الفصل 14 : المُهرّجون وفطر المهرّج ⁴

من كان ليتوقّع هذا؟

حتى زوجة ماركيز لانكاستر، وهي صاحبة الصالون، لم تكن لتخطر ببالها فكرة أن رجلًا وامرأةً، أصبحا حديث المجتمع، سيتنزهان معًا في حديقة منزلها.

‘حتى أنا، المعنيّة بالأمر، لم أكن أعلم بذلك…’

من جهة، كان هناك سيّدٌ يتمناه كلّ من في المجتمع المخمليّ.

ومن جهة أخرى، سيّدةٌ ذات شعرٍ ذهبيٍّ خلاب، لا يمكن رؤيتها دون أن يسرق جمالها الأنفاس.

الاثنان كانا، وهما يقفان جنبًا إلى جنب، أشبه بلوحةٍ فنيّة.

ظاهريًّا على الأقل.

“تبدونَ مستمتعًا للغاية، يا إيان.”

“عمّ تتحدّثين؟”

“لا تتظاهر بالبراءة. لم يكن من الضروريّ أن تحضر بنفسك. أردتَ فقط أن ترى دهشة الناس، أليس كذلك؟”

“بل أردتُ أن أرى الآنسة ديانا وهي تتخبّط وتنظر يمينًا ويسارًا.”

يا له من شخصٍ سيّئ الخُلُق!

“ألستَ غريبَ الأطوار قليلًا؟”

“لكن في النهاية، سارت الأمور تمامًا كما كنتِ تأملين. أليس من الظلم اتهامُ شريكٍ بهذه المثاليّة واللطف؟”

كم سيكون الأمر رائعًا لو أنّه لم يكن يتكلّم!

راودت ديانا رغبةٌ في أن تدوسَ بحذائها قدم الرجل الذي يقودها وهو ممسكٌ بذراعها.

حين سلّمت له وصيّتها المكتوبة بخطّ يدها، كانت قد طلبت منه أمرين:

أوّلًا: أن يرافقها إلى حفلة القصر الملكيّ القريبة بصفته شريكها.

ثانيًا: أن يرسل باقة وردٍ إلى صالون مركيزة لانكاستر الأسبوعيّ.

رغم أنّ الطلبين مختلفان، إلا أنِّ الهدف كان واحدًا:

أن تُثبت للمجتمع أن وريث دوقيّةٍ مرموقة قد وقع في حبّ ديانا ويلينغتون.

“من الصعب أن أوافقك الرأي في وصفكَ باللطيف. لقد كنتَ باردًا جدًا، أليس كذلك؟”

“هل كنتُ كذلك معكِ، يا آنسة ديانا؟”

“ليس معي. ألم ترَ أولئك الذين حاولوا بكلّ طاقتهم أن يبدؤوا حديثًا معك؟”

“هل كان هناك مثل هؤلاء؟”

“لقد كانوا إلى جوارك! كالشقيقتين لومييل، مثلًا…”

“ومن تكونان؟”

هل قرّر تجاهلهما تمامًا؟

تذكّرت ديانا الأختين اللتين أصبحتا بلا وجودٍ يُذكر منذ لحظة دخول إيان.

كانت إيلين لومييل قد رمقتها بنظرةٍ حادّةٍ حين قبّل إيان ظهر يدها.

ورغم محاولاتها المستمرّة لبدء الحديث مع إيان، انتهى بها الأمر إلى الانزواء وهي تبدو كطُحلبٍ مبتلّ.

‘لو كانت طيّبةَ النيّة قليلًا فقط…’

رغم أنها شعرت بالشفقة نحوها، إلا أنّ من يتطاول على شخصٍ في وجهه، وينعته بأنّه “من طبقةٍ أدنى”، لا يستحقّ الرحمة.

