إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 8
منذ أن تعرض كالياس للهجوم من قبل المعتدين ، لم يسبق له أن احتضنها مجددًا. رفعت ديليا نظرها نحوه، وقد احمرّت وجنتاها.
تساءلت في داخلها: هل يمكن أن يكون قد استعاد ذاكرته؟ نظرت إليه بترقب ، يملؤها الأمل.
“احرصي على تصرفاتِكِ”
قطّب كالياس حاجبيه و هو يحدق في المكان الذي تلامس فيه جسداهما.
ثم تراجع خطوة إلى الخلف، وأخرج منديلًا أنيقًا بنقوش فاخرة من جيب سرواله.
مسح كالياس المكان الذي لامسته ديليا بالمنديل، وكأن مجرد هذا التلامس كان أمرًا غير مرغوب فيه. حدقت به ديليا بملامح يائسة، وكأنها على وشك الانهيار.
“غادري الآن.”
“ماذا؟ هل ستكون بخير؟”
“إن كنتِ مصرة، يمكنكِ البقاء. لكن لا تتوقعي أن تسمعي كلامًا لطيفًا”
أدركت ديليا أن هذا بمثابة تحذير، فهزت رأسها موافقة على مضض.
وبينما كانت تهمّ بمغادرة غرفة الاستقبال، أخرج كالياس معطفه وتنهد بخفة، ثم مدّه لها.
نظرت ديليا إلى المعطف بذهول، ثم أخذته بتردد. وبسبب حجمه الكبير، راحت تحاول تعديله على كتفيها كي لا يسقط.
لكن مجرد ارتداء المعطف الذي يحمل عبق كالياس جعلها تشعر وكأنها بين ذراعيه. اجتاحتها الذكريات، فتوقفت للحظة دون أن تشعر، ثم خرجت الكلمات من فمها دون تفكير.
“يبدو أن هذا الأمر لم يتغير رغم فقدانِكَ للذاكرة.”
“ماذا؟ عمّ تتحدثين؟”
رفعت ديليا رأسها ببطء ، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة تحمل شيئًا من الحنين.
“في الماضي، كنت دائمًا تعيرني ملابسَكَ. لطالما وبختني لأنني أرتدي ملابس خفيفة لا تليق بدوقة”
لم يُجب كالياس بأي كلمة. أو بالأحرى ، بدا وكأنه تجمّد تمامًا من وقع الكلمات التي لم يكن يتوقعها أبدًا.
من الواضح أن كالياس الحالي لن يصدق كلام ديليا. و لكن رغم ذلك، كان عليها أن تستحضر ذكريات الماضي أمامه حتى يتمكن من استعادة ذاكرته في أقرب وقت ممكن.
لأنه فقط بهذه الطريقة … سيتمكن كالياس من استعادة ذاكرته كما كانت.
“إذًا، سأذهب لتبديل ملابسي وأعود بسرعة”
“لا، لا تعودي. لن يكون هناك سبب لانتظارِكِ أبدًا”
تقلّص وجه ديليا للحظة عند سماع كلماته الباردة. حدّقت في كالياس بصمت للحظة، ثم استدارت بوجه متجهم.
يبدو أن كالياس استغل فترة مرضه ليحسم مشاعره.
حتى الاحتقار الذي كان يكنّه لها لمجرد أنها من عائلة “بليك” بدا وكأنه لم يعد يستحق عناء إظهاره.
ما فعله لم يكن لطفًا… بل مجرد مجاملة.
لم يكن دفئًا… بل تصرفًا لحفظ ماء الوجه.
شدّت ديليا على المعطف الذي أعطاها إياه كالياس بقوة ، ثم سارعت بالمغادرة بخطوات متعجلة.
✦✦✦
“لماذا جئتِ إلى هنا؟”
جلس كالياس على الأريكة، واضعًا ساقًا فوق الأخرى.
أما إيزابيلا، فجلست قبالته بنفس الطريقة، وعيناها المتوهجتان بالعاطفة تتأملانه كما لو كان أغلى ما تملك.
