إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 6
عند حلول الظلام خارج النافذة، كان قصر هيلديبرانت يعج بالضجيج.
فقدت ديليا وعيها أخيرًا بعد فترة من تدهور حالتها الصحية.
و عند سماع الخبر، راح الخدم يذرعون المكان بقلق شديد، غير قادرين على إخفاء اضطرابهم.
كانت السيدة ضعيفة البنية منذ البداية، وكان الجميع يخشى أن تسوء حالتها أكثر.
على النقيض، ظل كالياس باردًا بلا أدنى انفعال. لم ترتجف حتى حواجبه السميكة، وكأن سقوط ديليا لم يكن له أي تأثير عليه.
تصاعدت الهمسات بين الخدم، مؤكدين أن طلاق الاثنين بات أمرًا محسومًا لا جدال فيه.
تنهد جيفري وهو يراقب كالياس، الذي لم يُعِر الأمر اهتمامًا، منشغلًا فقط بمراجعة الوثائق أمامه.
رغم السنوات الطويلة التي أمضاها في خدمته ، بدا له هذا التصرف غريبًا تمامًا.
كان واضحًا أن العلاقة بينهما ستنهار تمامًا قبل أن تُوقَّع أوراق الطلاق رسميًا.
نظر جيفري إلى كالياس بتردد قبل أن يتحدث أخيرًا:
“سيدي، هل أنتَ بخير؟”
توقفت يد كالياس عن تقليب الصفحات، ورفع بصره نحو جيفري. كانت عيناه خاويتين، خاليتين من أي تعبير، لدرجة تبعث على القشعريرة.
“عمَّ تتحدث؟”
“لقد أغمي على السيدة، ألا يُقلِقُكَ ذلك؟”
لو كان في حالته المعتادة، لكان قد اندفع فورًا عند سماع أن ديليا مريضة. لكن بعد أن فقد ذكرياته، بدا غير مكترث تمامًا بما يحدث لها.
بل إن نظرته الباردة كانت توحي بأنه منزعج من مقاطعة عمله بمثل هذا الحديث. شعر جيفري بجفاف حلقه وابتلع ريقه بصعوبة.
“يا له من تدخُّل لا داعي له”
ارتسمت على شفتي كالياس ابتسامة ملتوية.
“و هل مرضها أمر ذو أهمية؟”
“لكن …!”
“من الأفضل أن تصمت قبل أن ينفد صبري. إلا إذا كنت ترغب في تحمُّل مسؤولية عدم منع زواجي من ديليا”
في النهاية، لزم جيفري الصمت. لكنه ظل يحدق في رئيسه بقلق، وهو يراه يسير في طريق لا يبدو صحيحًا.
بعد ذلك، واصل كالياس التركيز على الأوراق أمامه بصمت، حتى حلّ وقت انصراف الجميع. حينها، نهض من مكانه أخيرًا.
استقبل وجهه النسيم القادم من النافذة، فمرر يده على ملامحه بتعب.
“الجميع، دون استثناء، يتهافتون لحمايتها… كما لو كان الأمر بهذه الأهمية.”
بدا في عينيه توتر واضح، وهو يحدق عبر أصابعه التي مررها على وجهه.
“لا شيء يسير كما أريد.”
بالنسبة له، كانت ديليا مجرد امرأة ستصبح قريبًا زوجته السابقة، لا أكثر. لكنه لم يكن يتوقع أن خبر سقوطها سيؤثر على تركيزه بهذا الشكل.
بمجرد أن خطرت بباله، اجتاح رأسه ألم حاد، مما جعله يعض على أسنانه بقوة.
“كيف يمكن لتلك المرأة أن تؤثر علي بهذا الشكل…؟”
طوال حياته، كان كالياس يزيح من طريقه أي شخص يزعجه، بغض النظر عن هويته. لكن مع ديليا ، الأمر كان مختلفًا. لم يستطع محو صورتها من ذاكرته و هي تتوسله بإلحاح، ودموعها تلمع، طالبة منه إعادة النظر في الطلاق.
ظل صامتًا للحظة، قبل أن يبدأ بالمشي.
خرج من مكتبه وسار في الممر الفارغ، رافعًا رأسه نحو باب الغرفة التي كانت تخصه وحده ذات يوم، لكنها أصبحت الآن غرفة نوم الزوجين.
بصوت هادئ و جاف ، قال:
“هل يمكنني الدخول؟”
….
لم يكن هناك أي رد.
ارتفع حاجبه قليلًا، ثم مد يده ليفتح الباب و يدخل.