“أقدّر لكَ أنكَ لم تنسَ وعدك، لكنك بالغت. ابتداءً من الغد، ستنطلق الشائعات بين السيّدات عنّا…”

“لو كان لديكِ وقتٌ لتقلقي بشأن أمورٍ تافهة كهذه، لكان الأولى بكِ أن تكرّسيه لإدارة الكازينو.”

قطع قلقَها بكلماتٍ حادّة كالسّيف.

وكان صوته باردًا لدرجة أن دفءَ الشمس لم يعد له أثر.

“سنةٌ واحدة ليست بالمدّة الطويلة، خاصّة إذا تعلّق الأمر بالحياة أو الموت.”

“…حتّى لو لم تُسرّعني، فقد كنتُ أنوي بذل جهدي.”

كان ذلك تصرّفًا وقحًا جدًّا، يصعب تصديق أنه نفس الشخص اللطيف منذ لحظات.

هل يا ترى سيحين يومٌ أعتاد فيه هذا الوجه؟

“هل فكّرتِ بطريقةٍ عمليّة لتحقيق الهدف؟”

“ليس بعد. لكن لديّ بعض الأسئلة الهامّة تمهيدًا للتحضيرات.”

“تفضّلي.”

“سمعتُ أن سبب بناء الكازينو الملكيّ هو بسبب نبلاء أولفانو اللاجئين. هل هذا صحيح؟”

تجاهلت ديانا النظرات الباردة التي كانت تجمّد أشعّة الشمس ذاتها، وغيّرت الموضوع.

“السبب وراء بنائه؟ وهل هذا مهمّ؟”

“بالطبع. يجب أن أُديره بما يتماشى مع غايته الأساسيّة.”

ظنّت أنّ منطقها وجيه، لكنّ ابتسامة إيان ازداد عرضها.

لماذا يبتسم هكذا؟

“هل طرحتُ سؤالًا سخيفًا؟ إن كان الأمر صعبًا عليك…”

“ليس كذلك. فقط فاجأني السؤال غير المتوقَّع.”

هل هذا وجهُ شخصٍ تفاجأ؟

من وجهة نظر ديانا، فإنّ تعابير وجه إيان لم تتغيّر أبدًا، سواء كان فرحًا، حزينًا، غاضبًا، متفاجئًا، أو خائفًا.

الابتسامة الثابتة على وجهه تكاد تكون قناعًا لا يُخترق.

حتى إن رافقته طوال حياتها، فلن تتمكّن من قراءة أفكاره.

“إلى أيّ مدى تعرفين عن مملكة أولفانو، يا آنسة ديانا؟”

“بقدر ما يعرفه الجميع، على الأقل.”

أولفانو هي دولة تحدّ إيميرالد من جهة الحدود.

تقع على بحرٍ واسعٍ ضمن قارة موراتو، وقد ازدهرت بفضل التجارة البحريّة وراكمت ثروةً طائلة.

يُربّى شعبها على احترام حياة التقشّف والنزاهة، تحت حكم القائد الأعلى المعروف بـ”الباشا”.

“في أولفانو، يُمنع شرب الكحول والمقامرة بموجب القانون. لا يُسمح بذلك سوى لسلالة الباشا. ويُقال إنَّ من يستحقّ المتعة هو فقط من يستطيع مقاومة الإغواء.”

“لكن الشرب والمقامرة مجرّد تسلية، لا إغواء.”

“ملاحظةٌ جيّدة. ولهذا السبب تحديدًا، فكّر عددٌ كبير من نبلاء أولفانو اللاجئين في التجنّس بدولةٍ أخرى.”

“لا يُعقل! أيتخلّون عن جنسيتهم من أجل بعض التسلية؟”

“الأمر أعقد من ذلك بكثير.”

كانت ديانا تمشي بخُطًى متسارعة لتلحق بإيقاع خطواته الطويلة.

في كلّ مرةٍ يخطو فيها، كانت تحتاج لأن تبذل ضعف الجهد.

