الفصل 8 : ظُروفُ ديانا وِيلينغتون ⁸
بعد مدّة قصيرة، أرسل إيان كروفورد بطاقة دعوة.
لم يكن في مضمونها ما يُنتقد، تمامًا كما في المرات السابقة. تضمّنت رغبته في أن يُرافقها بنفسه في جولة داخل قصر الدوق.
“القاء ثلاث مرّات متتالية مع الدوق المستقبلي، وعلى انفراد… من الواضح أنّه يعاملني كخطيبة!”
لم تكن القصة تنحرف عن الأصل كما توقّعت، بل كانت تسير في طريق التقدّم بشكل مثالي.
المشكلة أنّ الأمر لم يعد يتعلّق بالزواج من عدمه فقط.
“هل يمكنكِ أن تقسمي على أنّكِ لم تسمعي شيئًا، حتى لو تعلّق الأمر بأسرتكِ؟”
“أتساءل، هل ستجيبين بنفس الشكل لو تعلّق الأمر بحياة الكونتيسة؟”
منذ أن سمعت ديانا تلك العبارات المريبة، أصبحت أحلامها مليئة بالكوابيس.
في كل مرة يخرج فيها والدها ووالدتها، كانت تتوسّل للسائق أن يوصلهما إلى أماكن آمنة فقط، حتى بدا له تصرّفها غريبًا.
“لا يمكن أن أستمرّ هكذا… عليّ أن أضع حدًّا لهذا.”
وأخيرًا، جاء يوم الموعد.
كانت ديانا تهمّ بمغادرة القصر وهي تحمل مظلتها، حين اقتربت منها هيلينا بخطى بطيئة.
“ديانا، هل أنتِ ذاهبة الآن؟”
“نعم، كنت سأخرج.”
“حسنًا.”
“سأعود قبل العشاء. وإن تأخّرتُ قليلًا، فلا تنتظريني.”
“كما تريدين.”
اقتربت هيلينا وربطت شريط البونّيه على رأس ابنتها.
وقفت ديانا صامتة، متقبّلةً تلك اللمسة بلطف.
“أمي…”
“نعم؟”
“ماذا لو قلتُ إنّني لن أتزوّج حتى لو متُّ؟”
كان سؤالًا عفويًّا بعض الشيء.
توقّعت أن تصرخ أمها قائلة “ما هذا الكلام؟”، لكنّ الرد جاء غير متوقّع.
“لا أدري… إن قلتِ ذلك، فعليّ أن أستمرّ بإقناعكِ بهدوء.”
ابتسمت والدتها بلُطف.
“ديانا، أنتِ الآن موجودةٌ في شبكة من العلاقات التي تُكوِّنكِ، وأهمّها وأكثرها عمقًا هي العائلة.”
“…..”
“ولهذا، لا يمكنني أن أجيبكِ فورًا بالموافقة حين تقولين إنّكِ ستتخلّين عن تلكَ العلاقة.”
توقّعت ديانا أن تُطرد من المنزل أو تُمنع من التفكير حتى، لكنّ الرد كان مختلفًا تمامًا.
“أنا واثقة أنّ ابنتي العزيزة ستتّخذ دائمًا القرار الحكيم.”
كادت ديانا تبكي من حرارة ذلك الردّ غير المتوقع.
“…أنا دائمًا أشعر بالذنب تجاهكِ. لو كنّا عائلة نبيلة بحق، لما اضطررتِ للتفكير في مكانة العائلة.”
كانت كلمات الاعتذار البسيطة تلك كافية لتُظهر والدتها بصورة أضعف.
“ولو كان لديكِ إخوة أو أخوات، لما تحملتِ كل هذا العبء وحدكِ…”
“لا، أنا سعيدةٌ جدًّا الآن. أنتما تعرفان ذلك.”
هزّت ديانا رأسها نافية.
فكما لديانا ظروفها، فهي تعرف أيضًا أنَّ على والديها مسؤوليّة في الحفاظ على اسم العائلة.
ولذلك، على الرغم من الجدالات المتكرّرة حول هذا الموضوع، لم تتحوّل يومًا إلى شجارٍ حقيقي.
ربّتت هيلينا على كتف ابنتها بعدما عدّلت ملابسها.
“اذهبي. كوني حذرة في الطريق.”
“نعم، سأعود قريبًا، أمي.”