‘يا له من ظلام دامس’
كانت الغرفة غارقة في السواد، بالكاد يمكن رؤية أي شيء.
تحرك نحو الشرفة، وسحب الستارة برفق.
شششش …
تسلل ضوء القمر الخافت إلى الداخل، ليضيء المكان بشكل طفيف. عندها فقط ، بدأ كالياس يتفحص الغرفة بتمعن.
“ما هذا المشهد؟”
ظل صامتًا لوهلة، وقد فقد القدرة على الكلام.
على السرير، كان هناك شيء يتحرك، ملفوفًا بإحكام في الأغطية مثل شرنقة.
بمجرد أن أدرك أنها ديليا، تصلبت ملامحه.
اقترب من السرير و سحب الأغطية التي كانت تحيط بها.
ما إن كشفها، حتى ظهرت أمامه ديليا وهي تلهث بهدوء، مغلقة عينيها بإرهاق.
كانت بعيدة كل البعد عن صورة دوقة نبيلة.
وجهها شاحب للغاية، شفتيها جافتين، وجسدها غارق في العرق البارد، مما جعلها تبدو وكأنها تعاني من مرض خطير.
بهدوء، مد كالياس يده ليعيد جسدها إلى وضعية أكثر راحة. ثم التقط الغطاء الذي أُزيح عنها، وأعاده ليغطيها.
لكن الغريب، أن احمرار وجهها ازداد أكثر.
‘من المفترض أنها خضعت للفحص الطبي بالفعل … لكنها تبدو وكأنها تعرضت للإهمال أو الإساءة’
تنهد ببطء، ثم انحنى قليلًا، ومد يده ليلامس جبهتها.
ما إن شعر بالحرارة العالية التي تنبعث منها، حتى تراجع للحظة من الدهشة.
عندها، تحركت جفون ديليا الثقيلة، وفتحت عينيها ببطء شديد.
“كالياس …؟” ،
اتسعت عينا ديليا بدهشة.
لم تكن تتوقع أن يأتي إليها في وقت متأخر من الليل ليقيس حرارتها. هل هذا يعني أنه استعاد ذاكرته؟ أم أنه مجرد حلم؟
ربما كان هذا مجرد أمل كاذب يعذبها. ومع ذلك، منذ أن انهار، لم تشعر أبدًا بدفء زوجها بجانبها، لذا فقد اجتاحها شعور بالحزن الممزوج بالراحة لرؤيته هنا.
حتى بعدما طلب كالياس الطلاق، كان مجرد إحساسها بهذه الدفء الوهمي كافيًا ليذيب قلبها المتجمد.
‘أتمنى فقط أن يبقى بجانبي قليلًا… فقط قليلًا’
كأنها تبحث عن ذلك الدفء المفقود، رفعت ديليا رأسها قليلًا، وفركت وجنتها برفق على يده.
“إذا كان هذا حلمًا، فليته لا ينتهي…”
رفعت جسدها قليلًا، وأحاطت عنقه بذراعيها المرتجفتين. وفي اللحظة التي تفاجأ فيها، استغلت الفرصة لتلمس شفتيه برفق في قبلة خفيفة.
شعرت للحظة وكأنه قد تجمد من المفاجأة… أو ربما كان مجرد وهم.
تمسكت بجسده وهي تلهث، راجية أن لا يدفعها بعيدًا هذه المرة.
“كالياس… أرجوك…”
كان هناك الكثير مما أرادت قوله.
هل فقد حقًا كل ذكرياته التي قضياها معًا؟ هل لم يتبقَّ في قلبه أي مشاعر تجاهها؟
لو أنه فقط يفتح قلبه لها قليلًا، لو أنه فقط ينظر إليها مرة أخرى كما كان من قبل… عندها، ستجد القوة للصمود حتى النهاية.
“كالياس، أنا أحبك.”
بجسدها الواهن، أمسكت بيده بقوة، ثم مالت برأسها نحو كفه، وكأنها تبحث عن ملجأ أخير.
كانت تتعرق بشدة وهي تهمس بصوت ضعيف:
“حتى لو دفعتَني بعيدًا ، سأتحمل … لأنني تلقيتُ الكثير منكَ في الماضي … هذه المرة ، أنا …”
“هيه ، استفيقي!”
“أنا من يجب أن … أن …”
أخذت نفسًا متقطعًا، بالكاد تستطيع البقاء واعية، قبل أن تفقد وعيها تمامًا.
أسرع كالياس وأمسك بجسدها المنهار، مانعًا إياها من السقوط.