“ما كان مسموحًا فقط للباشا، أصبح فجأةً متاحًا لهم. أمرٌ طبيعيّ في بلادٍ أخرى. وللنبيل اللاجئ، الذي أدرك معنى الحريّة، هذا أمرٌ جوهريّ.”

كان صوته، وهو يشرح بهدوء، يحمل شيئًا من المتعة.

“لعلّكِ لا تعلمين، لكن في العشرين سنة الأخيرة، ظهر في أولفانو قوّة لا تقلّ عن الباشا نفسه.”

“تقصد رجال الدين، أليس كذلك؟”

“أجل. أحسنتِ.”

أرض أولفانو كانت واسعةً جدًا على أن يحكمها الباشا وحده.

لذا، أرسل رجال دينٍ ليتولّوا الإدارة المحليّة، مراعيًا ثقافات المناطق المختلفة.

لكنّ ذلك القرار كان غلطةً لا تُغتفر.

سرعان ما تحالف رجال الدين مع القوى المحليّة، وبدأوا بتكديس الثروات سرًّا.

وصار لرجل الدين نفوذٌ لا تقلّ عن الباشا في منطقته، بينما ارتاح القادة المحليّون في التلذّذ بالمحظورات.

“قبل سبع سنوات، وبسبب الحرب التجاريّة بين أولفانو وريزيرف، لجأت مجموعةٌ كبيرة من النبلاء إلى إيميرالد. ومعظمهم كانوا من تلك القوى المتحالفة. لا تزال ثرواتهم حاضرةً وقويّة إلى الآن.”

مرّت خمس سنوات منذ انتهاء الحرب.

لكنّ أولئكَ اللاجئين، وقد استقرّوا في إيميرالد، لم يعودوا يكنّون أيَّ احترامٍ للباشا.

لقد أدركوا أنّ كلّ سنوات الزهد لم تكن سوى سراب.

“ولأنهم لاجئون من دولةٍ أجنبيّة، لا يمكننا أن نمنعهم من التسلية. بل لا يوجد حتى قانونٌ يتيح لنا ذلك.”

رفع إيان كتفيه بلا مبالاة.

“لكن المشكلة أنّ القمار لا يدمّرهم وحدهم.”

معظم نبلاء أولفانو كانوا من أغنى أغنياء البلاد.

ولمّا ذاقوا طعم اللّهو لأول مرّة، أنفقوا الأموال بسخاءٍ مُفرط.

وقد أحدثوا صخبًا في شوارع إيميرالد، لكنّهم تركوا كذلك آثارًا سلبيّة.

المال الذي كانوا يرمونه على طاولات اللعب، كان يساوي نفقات أسرةٍ لأشهر.

فاندفع الفقراء المخفيّون في الأزقّة إلى الكازينوهات، وازداد الفساد.

أصبحت المقامرة حديث الجميع، وراح الناس يدخلون الكازينو بدافع الفضول.

وبمجرّد أن يجرّب المرء الحظّ مرّة، يفقد إحساسه بالمال.

من يمكنه أن يعمل بجد، إذا كان بإمكانه كسب أجر ثلاث أشهر خلال لحظات؟

صار البعض يقترض بلا حساب أو يحتال فقط ليجلس على طاولةٍ واحدة مع لاجئٍ نبيل.

وانتشرت جرائم العنف والقتل المرتبطة بالمقامرة.

مثل العفن، تسلّل هذا الجنون إلى عمق البلاد.

“لذا رأى جلالة الملك أنّ علينا التحكّم بالمشكلة.

وقرّر إنشاء كازينو ملكيّ لهذا الغرض.”

“…أنت تقول إنَّ القمار هو المشكلة، لكنك تقترح كازينو لحلّها؟”

هذا منطقٌ مختلٌّ تمامًا.

《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》

═════• •✠•❀•✠ •═════

الترجمة: فاطمة 

حسابي ✿

《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》