كان ضوء الشمس الذي كان ينسكب عليها قبل لحظات قد حُجب فجأة بجسد هيوغو العريض. رفعت أنجيليكا رأسها على الفور، ورفرفت بعينيها وقد غمر الظل وجهها.
وفي اللحظة التالية، انسابت الدموع على خدّيها دون إنذار. فمدّ هيوغو يده، وكفّه الكبير الذي كاد يغطي وجهها بالكامل، ومسح بلطف أثر الدموع عن وجنتيها المحمرتَين.
“لماذا تبكين؟”
كان صوته خاليًا من الارتفاع والانخفاض، لكنه بدا وكأنه يوبّخها. إلا أنّ أنجيليكا التقطت القلق المختبئ في نبرته، فرفعت يديها المرتجفتين أمامه.
“يدي… تؤلمني كثيرًا……”
عندها فقط أدرك، فحبس أنفاسه وهو ينزل بنظره نحو يديها.
كانت أطراف أصابعها محمرة إلى حدّ قاتم، كأن الدم احتقن فيها حتى بلغ حده الأقصى.
تحوّل القلق في لحظة إلى غضب صامت. قبض هيوغو على ذراعها، ثم ما لبث أن أرخاه سريعًا، وكأنه خشي أن يؤلمها أكثر.
“أنجيليكا… ماذا كنتِ تفعلين في المختبر؟”
“أه… ذاك لأن…”
كانت أصابعها تؤلمها حتى دون أن تُلمس، فعبست وهي تحاول أن تجد الكلمات المناسبة.
كانت ترغب في إخباره بكل شيء، أن تشتكي له، أن تستند إليه، أن تطلب عزاءه. لكن… المنديل لم يكتمل بعد، والمفاجأة لا ينبغي أن تُفسد.
“لا شيء… حقًا.”
قالتها بعد تردّد، رغم أن الدموع تجمّعت في عينيها من جديد.
“حسنًا.”
قالها هيوغو ببطء، وقد أدرك أنها لن تخبره بشيء الآن. فاستدار على الفور وكأنه ينوي التوجّه نحو المختبر.
“انتظر!”
مدّت يدها على عجل وأمسكت بأصابعه. وفي اللحظة نفسها، اخترقها ألم حاد كالسهم، فشهقت لا إراديًا.
“آه!”
توقّف هيوغو فورًا، وانخفض إلى مستوى عينيها.
“هل تستطيعين المشي؟”
“أستطيع… أعني، يداي تؤلمانني، لا قدماي…”
رغم الألم، تسللت ابتسامة واهنة إلى شفتيها، وكأن سخافة السؤال خففت عنها قليلًا.
كانت نظراته مشدودة إليها، مشحونة بشيء أثقل من القلق. وكلما تأمّل ملامحها المتألّمة، ازداد صدره ضيقًا.
رفعها بحذر، كما لو كانت زجاجًا هشًا، وأسندها إليه.
“لنذهب.”
“لكن—”
“سأهتم بالأمر.”
كانت نبرته قاطعة، لا تحتمل نقاشًا.
رغم الألم، شعرت أنفاسها تهدأ قليلًا وهي تستند إليه. ومع ذلك، لم تستطع منع نفسها من الارتجاف كلما تحرّكت يداه قرب جروحها.
‘لا يمكنني إخباره… ليس بعد.’
فكّرت بذلك وهي تعضّ على شفتيها.
وفي أثناء سيرهما، كان ذهن هيوغو يغلي.
لم يكن الألم الذي تعانيه وحده ما يزعجه، بل ذلك الشعور الثقيل الذي استقر في صدره منذ أيام.
ذلك الإحساس الذي يتملكه كلما رآها تتحدث مع شخص آخر… وخاصةً عندما يتذكّر ابتسامة سيريل وهي تتحدّث عن أنجيليكا.
تذكّر بوضوح حديثهما قبل ساعات.
<أتعلم؟ أنجيليكا تفضّل الكعك المحشو بالمكاديميا على الزبيب.>
<……>
<وقد سألتني أيضًا عن فنون القتال التي أتدرّب عليها هذه الأيام. كان من اللطيف أن أتحدث معها عن ذلك.>
<لا تقترب منها.>
<هاه؟ لما كل هذا التجهّم؟>
تلك الذكرى وحدها كانت كافية لتجعل صدره يضيق.
فكرة أن تكون أنجيليكا قريبة من غيره… جعلت شيئًا مظلمًا ينهض في أعماقه، شيئًا لم يعد قادرًا على تجاهله.