“…الإخلاص ، هاه؟”
نظر كالياس إلى وجه ديليا، الذي ازداد احمرارًا بفعل الحمى.
لم يكن يعلم إن كان تأثير القبلة التي تبادلاها لا يزال قائمًا، لكن شفتيها المتورمتين بدتا أشبه بثمرة كرز ناضجة.
“هممم…”
حتى وهي فاقدة للوعي، أطلقت أنفاسًا متقطعة، مما جعلها تبدو في وضع محفوف بالمخاطر من عدة نواحٍ.
بينما كان يتأملها، تسلل إبهامه إلى شفتيها، متلمسًا نعومتها، وغرق في التفكير.
الغريب أنه منذ لحظة تلامس شفتيهما، توقف الصداع الذي كان يعاني منه.
في نظره الآن، كانت ديليا، المستغرقة في النوم، تبدو بريئة تمامًا، كأنها لم تؤذِه يومًا.
لكن لماذا شعر بالتحسن بعد تقبيلها؟ هل يعقل أنها لم تفعل به شيئًا كما كان يظن؟
أم أن سبب هذا الانجذاب المفاجئ لها ينبع من شيء آخر؟
بدأ كالياس يتساءل عن المرأة التي كان يسعى للتخلص منها بسرعة.
ما علاقتها به حقًا؟ ولماذا تكنّ له هذا الإخلاص الأعمى؟
إذا لم يستطع فهم الأمر، فسيستخدم مشاعرها لصالحه على الأقل.
***
بعد ذلك، بقيت ديليا طريحة الفراش لعدة أيام.
لم تكن صحتها قوية منذ البداية، لذا استغرق انخفاض حرارتها وقتًا أطول من المعتاد.
بعد تقلبات متكررة بين الحمى والبرودة، لم تفتح عينيها أخيرًا إلا عند منتصف النهار، حين كانت الشمس مشرقة.
تجولت بنظرات شاردة في أرجاء غرفة النوم، ثم جلست ببطء، واتجهت نحو النافذة المغلقة، فتحتها على مصراعيها، واستنشقت الهواء النقي.
بعد أيام من الرقود في الفراش، شعرت وكأن عقلها قد أصبح فارغًا تمامًا.
أخذت نفسًا عميقًا، قبل أن تعلو وجهها تعابير مترددة.
“ما كان ذلك الحلم…؟”
في الحلم، لم يكن كالياس كما اعتادت رؤيته.
على عكس الواقع، حيث طلب الطلاق، كان كالياس في الحلم يتقبل قبلة ديليا دون تردد.
لولا صوته البارد الذي غرس خنجرًا في قلبها، لكان الأمر قد تطور إلى أكثر من ذلك.
تذكرت الإحساس الساخن الذي لامس شفتيها، فخفضت عينيها بهدوء.
“لكن ذلك لم يكن سوى حلم.”
كانت تعلم أن احتمال زيارة زوجها، الذي لا يكن لها أي مشاعر، كان شبه معدوم.
أجبرت نفسها على الابتسام بمرارة، مقتنعة بأنها قد رأت مجرد حلم فارغ لا أكثر.
“لكن على الأقل… لم يرفضني في الحلم.”
مجرد هذه الفكرة جعلت شعلة صغيرة من الأمل تتقد داخلها.
قبضت يديها بقوة، محاولة التمسك بهذا الأمل الضئيل.
لكن فجأة، قاطع أفكارها صوت خطوات متعجلة، متبوعًا بنداء مضطرب:
“سيدتي! سيدتي!”
“هذا صوت سارا …؟”
كانت سارا تعمل في قصر هيلدبرانت منذ سنوات، وكانت معروفة بهدوئها واتزانها.
لكن الطريقة التي كانت تهرع بها الآن، وصوتها المرتعش، جعلا الأمر واضحًا… لا بد أن شيئًا خطيرًا قد حدث.
تحركت ديليا بسرعة، وفتحت باب غرفتها على مصراعيه.
وعند الباب، كانت سارا تلهث، ممسكةً بركبتيها.
“سيدتي! لقد استيقظتِ …!”
“أنا بخير الآن. لكن ما الأمر؟ لماذا هرعتِ إلى هنا بهذه السرعة؟”
“الأمر هو…”
جمعت سارا يديها معًا، وظهر التردد على وجهها، بينما كان شحوبها يزداد وضوحًا.
وبعد لحظة من التردد، فتحت شفتيها أخيرًا و قالت:
“السيدة الكبرى قد جاءت إلى القصر.”