الفصل 34 : تّحيّةٌ شَّرِسة ¹

 

 

“الياقوت الأزرق من جبل تيهيتا الذي تمّ إيداعُه، بِيعَ مقابل ٢.٤ مليون غولد. هذه هي الدّفعة، سيّدة هيلينا.”

 

“…حسنًا، شكرًا لك.”

 

رغم أنّها تلقّت خبرًا عن مبلغٍ كبيرٍ جَنَتْه، لم يكن وجه هيلينا مفعمًا بالبهجة.

 

وكذلك كان مشهدُ الشارع خلف ظهرها.

 

شارع الرماد بدا ساكنًا كما لو أنّ فأرًا لم يمرّ به. لا محالٌ مفتوحة، ولا أثرَ للناس.

 

“منذ الاجتماع بالأمس، والأجواء سيّئةٌ جدًّا. الجميع اجتمعوا في المقرّ بوجوهٍ يائسة. لقد خسروا مورد رزقهم بين ليلةٍ وضحاها.”

 

“هل هناك كثيرون لا يملكون ضامنين؟”

 

“بحسب ما توصّلنا إليه، هناك حوالي عشرين شخصًا.”

 

كان عدد أعضاء نقابة التّجار لا يتجاوز المئة.

 

وهذا يعني أنَّ ٢٠٪ منهم سيضطرّون إلى إغلاق متاجرهم.

 

“كان الجميع متحمّسين، وقد بدأوا حتى التّخطيط لمهرجان. لكن بعد ما حدث، صارت نفسيّات البقيّة مُنهارة أيضًا.”

 

زفرت هيلينا تنهيدةً عميقة.

 

“حاولتُ الاتّصال ببعض النّبلاء الذين أعرفهم على نحوٍ غير رسميّ، وسألتُ إن كان بإمكانهم مساعدتنا…”

 

“ورُفِضتِ، أليس كذلك؟”

 

“أجل. قالوا إنّهم لا يريدون الارتباط بأشخاصٍ ذوي سُمعةٍ سيئة مثلنا. رغم أنّهم كانوا يأتون في الخفاء لشراء بضائعنا لأنّها ممتازة.”

 

نقرت هيلينا لسانها بضيق.

 

“عندما طلبنا مساعدتهم في حفظ الأمن، لم يلقوا بالًا لنا. والآن، بعدما نظّفنا المكان، وحاولنا العمل بشكلٍ أفضل، أصبحوا يرشّون الملح فوق ما بنيناه. إنّه لأمرٌ يُغضب فعلًا.”

 

بحسب ما سمعته من جدي، فإنَّ هيلينا طلبت المساعدة من العائلة الملكيّة مرارًا لأجل الأمن.

 

لكنّها قوبلت دومًا بالرّفض. كان الجواب: “ليست لدينا قوى بشريّة، دَبِّروا أموركم بأنفسكم”.

 

ولهذا، فمنطقة الرماد ما زالت تحت إشراف نقابة التّجار في ما يتعلّق بالأمن، لا تحت إدارة الفرسان أو الحرس.

 

‘كانوا يقبضون على المجرمين، ويحبسونهم، ثمّ يسلّمونهم في بعض الدّوريّات النّادرة للفرسان، وكأنّهم يتفضّلون عليهم.’

 

كانت هيلينا تضع تعبيرًا مُعقّدًا حين نظرت إليّ، ثمّ تحدّثت بنبرةٍ مصطنعةٍ من الإشراق.

 

“انظري إليّ وأنا اقول كلّ هذه الأمور. آسفة، كلّما جئتِ إلى هنا، أجدُ نفسي أرتاح وأتكلّم بلا قيود.”

 

“لا بأس، لا داعي للاعتذار.”

 

“على الأقلّ، من الجيّد أنَّ عضوة النقابة إليشيا لديها ضامن. السيّد ميكيلي مسافرٌ حاليًّا، لكنّه قد يمرّ في زيارةٍ قصيرة ويقوم بدور الضّامن.”

 

ولأنّي لم أستطع الإجابة، اكتفيتُ بهزّ رأسي.

 

“كان وجهكِ يبدو شاحبًا وكأنّكِ لم تنامي لحظة، فشعرتُ أنّكِ قلقة، ولهذا تحدّثتُ. على أيِّ حال، سأذهب الآن.”

 

نعم، هيلينا تعرف النّاس جيدًا.

 

فأنا لم أنم فعلًا، بسبب زيارتي لليلة الماضية إلى مقاطعة راوم.

 

ورغم تعقيد مشاعرها، كانت لا تزال تُفكّر في الآخرين. لذا، أمسكتُ بيدها فجأة.

 

“كلّ شيءٍ سيسير على ما يُرام. لا تقلقي كثيرًا، سيّدة هيلينا.”

 

لم تكن كلمات مجاملة.

 

لقد قلتُها بصوتٍ واضحٍ وقويّ.

 

نظرت إليّ هيلينا نظرةً طويلة، ثمّ ابتسمت قليلًا.

 

“…حسنًا. فلنأملْ أن تحدثَ معجزة.”

