الفصل 16
“تس، لستِ سمكة أنقليس حتى!”
قال السير روبرت متضايقًا، وقد ضاق صدره من أسلوبي الذي كان يركز على الدفاع ولا يهاجم سوى لأجل انتزاع الأعلام أو حلّ رباط المعصم.
“حسنًا، كان يمكنك أن تسلمني العلم بكل بساطة، أليس كذلك؟”
ابتسمت وأنا أتلقى تذمّره وكأنني أتبادل معه مزحة.
ألقيت نظرة خاطفة نحو الجانب الآخر، ورأيت أن المعركة هناك أوشكت على نهايتها.
فرسان فريقنا لم يتمكنوا من استعادة زمام المبادرة. لم يبقَ سوى عدد يمكن عده على أصابع اليد، والسيدة هيلدا كانت على وشك أن تقع أسيرة.
“توقفوا عن ملاحقتي!”
كانت هيلدا تركض وتلهث، تفرّ بخفة كالسنجاب الطائر، بينما فرساننا المتعبون بالكاد يصدّون هجمات الفريق الأسود بحركات أثقل من أن تصمد طويلًا.
الإرهاق كان باديًا على الجميع، لكن عزيمة الفريق الأسود ازدادت شراسة، كأن النصر صار قاب قوسين أو أدنى منهم.
“آه!”
سقطت هيلدا بعد أن ارتطم كاحلها بعصا خشبية ألقاها أحد الفرسان، فسقط العلم من يدها.
“انتهى الأمر.”
قالها أحدهم بصوت متهدج، بينما اندفع فارس من الفريق الأسود وأمسك بالعلم بعد عدة محاولات فاشلة. ثم رفعه بكلتا يديه عاليًا، وصاح منتشيًا:
“لقد فزنااا!”
“أجل! انتصرنا!”
ارتفعت الهتافات بين صفوف الفريق الأسود.
في تلك الأثناء، توقفت مواجهتي مع السير روبرت قليلًا.
اقتربت منه بخطوات هادئة وأديت له انحناءة احترام.
“انتهى كل شيء إذن.”
“آه، لا أذكر آخر مرة تذوقت فيها طعم الدم في حلقي هكذا.”
أجابني وهو يضغط ركبته مبالغًا في إظهار التعب.
اقتربت وكأنني أريد أن أساعده على النهوض.
وبما أنه كان واثقًا أن النتيجة قد حُسمت بالفعل، لم يكترث لتقدمي منه، بل ظل يلتقط أنفاسه.
وفي تلك اللحظة بالذات، مددت يدي وسحبت العلم من بين يديه.
ثم رفعت كلا العلمين، الأسود والأبيض، عاليًا فوق رأسي وصحت بصوت قوي:
“الفائز هو الفريق الأبيض!”
تجمّدت أعين الجميع عليّ، مأخوذين بالمشهد.
الجميع عدا اثنين: السير رووين، الذي كنت قد بدلت معه الأعلام سرًا، وإلياس الذي كان قد أدرك حيلتي منذ البداية وظل يراقب بصمت.
“أتُرى… هذا هو العلم الحقيقي؟”
تساءل فارس من الفريق الأسود في ذهول، قبل أن يسارع بالكشف عن العلم الذي في يده.
لكنه لم يكن سوى قماش أبيض ملفوف حول عصا غير مثبتة، تدحرجت على أرض ساحة التدريب بخيبة.
“كلاوي هي التي تحمل العلم الحقيقي!”
“ما… ماذا؟ لقد خُدعنا!”
بينما كان الفريق الأسود يتخبط في إدراك الحقيقة، ابتسمت لهم ابتسامة مشرقة وقلت بصوت مرح:
“أجل! لم أخبركم لأن تمثيلكم لم يكن مقنعًا كفاية!”
كان ردي العفوي الصاخب كافيًا لتركهم في ذهول، لكن الغضب لم يدم طويلًا. فقد غمرتهم نشوة النصر التي بددت أي إحباط.
“لقد ربحنا، وهذا يكفي!”
“تمامًا!”
“وااااه! الفريق الأبيض انتصر!”
تعالت الهتافات في الساحة، وانضممتُ أنا أيضًا للفرحة.
غمرتنا الأصوات العالية من خمسة وعشرين فارسًا في وقت واحد.
تصفيق، تصفيق، تصفيق.
قفزت أختي واقفةً من مقعدها، تصفق بحماسة وقد أضاءت وجهها السعادة.
“كانت مباراة رائعة بحق! خصوصًا استراتيجية تبديل الأعلام…!”
لم تستطع كبح انفعالها وهي تمدحني بحماس، بينما أخي حاول تهدئتها بسعال خفيف متكلف.
“…لقد كان أمرًا مثيرًا للاهتمام فعلًا.”
قالها بصوت أكثر رصانة، ليشير إليها بالكف عن الحماس الزائد، فجلست مجددًا بأناقة وهدوء.
‘ظننت أنه يريد منها فقط التخفيف من انفعالها… لكن يبدو أنه الأكثر حماسًا بيننا!’
“لا شك أن أداء الفريق الأسود كان بارزًا، لكنني وجدت أن استراتيجية الفريق الأبيض كانت مذهلة. خصوصًا الفارس ذو الشعر البني الذي خطف العلم في النهاية…”
نظر نحوي مشيرًا إليّ بصفتي “الفارس ذو الشعر البني”، ثم التفت إلى إلياس.