“أمّك جاءت إلى هنا لأنها كانت قلقة عليكَ ، يا عزيزي”
بعد لحظات، دخلت الخادمة إلى الغرفة وسكبت له الشاي بصمت. حدّق كالياس في البخار المتصاعد من الكوب، ثم قال بصوت بارد وحاد:
“لقد تجرّأتِ على سكب هذا عليها بكل بساطة”
“لماذا تغضب هكذا؟ لقد فعلتُ كل هذا من أجلك.”
تقلصت المسافة بين حاجبي كالياس قليلًا. كان مدركًا أن كلماته كانت حادة، لكنه لم يستطع تجاهل شعوره المتزايد بالانزعاج كلما نظر إلى إيزابيلا.
بعد لحظة من التفكير، قال بصوت جاف:
“لو كنتِ تفكرين في مصلحتي، حتى وأنتِ دوقة سابقة، ما كان ينبغي لكِ العودة إلى القصر دون إخطار مسبق.”
لم يدم ارتباكه طويلًا، وسرعان ما غمر الجو برودة واضحة.
عندها، نهضت إيزابيلا من مقعدها واقتربت بحذر من كالياس، وجلست بجانبه.
“على أي حال، لقد جاء هذا في وقته تمامًا.”
أمسكت بيده بلطف، ونظرت إلى الجلد القاسي المليء بالندوب، وأطلقت تنهيدة حزينة.
“سأعرّفك على امرأة أخرى.”
“ماذا؟ ماذا قلتِ الآن؟”
“لقد اخترتَ زوجة غير مناسبة. كان عليكَ أن تتزوج امرأة أكثر ذكاءً وحزمًا.”
برز عرق على جبين كالياس ، وبلغ صبره حدوده.
لم تكتفِ بالدخول إلى القصر دون إذن، بل تجاوزت أيضًا حدود سلطته كرب للأسرة. لم يكن طفلًا بعد الآن ، ولم يكن بحاجة لمن يقرر مصيره نيابة عنه.
منذ أن فقد ذاكرته، ازدادت نوبات الصداع لديه، لكنه حاول التماسك.
دفع يد إيزابيلا بعيدًا و قال بصوت بارد وحازم:
“أنا من يدير شؤون الدوقية، لذا كفي عن ذلك. كنت أفكر بالفعل في تسوية الأمور بنفسي.”
ارتسمت ملامح السعادة على وجه إيزابيلا، وبدت مبتهجة وهي تجمع يديها معًا بحماسة.
“نعم، قرار حكيم. لم يكن هناك أي فائدة من ضم فتاة بلا أصل إلى العائلة.”
فتاة بلا أصل؟ لم يكن ينوي الدفاع عن ديليا، لكن فكرة أن ابنة عائلة ماركيز تُعتبر بلا أصل كانت تبدو غريبة بعض الشيء.
نظر كالياس إلى إيزابيلا التي كانت مبتهجة كالأطفال، لكنه حافظ على وجهه الخالي من التعبير.
“سأبحث لكَ عن شريكة زواج جديدة في أسرع وقت ممكن. امرأة رائعة تفيدك وتفيد العائلة أيضًا.”
“لا حاجة للنساء. لستُ بحاجة إلى واحدة”
لم يكن ينوي العيش أعزبًا مدى الحياة، لكنه لم يكن يرغب في الزواج مجددًا في الوقت الحالي أيضًا. وبينما كان يفكر في ديليا التي قبلته، مرر كاليوس أصابعه على شفتيه.
راقبت إيزابيلا تصرفه الغريب بنظرة مليئة بالشك. وبعد أن حدقت في وجهه بعينيها الضيقتين، أومأت على مضض.
“فهمت ما تفكر فيه. سأبحث لك عن امرأة مهذبة لا تشكل عبئًا عليك.”
“من الواضح أنه لا يمكن التفاهم معكِ.”
شعر وكأنه يتحدث إلى جدار.
رغم أنه قطع علاقته بعائلته ، إلا أن ديليا كانت ابنة عدوه.
كان يعتقد أن لقاء والدته سيجعله يشعر بالوضوح ، لكنه الآن يشعر بإحباط لا حد له. بل بات يريد طردها كما لو كانت ضيفًا غير مرغوب فيه.
