مثالي!”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة