مددتُ يدي المرتجفة و وضعتها على جبين آرين.
لم يكن جسده، الذي لم يُشعر بدفء الطفولة، سوى قشرة فارغة كأن كل قوته قد استُنزفت.
“أنا آسفة لأنني لم أستطع حمايتكَ آنذاك… أنا آسفة لتأخّـري.”
تمتمتُ بالاعتذار الذي كرّرته مرّات لا تحصى، و بدأت أنقل قوتي المقدسة. تحولت القوة المقدسة المتدفقة من جسدي إلى ضوء أبيض، يغلف جسد آرين الصغير ببطء.
سرعان ما أصبح الضوء الناعم ساطعًا، و تحوّلَ إلى طاقة دافئة تتسرّب إلى جسد آرين الجاف.
بدأ صدر آرين يرتفع و ينخفض ببطء و بشكلٍ كبير، كما لو أن أنفاسه المحتبسة قد تحررت.
عـادت الحيوية تدريجيًا إلى وجهه الشاحب الذي كان يشبه الموت.
“…هل نجح الأمر؟”
عند صوت شوريل المنخفض المرتجف، مسحتُ الدموع في عيني و أومأتُ برأسي.
“إذا كانت لديه إرادة العيش.”
تحركت أصابع آرين بشكلٍ طفيف.
بدت هذه الرعشة الصغيرة كإرادة قوية للعيش، مما جعلَ الدموع تملأ عيني مجدّدًا.
لكن هذه المرة، كانت دموع الفرح، وليست الحزن.
أمسكتُ يـد آرين بأطراف أصابعي بقوة.
“شكرًا لصمودكَ. شكرًا لأنكَ سمحت لي بمساعدتكَ…”
على عكسِ ذلكَ الوقت الذي لم أستطع سوى المشاهدة، شعرتُ أن قدرتي على مساعدة آرين مباشرةً الآن كانت معجزة.
هذه المرة… لحسن الحظ، لم أتأخّـر.
في تلكَ اللحظة، بدأ شعور الذنب العميق الذي كان عالقًا يتلاشى قليلاً.
في اليوم التالي،
في نهاية طريق تكفير ليفيا الأخير، كنتُ في انتظارها.
كان المكان أمام كاتدرائية ديفولد مزدحمًا بالناس.
تجمّـع الجميع لمشاهدة نهاية ليفيا في هذا المسرح الأخير لعقوبتها.
كان الناس يلعنون و يطلقون غضبهم تجاهها حتى قبل أن تظهر.
لا شكّ أنها تحملت الكثير من القذارة و الحجارة و اللعنات اللا نهائية في طريقها إلى هنا.
كانت بالتأكيد جزاءً لجرائمها، لكن في ركن من قلبي، نشأ شعور معقّـد يصعب تفسيره.
“الحاكم يختار فقط، ولا يتدخل.”
“يا مَـنٔ وُلدت من جذور شجرة العالم، يا مَـنٔ مُنحت وعاءً لاختيارين.”
“الآن، اكسري الإرادة الخاطئة، و حافظي على مصيركِ بيديكِ.”
بدأتُ أفهم كلمات بيسيا الآن قليلاً.
في اللّحظة التي نشرتُ فيها الحاجز المقدس لحماية راجان، أدركتُ أثناء استخدام القوة المقدسة.
كنتُ بالتّأكيد مختارة لأتجسّد في جسد ليفيا.
لكن لماذا “أنـا”؟
ظلّ هذا السؤال عالقًا في قلبي.
كان الجواب في كلمات بيسيا وفي المشاهد التي رأيتها في حلمي.
عندما أدار الحاكم عينيه للحظة، ذبلت الشجرة.
في اللّحظة التي كـادت فيها الحشرات الفاسدة أن تلتهم الشجرة و تبتلع جذورها، قطع الحاكم الأغصان الفاسدة و نزع الأوراق الجافة الهشّـة.
كان يعتقد أنها ستولد من جديدٍ كحياة أخرى يومًا ما.
وفي الواقع، الأوراق التي نزعها و أكلتها الحشرات حصلت على حياة في بُعـدٍ آخر. أنـا، التي وُلدت و نشأت من تلكَ الأوراق، كنتُ دليلاً على ذلك.
بما أن روحي كانت مشابهة لليفيا و متوافقة مع جسدها، تـمّ اختياري كـ”الوعـاء” المولود من جذور شجرة العالم.
أخبرني بيسيا أن أكسر إرادة ليفيا الخاطئة و أحمي مصيري الممنوح لي.
“ما هو المصير الذي يجب أن أحميه؟”
هل هو حماية الإمبراطورية؟ أم معاقبة ليفيا؟
لم يكن أيًا منهما.
كل ما أراده الحاكم هو حماية شجرة العالم الملوثة، إرث أستيريا.
رمشتُ ببطء و شعرتُ بالقوة المقدسة داخل جسدي.
لم تكن القوّة المتدفقة التي استخدمتها لنشر الحاجز، بل القوّة المقدسة المناسبة التي استخدمتها لشفاء المدمنين.
‘حتى نشر الحاجز المقدّس بامتصاص قوة ليفيا المقدسة كان ممكنًا بإرادة بيسيا.’
لكن هل كان ذلك حقًا مجرد “اختيار”؟
في اللّحظة التي نشرتُ فيها الحاجز في راجان، لم تُسلب قوة ليفيا المقدّسة مؤقتًا، بل فُقدت بالكامل.
سحبَ الحاكم كل القوّة المقدسة التي منحها لها.
“الحاكم يختار فقط، ولا يتدخل.”
في تلكَ اللحظة، قام الحاكم بـ”التدخل” بدلاً من “الاختيار”.
لقد سحبَ مباشرةً “الاختيار” الذي منحـه في الماضي لتحقيق رغبة أستيريا.
لهذا السّبب، عندما أيقظتُ قوتي المقدسة لأوّل مرة، شعرتُ ببيسيا بوضوح، لكنني الآن لا أشعر بـه على الإطلاق.
على الرغّم من أن القوة المقدّسة لا تزال بداخلي ولم تختفِ، كنتُ متأكدة أنه يدفع ثمن التدخل.
و الأهمّ من ذلك، تلكَ الكلمة التي سمعتها عندما نشرتُ الحاجز.
في اللّحظة التي أصبحت فيها رؤيتي بيضاء و شعرتُ أنها النهاية، وسطَ القوة المقدسة اللانهائية التي تدفقت، سمعتُ كلمة خافتة:
“لقد تحقّقت أمنيتكِ.”
في البداية، لم أفهم معناها.
لكن مؤخّرًا، أدركتُ أنها كانت ردًا على أمنيتي.
أحبّ الحاكم النّاس أيضًا.
على الرغّم من أنه أحـبّ شخصًا معينًا بشكلٍ خاص، إلا أنّـه لم يتوقف عن حب الباقين.
استمر شعور غريب يصعب تفسيره.
لماذا قـرّر الحاكم، الذي كان مهووسًا بأستيريا فقط، أن يفعل ذلك؟
لكن في اللّحظة الأخيرة، لم أمت و كنتُ مع كاليـد الآن، وهذا بالتأكيد كان نعمة من الحاكم بالنّسبة لي.
في تلكَ اللّحظة، اقتربَ كاليـد و أحاط كتفي بشكلٍ طبيعي.
“هل من الجيّـد مراقبتها عن قرب؟ قد لا تكونين معتادة على ذلك.”
“ومع ذلك، أريد حقًا المشاهدة.”
“حسنًا، لكن تلكَ المرأة لا تزال تلومكِ لأنكِ أخذتِ كل شيء منها.”
“لا بأس بذلك. لأنني… في الحقيقة، أخذتُ كل شيء منها.”
ضـاق جبين كاليـد.
“لم تأخذي شيئًا من ليفيا. سواء عندما كنـتِ في جسدهـا أو الآن، لقد سحرتني روحـكِ، وليس مظهركِ.”
“ههه… أليس هذا كلامًـا جميلاً؟”
“ثقـي بنفسكِ، إيرديا. حتى لو ظهرتِ كعجوز، كنتُ سأقع في حبّـكِ على أي حال.”
لم أستطع كبـح ضحكتي على مزاحه.
استمـرّ وهو يحرك حاجبيه كما لو كان يحاول رفع معنوياتي:
“سأصحّح. ربّما سأرفض الأمر كعجوز. سيكون الوقت قصيرًا جـدًّا لنعيش حبّنـا.”
“حقًا، هذا هو السّبب الوحيد؟”
“بالطبع، سيكون الأمر صعبًا في السّرير أيضًا.”
“امم… عليّ أنا؟ أم عليكَ أنت؟”
ضحكتُ عندما ضاق جبين كاليـد بحرج.
“اسمحي لي، إيرديا. أنا لستُ شابًّـا يبدأ الحب للتو.”
نظرتُ إليه بحبّ و غمزتُ بينما أطعن جانبه:
“لا تقلق. لم أعـد أفكّـر بهذه الطّريقة. أنا فقط استعدتُ الروابط التي كوّنتها… لا أعتقد أنني أخذتُ شيئًا.”
“لقد تـمّ اختياركِ أنـتِ ، و ليس ليفيا.”
عندما انتهى كلام كاليـد، دخلت ليفيا إلى الساحة.
كانت قدماها الحافيتان مليئتين بالجروح، و ملابسها البالية بالكاد تُغطيها، مثل غصن شجرة فاسدة.
كانت مغطاة بالقذارة، و ملطّخة بالدماء من الحجارة التي ألقاها المواطنون.
أكثر من شهر من طريق التكفير.
مشت حافية في مدن مثل ميرسين و بيلانيف، التي دمرتهـا بشدّة.
على الرّغمِ من أن عينيها الذهبيتين أصبحتا باهتتين، إلا أنها لا تزال متوهجة، ولم بكن في نظرتها أيّ ندم، بل جنون فقط.
بينما كنتُ أنظر إلى ليفيا وهي تصعد إلى المقصلة في السّاحة، تمتمتُ بهدوء:
” منذُ البداية، كان هناك شيء أراد بيسيا حمايته. في اللّحظة التي قامت بتلويثه، كان مصير ليفيا أن تُهجـر.”
كما قال بيسيا، يجب أن أحمي مصيري بنفسي.
“المجرمة ليفيا، هل لديكِ كلمات أخيرة؟”
“…الحاكم يحبّني. أنا لم أُهجر.”
لم تعتـرف ، حتّى النّهاية
حتى خلال الصّمت البارد، آمنت بحبّ الحاكم بعيون متوهجة حتى سقطت الشفرة.
كان صراخها مثل لعنـة.
عدم إقرارها بأفعالها جعل المشاهدين أكثر غضبًا، لكن قلبي أصبح أخـفّ قليلاً.
كانت الأرواح التي ماتت بسببها أكثر من أوراق شجرة الخريف. بقـي عزاء ضعيف أنني لم أعـد بحاجةٍ إلى الشّعور بالأسف.
بعد سقوط رأس ليفيا، و بعد صمتٍ قصير، امتلأت الساحة بالهتافات.
كانت اللّحظة التي انتهت فيها كارثة الإمبراطورية الطويلة أخيرًا.
وداعًـا، ليفيـا.
سأحمي مصيري بقوّتي الخاصة، دونَ الاعتماد على القوة المقدسة، و سأكون سعيدةً بالتّأكيد.
لذا، حتى لو أُعيدت ولادتكِ ، تحمّلي كفارة أفعالك.
بدلاً من الذين ماتوا بسببكِ، سأصلي من أجل تعاستكِ.
التعليقات