< حقًّا، لا تكونين مهتمّة بالسيوف… أليس كذلك؟>
السيف ليس أداة لحماية أحد، بل سلاح يُمسَك ليجرح. ومن يحمل السيف عليه أن يكون أكثر قسوة من غيره، ولهذا لم يُرِد هيوغو أن تشعر هي بمثل هذا الأمر، ولو لذرة واحدة.
<آه، وبالمناسبة يا سيدي، هناك أمر بخصوص وفد يوم التأسيس.>
ازدادت نيران القلق اشتعالًا في صدره مع كلمات سيريل.
«هيبيريون جيرفه.»
ذلك الاسم الذي خرج من فم سيريل ظل يتردّد في رأسه.
أول حبّ لأنجيليكا… والآن، سيأتي بنفسه إلى الإمبراطورية.
دون وعي، انتقلت نظرات هيوغو إليها. كانت تقف هناك، تفتح كفّيها بحيرة وكأنها لا تدري ماذا تفعل بهما، ولا يبدو على وجهها أي أثر لاضطراب أو قلق.
‘أنجيليكا…’
كاد يناديها، لكنه كبح نفسه بصعوبة. أراد أن يسألها، أن يستفهم، أن يعرف ما تشعر به وهي ستلتقي بذلك الرجل مجددًا.
أراد أن يرى تردّدها، ارتباكها، أو حتى نفورها.
‘ما الذي أفعله؟’
وبّخ نفسه بقسوة. منذ متى وهو يطمع بهذا الشكل؟ قبل وقتٍ ليس ببعيد، لم يكن ليجرؤ حتى على التفكير بالوقوف قربها هكذا.
لكن الإنسان، ما إن يعتاد الدفء، حتى يبدأ بالمطالبة بالمزيد.
‘تجاوزت حدّي.’
شدّ على قبضته، محاولًا كبح ذلك الشعور الذي بدأ يتخمّر في صدره.
في تلك اللحظة، توقفت العربة أخيرًا أمام قصر الدوق.
“هيوغو…”
نادته بصوت خافت، عاجزة عن النزول وحدها.
مدّ ذراعيه دون تردد، وحملها بين ذراعيه كما لو كان ذلك أكثر الأمور طبيعية في العالم.
شعرت بحرارة جسده تحيط بها، فارتعشت دون قصد.
“سأنزل—”
“لا.”
خرجت الكلمة منه أسرع مما قصد، فشدّها إليه أكثر.
“قد تحتاجين إلى يديّ بعد قليل.”
لم تعترض. بل رفعت ذراعيها تلقائيًا حول عنقه، ودفنت وجهها في صدره.
كان نبضه متسارعًا… بشكل لافت.
خطا بها داخل القصر بخطوات ثابتة، غير آبه بنظرات الخدم. وحين وصلا إلى غرفته، فتح الباب بقدمه وأغلقه خلفه.
“وصلنا.”
أنزلها برفق على السرير، وما إن لامست قدماها الفراش حتى حاولت أن تبعد يديه.
“أنا بخير، حقًا.”
لكنّه لم يبتعد.
“دعيني أرى.”
جلس أمامها، وأمسك بيديها بحذر بالغ. ما إن رأى آثار الاحمرار والجرح حتى تغيّر وجهه.
“هذا مؤلم.”
“قلت لك، مجرد خدوش.”
لكنه لم يُجب. أمسك أدوات الإسعاف الموضوعة جانبًا، وبدأ بتنظيف الجروح بعناية.
“آه!”
ارتجفت، فانحنى أكثر.
“آسف… تحمّلي قليلًا.”
“تقول ذلك، لكنك لا تشعر بما أشعر به!”
ابتسم بخفة، رغم التوتر الذي لم يغادر ملامحه.
“لو كان بإمكاني أن آخذ الألم عنك لفعلت.”
حاولت سحب يدها، لكنه أمسكها بلطفٍ أشد.
“قليلاً فقط… أرجوكِ.”
عضّت شفتها، ثم زفرت مستسلمة.
“حسنًا… لكن بسرعة.”
مرّت لحظات ثقيلة، ثم خفّ الألم تدريجيًا.
وحين انتهى، نظر إليها مطولًا، وكأنه يتأكد أنها بخير حقًا.
“انتهى.”
تنفست الصعداء، لكن عينيها ظلّتا معلّقتين به.
“شكرًا…”
توقفت الكلمة في حلقها حين التقت عيناهما.
كان الصمت بينهما أثقل من أي حديث، دافئًا، متوتّرًا، ومشحونًا بشيء لم يُقال بعد.
وفي ذلك الصمت، أدرك كلاهما أن ما بينهما لم يعد بسيطًا… ولن يعود كذلك أبدًا. ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪
التعليقات لهذا الفصل " 42"