عند سماعها رد والدتها، شعرت ديانا بأنّها اتخذت قرارها أخيرًا.
وغادرت قصر الكونت.
***
داخل العربة المتّجهة إلى قصر الدوق، بدأت ديانا تُقلّب في ذكريات حياتها السابقة بعد وقتٍ طويل.
في حياتها الماضية، كانت تُدعى “بارك هي-سو”، وقد عاشت حتى بلغت الخامسة والعشرين.
أحبّت والديها اللذين بذلا جهدًا كبيرًا في حياتهما رغم شحّ المال.
كان من الصعب عليها تحمّل التمييز الدقيق تجاه أخيها الأصغر، أو سماع كلمات من قبيل: “أنتِ الأخت الكبرى، فعليكِ أن تتحمّلي”.
ومع ذلك، عندما كانوا يخرجون للعشاء معًا بين حينٍ وآخر، كانت تشعر بالرضا وتقول في نفسها إنّ عائلتها تعيش بسعادة لا بأس بها.
لكن كلّ تلك الأوهام انهارت عندما أغلق والداها مطعمهما الصغير.
“هي-سو، ما دمتِ ستتوقّفين عن الدراسة، فهل يمكنكِ أن تأخذي قرضًا وتساعدينا في مصروفات المعيشة؟”
لم تكن قادرةً على رفض طلبهما، وقد كانت تعرف ظروفهما تمامًا.
لكنّها في تلك اللحظة أدركت تمامًا معنى أن تكون الابنة الكبرى هي “الركيزة” في المنزل.
الإجازة الأكاديمية التي كانت مقرّرة لنصف عام امتدّت إلى عامين.
ازدادت خبرتها في العمل الجزئي أكثر من حصولها على شهادات، وارتفعت ديونها تدريجيًّا.
وكلّما شاهدت صور حياة أصدقائها الباذخة على وسائل التواصل، ازداد شعورها بالبؤس.
“كيف تُنفقين كل هذا المال؟ ما الذي تفعلينه بالضبط؟”
“هل فقرنا هذا خطأي؟ هل أنا المذنبة؟!”
“اقتربي! كيف تجرؤين على الحديث مع أمكِ بهذه الطريقة؟!”
مرت بارك هي-سو في مرحلة مراهقةٍ متأخّرة، لكنّها دفعت ثمنًا باهظًا.
لم يحتمل والدها ووالدتها غضبها الصامت، بل قابلوه بالحزم والصرامة.
وفي ذلك الوقت بالتحديد، ارتكب أخوها الأصغر خطأ كبيرًا.
اعترف بأنه خسر خمسين مليون وون في استثمار بالعملات الرقمية.
وفي تلك اللحظة، انقطع آخر خيط كانت ديانا متمسّكة به.
“هل هذا منطقي؟ هل نحن بنك؟ إن ارتكبتَ هذا الخطأ، فعليك أن تتحمّل عواقبه!”
“كيف تتحدثين هكذا وأنتِ الأخت الكبرى؟”
“أنا قاسية؟ وأنتِ؟ تريدينني أن أعمل في مصنع حتى تُرضي نفسكِ؟!”
ظلّ والدها صامتًا أثناء الشجار، ثم فجأة، صفعها على وجهها.
خرجت هي-سو من المنزل دون عودة.
لحسن الحظ، حصلت على وظيفةٍ في ملاهٍ ترفيهيّة وفّرت لها مكانًا للنوم والطعام، لكنها أدركت أمرًا مهمًّا منذ ذلك اليوم:
أنّ حياتها لن تكون سهلةً أبدًا.
وأنها، رغم كل شيء، مضطرةٌ للاستمرار.
وفي كل مرة ترى فيها طفلًا يضحك مع والديه في الملاهي، كانت تفكر.
ليتني وُلدتُ في عائلة كهذه.
عائلةٌ لا تفكّر سوى في المحبّة والاهتمام.
ذلك الحلم المستحيل بقي راسخًا في قلبها طويلًا.
حتى اليوم الذي ماتت فيه في سنٍّ مبكرة، وعادت إلى الحياة كـ ديانا ويلينغتون.
وربّما لأنَّ أمنيتها كانت دقيقةً جدًا…
يمكن تلخيص حياتها الجديدة في عبارةٍ واحدة.
‘تعويض عن حياة بارك هي-سو.’
ابنةٌ وحيدة، تنعم بالثراء، ووسط محيط دٍ مملوء بالمحبّة والرّفاه.