وفي النهاية، نهض من مجلسه دون أن يرتشف حتى رشفة واحدة من الشاي الأسود. ثم فتح باب غرفة الاستقبال تاركًا إيزابيلا خلفه.
“الوقت متأخر، لذا يمكنكِ البقاء الليلة. لكن غادري القصر في الصباح الباكر.”
ردت إيزابيلا بصوت مرتبك:
“يا بني، ما هذا الكلام؟ هل ستسمح لوالدتك المريضة بالبقاء ليلة واحدة فقط؟”
“إذن، هل تفضلين أن أطردكِ الآن؟”
“م-ماذا؟ طردي فورًا…؟”
عندما أدركت أن كاليوس كان جادًا، أطبقت شفتيها بصمت.
فقد أدركت أنه إذا واصلت الحديث ، فلن يكون لديها حتى فرصة البقاء حتى الصباح.
تجاوز كالياس عتبة غرفة الاستقبال، تاركًا إيزابيلا المرتبكة خلفه. وهناك، رأى ديليا واقفة ملتصقة بالحائط، رأسها منحني.
“…كالياس.”
بدت ديليا وكأنها شمعة على وشك الانطفاء. مظهرها الهش والمهدد بالسقوط جعل كالياس يضغط شفتيه بصرامة.
“لماذا لا تزالين هنا؟ متى قلتُ لكِ أن تعودي إلى غرفتكِ؟”
كانت ملابسها كما هي، مبللة تمامًا، وكانت ترتجف وكأنها فأر مبتل تحت المطر.
“أنت تثيرين غضبي.”
هل تريدين أن تصابي بالبرد؟ هل هذا ما تريدينه لتلفتي انتباهي؟ إلى متى ستواصلين إظهار هذا الوجه البائس الذي لا أطيق رؤيته؟
تنهد كالياس بعمق، وهو يحاول كبح الغضب الذي كان يتصاعد بداخله.
“حبيبي، أنا آسفة. كنتُ حقًا على وشك العودة إلى غرفتي، لكن…”
“لكن ماذا؟”
لم تقل ديليا أي شيء. لا، لم تستطع قول أي شيء. كل ما فعلته هو التحديق في الفراغ، ولم تفتح فمها إلا بعد وقت طويل.
“لقد سمعت المحادثة التي دارت بينك وبين السيدة “
“… سمعتِ المحادثة؟”
“لم يكن ذلك عن قصد. لقد كان صوت السيدة يتردد عبر الرواق.”
نظر كالياس إليها بتمعن.
كانت عيناها تتأرجحان بلا هدف، مما جعله يعقد حاجبيه بانزعاج. ثم نظر إليها بوجه بارد خالٍ من المشاعر.
في الواقع، لم يكن يبدو عليه أنه يدرك حتى أنه اتخذ هذا التعبير. قام كالياس بتعديل بدلته غير المرتبة وتمتم بصوت منخفض.
“إذن، ماذا؟”
“كالياس، أنت…!”
“اخفضي صوتكِ. لقد كنتُ أعاني بالفعل من صداع بسبب صراخ والدتي المزعج.”
عضت ديليا شفتيها.
كانت تحدق به، حابسة أنفاسها، قبل أن تخرج كلماتها بصوت مرتجف.
“أرجوك، أجبني… هل تفكر حقًا في إدخال امرأة أخرى إلى حياتك كما قالت السيدة؟”
“……هاه؟”
كان ذلك سؤالًا عبثيًا.
بناءً على المحادثة السابقة، كان ينبغي لها أن تعرف إجابته بالفعل، ولكن تعبيرها بدا وكأن السماء قد انهارت فوقها.
أثار ذلك استياءه بلا سبب واضح.
منذ أن استيقظ حتى هذه اللحظة، لم يستطع فهم أي من المواقف التي مر بها مع هذه المرأة… ولا حتى نفسه.
“يا له من إزعاج. هل يجب أن أشرح لكِ كل شيء بالتفصيل؟”
“بالنسبة لي، هذا أمر في غاية الأهمية.”
“أجل، لا بد أنه كذلك بالنسبة لكِ. فأنتِ بلا مأوى إن تخلّيتُ عنكِ.”
اتسعت عينا ديليا في دهشة.