 

وبعد أن غادرت، أخرجتُ صحنًا من الخزنة.

 

تأمّلتُ الصحنَ الذي رسمه نيكولاس، وتمتمت:

 

“ليست معجزة. بل هي نتائجُ جُهود.”

 

جهود هيلينا.

 

وجهودي أنا.

 

وجهود نيكولاس.

 

تذكّرتُ ما دار بيني وبين نيكولاس الليلة الماضية.

 

***

 

“هل، هل تقولين إنّكِ من طرف الدّوق ميكيلي؟! إذًا أنتِ حفيدته؟”

 

“نعم. لم تلتقِ به من قبل، أليس كذلك؟ قد لا تُصدّق، لكن انظر إلى لون عينيّ. إنّها بلون ليونيت، أليس كذلك؟”

 

ثمّ دفعتُ نحوه المستندات.

 

كانت أوراقَ الوراثة التي حصلتُ عليها من جدّي.

 

راقبتُ نيكولاس وهو يقرأ الأوراق، وبدأتُ أسترجع ما أعرفه عنه.

 

‘نيكولاس راوم. رسّامٌ من العامّة، لاحظته روزان وتزوّجته ليكون صهرًا بالتبنّي. روزان تفضّل السّيطرة من خلف الكواليس، ولذلك كان شخصًا مناسبًا لها تمامًا.’

 

روزان لم تُحبّه يومًا.

 

لقد تزوّجته فقط لتستخدمه كرسّامٍ ناسخ، ولتُظهر بأنّها تحبّ الفنّ بدرجةٍ تجعلها تتزوّج رسّامًا مجهولًا.

 

طبعًا، حتى لو كان الزّواج بلا حبّ، يمكن للقلب أن يتغيّر. لكن قلب روزان لم يتغيّر قط.

 

وأنا أعرف ذلك أكثر من أيِّ أحد.

 

لأنَّ…

 

‘في حياتي السّابقة، روزان هي من قتلت نيكولاس.’

 

بعد أن اختطفت جدي وأخذته معها، وبعد مرور نصف عام فقط—

 

تمّ طرد نيكولاس.

 

بُهِتت سُمعته بدعوى أنّه ارتكب الزّنا وأنجب طفلًا غير شرعيّ.

 

وحين حاول نيكولاس أن يدافع عن نفسه ويُجري مقابلة مع صحيفة صغيرة، مات في حادثٍ عرضيّ في ذلك اليوم بالتّحديد.

 

‘الجاني هرب، ولم يكن هناك شهود. توقّف التّحقيق، وتمّ دفن الرّجل، الذي كان في يومٍ من الأيّام نبيلاً، بطريقةٍ مُزرية.’

 

كان مصير نيكولاس هو الموت.

 

لولا وجودي.

 

“أفهم. لكن، لماذا يريد الدّوق أن يراني؟”

 

نظرتُ إلى عينيه التي غمرتها الدّموع، وقلت:

 

‘لا شكّ أنّه بدأ يشعر بالأمر. ما دامت روزان بجانبه، فلن تكون النهاية سعيدة.’

 

لهذا السبب…

 

‘سأغيّرُ له ذلك المصير.’

 

“لقد أعجب الدّوق بموهبتك. ويريد أن يستثمر فيك.”

 

“…يستثمر فيّ؟”

 

“أجل. ليس في الرّسوم المستنسخة، بل في لوحاتكَ الحقيقيّة.”

 

نظر إليّ نيكولاس مذهولًا، كأنّه لا يُصدّق.

 

فابتسمتُ له بلُطف.

 

“الشّروط بسيطة جدًّا. هل ترغب في سماعها؟”

 

شدّ نيكولاس فكّه الضّعيف، الذي كان قد ارتخى، ثمّ هزّ رأسه بعزم.

 

“أجل، تفضّلي قولي ما شئتِ.”

 

***

 

حين انتهت المُحادثة، وهممتُ بالرّحيل، مدّ نيكولاس صحنًا يحمل رسم شلّال نحوي.

 

“هل ستقبلين به؟”

 

“آه، هل يمكنني أخذه فعلًا؟”

 

“نعم. الجميع يظنّ أنَّ الرّسّام هو مالك العمل، لكنّي لا أعتقد ذلك. أظنّ أنَّ صاحب العمل هو أوّل من يُدرك قيمته. لذا، أرجوكِ، كوني مالكة هذه اللّوحة. يمكنكِ استخدامه كما تريدين.”

 

وضعتُ الصّحن في الخزنة بعد أن لففته بعناية.

 

ثمّ نظرتُ إلى رُزم الأموال المتراكمة أمامي.

 

على أيّ حال، لقد حان وقت البدء بالاستثمار.

 

قرّرت أن أستثمر في نيكولاس.

 

‘ليس بدافع الشّفقة. بل كقرارٍ تجاريّ.’

 

لأنَّ لوحات نيكولاس كانت بالفعل رائعة.

 

لقد تزوّج من ابنة دوق، ثمّ تحطّم بسبب فضيحة.