ابتسم إلياس وهو يغمز بخفة:
“إنها الفارسة كلوي إيفرغرين.”
عندها تهلل وجه أخي كأنه كان ينتظر هذا الرد:
“نعم، الفارسة كلوي! لقد برز أداؤك حقًا. هل كانت خطتك أنتِ؟”
“أجل، صحيح.”
أجبت وأنا أشعر ببعض الحرج من تباهيهما بي.
“مستقبل الفيلق العاشر مشرق.”
قال أخي، في حين ألقت أختي نظرات فخرية مليئة بالمحبة تجاهي.
‘ها هم مجددًا… عائلتي جميعًا يذوبون في دلال الصغرى!’
ابتسمت بخجل معتاد.
ثم جاء صوت منقذ من أختي:
“بغض النظر عن النتيجة، يستحق جميع فرسان الفيلق العاشر مكافأة.”
ارتفعت صيحات الفرح مجددًا. كان ذلك شبيهًا بمدرسة ابتدائية تُوزع الجوائز على جميع الأطفال كي لا يحزن أحد… لكنه أمر جيد على أية حال.
أختي لم تفوت الفرصة، فأضافت بسرعة:
“أما الفارسة كلوي، التي أبهرتنا بأدائها، فسأستدعيها إلى القصر لأشكرها بنفسي.”
ابتسمت خجلًا وأديت التحية:
“إنه لشرف عظيم، يا صاحبة السمو.”
أدركت أنها استغلت الأمر كذريعة لتجلس معي على انفراد، فبادلتها ابتسامة سرية.
لكن أخي لم يستسغ المشهد. فقد ضاق وجهه قليلًا وهو يحاول أن يخفي غيرته.
أما أختي، فمدت يدها نحوي بابتسامة رسمية وقالت:
“الفارسة كلوي، تفضلي.”
كان واضحًا أنها تقصد أن أرافقها كوصيفة مرافقة.
‘الآن؟ ظننت أنه سيكون مساءً!’
هرشت مؤخرة رأسي بخفة قبل أن أتقدم إليها.
شعرت بعيون الفرسان كلهم تتعلق بي، بعضهم يغبطني، وبعضهم يتحسر.
فأختي، بصفتها الأميرة الأولى، هي أعلى النساء منزلة في الإمبراطورية، ومرافقتها شرف يحلم به أي فارس.
أما أنا… فقد كنت أكثر سعادة لأن ذلك يعني أنني سأفلت من بقية تدريب هذا المساء!
انحنيت وقبّلت ظهر كفها المكسو بقفاز الدانتيل، وأديت وضعية المرافقة.
اقتربت أختي أكثر وهمست لي بخفة، وشعرها الطويل يتدلى ليغطي ملامحها من أعين الآخرين:
“بيبي الصغيرة صارت فارسة حقيقية!”
كانت تحاول كبح ضحكها، فارتسم على وجهها تعبير غريب جعلني أكاد أضحك أنا أيضًا.
صحيح أن الفرق في الطول بيني وبينها جعل الوضعية تبدو مضحكة قليلًا… لكنّها من طلبت ذلك!
تدلّى شفتيّ بضيق وقلت:
“أنا فارسة بالفعل.”
فربتت على يدي وهمست برقة:
“قلت ذلك لأنك بدوت رائعة حقًا.”
“هاه! أعرف أنك تقولينها لمجرد مجاملتي!”
اعترضت بحدة، لكن ابتسامتي سرعان ما ظهرت، فقد كانت تلك أول مرة يصفني فيها أحدهم بـ”الرائعة”، وليس فقط “اللطيفة”.
أختي لاحظت كيف تحسنت مزاجي فورًا، فضحكت بصمت.
كانت لحظة دافئة بين شقيقتين لم تلتقيا منذ زمن.
لكنّ أخي قطعها فجأة:
“ديـا…”
ناداها بصوت متكلف العذوبة.
رأيت قشعريرة تسري على ذراعها من سماع نبرته.
“ما الأمر، يا أخي العزيز؟”
حافظت على هدوئها، رغم أن ابتسامتها كانت ترتجف قليلاً.
قال بصوت ألطف مما قبل:
“لقد كنتُ أنا من رافقكِ في المجيء، فمن الطبيعي أن أرافقكِ عند العودة أيضًا.”
مد يده نحوها كفارس نبيل، لكننا كنا نعلم جميعًا أن ما يريده حقًا هو قطع لحظتنا.
“أخي، أتيحت لك فرص كثيرة لمرافقتي سابقًا، فلا بأس إن تركت هذه لي.”
“هذا يُشعرني بالخذلان، ديا…”
أجابها بابتسامة رقيقة، لكن الشرر المتطاير بين نظراتهما كان جليًا.
حاولت سحب يدي ببطء حتى لا أكون عالقة بينهما، لكن أختي شدّت قبضتها أكثر وهي ترفع ذقنها بتعجرف:
“ألم تقل قبل قليل إن أداء هذه الفارسة أعجبك؟”
“بلى، لقد كان أداؤها مميزًا.”
اعترف أخي، مكرهًا.
“إذن، أليس من ا
لطبيعي أن أخصها أنا بالتكريم؟”
فاغتاظ وقال أخيرًا ما في قلبه:
“أنا أيضًا أستطيع أن أكرمها! لماذا يجب أن يكون الأمر بيدك أنت فقط؟!”
وهكذا انكشف سبب غيرته أمام الجميع.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 16"