كان كلّ ما تمنّته قد تحقّق.
والدٌ حنون، وأمٌّ حذرة، عاملوها كأنّها كنزٌ لا يُقدّر بثمن.
حتى عندما استعادت ديانا ذكرياتها الماضية، وبدأت تتصرّف بتحفّظ معهم، ظلّا على حالهما، محبّين ومتفهمين.
لكن أوّل مرّة حصل فيها الصدام بينهما، كانت حول موضوع الزواج.
كان واضحًا ما يريده والداها:
أن تتزوّج، وتُكوّن عائلة، وتختبر السعادة التي عاشوها بأنفسهم.
وهذا هو التفكير السائد في هذا العالم.
الغريب لم يكن في والدتها، بل في ديانا نفسها.
ذكّرت نفسها بأنَّ هذا الشعور بالغربة يعود إلى كونها أصبحت شخصيةً في كتاب، وأنَّ ما تتذكره هو حياة ماضية قد انتهت.
كل شيءٍ انتهى.
لكنّ ذكرياتها السابقة أصبحت معلومات، ومشاعرها القديمة، رغم تلاشيها، ما زالت تؤثّر فيها.
تغيّرت قيمها، وحتى لو كانت ديانا ويلينغتون من جديد، فإنّها لم تعد الشخص ذاته.
لم تكن واثقةً من قدرتها على بناء عائلةٍ سعيدة.
وإن كان الطرف الآخر هو إيان كروفورد، فهذا مستحيلٌ تمامًا.
لا تريد أن تموت، ولا تريد أن تكون خطيبةً لشخصٍ غامض وخطير.
تساءلت إن كان لطفه المفرط يخفي خيانة، وإن كانت كؤوس الماء التي يُقدّمها لها مسمومة.
لم تكن تريد أن تعيش بقيّة حياتها في حالةٍ مِن الحذر المستمر.
لو كان هذا هو مصيرها، فالأفضل أن تبقى وحيدة.
كرهت أن تعيش حياةً تعرف مسبقًا أنّها تغرق في مستنقعٍ لا قاع له.
ولذلك، لم يكن أمامها الآن سوى خيارٍ واحد.
“أنا أيضًا أكره التصرّف المصطنع…”
همست لنفسها بهذه الكلمات.
***
كان قصر دوق كروفورد أقرب إلى قلعة منه إلى منزل.
كانت الأرض المحيطة به واسعة للغاية، وتحتاج إلى خمسة عشر دقيقة من المشي الحثيث من البوابة إلى المبنى الرئيسي.
على أحد الجانبين، حديقة، وعلى الجانب الآخر، فرسان يتدرّبون.
تُجسّد النوافذ المقوّسة والهيكل الأبيض والسقف الأزرق الغامق المزخرف مكانة هذه العائلة النبيلة.
ما إن نزلت ديانا من العربة، حتى اقترب منها كبير خدمٍ مُسنّ.
“أهلًا بكِ في قصر الدوق كروفورد، آنسة ديانا ويلينغتون. أنا الخادم هيرمان.”
“تشرفتُ بلقائك، هيرمان.”
“لا بد أن الطريق أرهقكِ. السيد الشاب ينتظركِ في المكتبة.”
تبعت ديانا الخادم.
كان داخل القصر أوسع مما تخيّلت.
الأرضية مرصوفة ببلاطٍ على شكل معيّن، والسلالم المركزية تزيد عن أربعين درجة.
كلّ شيء من الدرابزين الحجري إلى التماثيل خالٍ من الغبار، والسجاد البحري يملأ الممرات.
لكنّ أعظم ما فيه كان اللوحات الجدارية على الأسقف، والتي صُوّرت فيها أساطير الخلق بأسلوب الفريسكو.
بجانبها، بدت الدروع المعدنية والمعلّقات أشبه بالألعاب.
“أهلًا بكِ، آنسة ديانا. هل كان الطريق مريحًا؟”
إذن هذا هو الرجل الذي نشأ معتادًا على كلّ هذا.
في اللحظة التي رأت فيها إيان كروفورد، فهمت لماذا يراه والدها ووالدتها فرصةً ذهبية.
قصرٌ مهيب يجعل الزائر يندهش من فخامته.
لكنّ صاحب هذا القصر بدا وكأنّه على وشك الموت من الملل.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 8"