 

وحين مات، تمّ ذكر ذلك في الجريدة بشكلٍ موجز.

 

ورأيتُ في ذلك الخبر بضع لوحات له من أيّام حياته.

 

قبل أن تستخدمه روزان، كانت رسوماته تنبض بالحياة والجمال.

 

وبعد أن تمّ نشر تلك الأعمال، ظهر العديد من الأشخاص الذين وقعوا في حبّ فنه، وتهافتوا لشراء أيِّ شيءٍ له.

 

‘كانت روزان تضعف ثقته بنفسه عمدًا، وتقول له: من سيتعرّف عليك سواي؟ لكن الحقيقة؟ كانت مسألة وقتٍ فقط قبل أن يلمع اسمه. نيكولاس كان سيظهر في النهاية.’

 

أنا ممتنّةٌ لأنّي أمتلك ذوقًا في الفنّ.

 

فقد استطعتُ أن ألاحظ أنَّ الرّسّام الناسخ الذي كانت روزان تُخفيه هو نيكولاس، الذي اعتُقِد أنّه ترك الرّسم بعد زواجه.

 

‘مشروع روزان للاستنساخ سيتلقّى ضربةً قويّة.’

 

وقد خطّطتُ بالفعل لحماية نيكولاس من أيِّ ضررٍ قد تُحاول أن تُلحقه به.

 

الآن، كلّ ما عليّ هو الانتظار.

 

أثناء نظري إلى جدول مزاد الليل المُدوَّن في التّقويم، كنتُ أُقلّب كرةً سحرية تالفة بيدي.

 

صحيح أنّها لا تعمل، لكنّ سطحها غير المستوي قد يُفيد ككرة تدليك لتقليل النّعاس.

 

‘بالمناسبة… لو أردتُ إخفاء قلادة لينا، سأحتاج إلى قطعةٍ أخرى من الآثار المقدّسة.’

 

ذلك الفارس الأحمق سيعود بالتّأكيد، حاملاً جهاز تتبّع الآثار.

 

لكن الجهاز لا يلتقط القلادة فقط، بل أيِّ قطعة أثرٍ مقدّسة.

 

ولهذا، خطّتي أن أُخفي القلادة، وأزعم أنَّ الجهاز التقط قطعةً أخرى.

 

لكن المشكلة…

 

أنّه لا توجد قطعةٌ أخرى أصلًا.

 

‘هل يمكن للمرء أن يحصل على أثرٍ مقدّس فقط لأنّه يريده؟’

 

المال ليس المشكلة.

 

إن كان الأثر المقدّس باهظًا؟ سأشتريه وأبيعه لاحقًا بسعرٍ باهظ، وإن لم أربح.

 

لكن، ماذا لو لم يكن هناك أثرٌ للشراء أصلًا؟

 

‘هل أحفر الأرض حول معبد شجرة العالم؟’

 

بينما كنتُ أفكّر، خطر ببالي شيء.

 

الأثر الوحيد الذي رأيته، غير القلادة، كان صندوق الموسيقى الذهبيّ.

 

لكن سرعان ما عبستُ.

 

‘لكنّ الحصول عليه من ذلك اللّص سيجعل الأمر تعاملًا مع بضائع مسروقة. وهذا مرفوضٌ تمامًا!’

 

ماذا لو قدّمتُ طلب استعارة إلى معبد شجرة العالم؟

 

يُقال إنّهم يُوافقون نادرًا على مثل تلك الطّلبات.

 

كنتُ أفكّر بتمعّن، حين…

 

‘هل أنا اتخيّل؟’

 

“مرحبًا!”

 

لا بدّ أنّني مُتعبةٌ من قلّة النّوم.

 

نعم، بالتّأكيد.

 

ففي الأحلام فقط—

 

“أتيتُ لأفي بوعدي. تذكرين اسمي، أليس كذلك؟”

 

شخصٌ كنتُ أفكّر فيه ظهر فجأةً أمامي.

 

اللّص، لماذا يدخل بكلّ هَذهِ الوقاحة؟! ومتى وعد بشيءٍ أصلًا؟!

 

ومن دون تفكير، رميتُ كرة القيود السحريّة التي كنتُ أُدحرجها في يدي.

 

‘آه، صحيح! تلك الكرة تالفة!’

 

أدركتُ ذلك بعد أن رميتها… لكنّ الأوان كان قد فات.

 

بما أنَّ الأمور وصلت إلى هنا، فلتتلقَّ ضربة على الأقلّ! هذه انتقامي لما فعله بالسّبراي!

 

…أو هكذا ظننت.

 

“أوه، هممم.”

 

انفجرت خيوطٌ عنكبوتيّة من الكرة، والتفّت حول جسم اللّص فور اصطدامها به.

 

“إنّها تحيّة… كيف أقول…”

 

ابتسمَ بينما كان مستلقيًا ومربوطًا بالخيوط.

 

“تحيّةٌ شرِسةٌ، فعلًا…”

 

 

 

《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》

 

═════• •✠•❀•✠ •═════

الترجمة: فاطمة 

حسابي ✿

《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》