نهضت أنيس ببطء وسط خيوط الشمس الباهتة. كانت جفونها ثقيلة، وعقلها مشوشاً وكأن ضباباً يلفه. لا بد أنها نامت، لكنها لم تشعر بأي راحة؛ فمنذ غادر ليونيل ليلة أمس، لم يزر النوم جفنيها حتى الفجر.
بمجرد أن حركت جسدها، شعرت بخدر في ساقها المصابة. قطبت جبينها وراحت تدلكها بعناية. كانت ساقها اليمنى التي تسللت إليها البرودة تؤلمها بشكل استثنائي هذه الأيام. أخبرها الطبيب أن الأعصاب تضررت بالفعل، وأن ما تشعر به هو “ألم وهمي” أكثر من كونه ألماً جسدياً حقيقياً، ولا يوجد حل جذري له؛ فجلّ ما استطاع الطبيب فعله هو وصف مسكنات الألم عند الضرورة.
“ليست ذات فائدة تذكر على أي حال……”
خشخشة.
ابتلعت أنيس حبة مسكن رخيصة على معدة فارغة. امتعض وجهها من المرارة العالقة في حلقها، ثم استلقت على السرير مجدداً.
“على كلٍ، لماذا تغيرت معاملة ليونيل؟”
الليلة الماضية، تبادلت مع ليونيل حديثاً طويلاً. ورغم أن نهايته لم تكن جيدة تماماً، إلا أنه استمع إليها باهتمام على غير عادته.
“لقد قال إنه سيحاول تصديقي أيضاً.”
ارتسمت ابتسامة خفيفة ودافئة على شفتي أنيس. هي تدرك طبعاً أن كلمة “تصديق” لا تشمل الشائعات القديمة، لكن هذا كان كافياً بالنسبة لها. شعرت بالسعادة لأنها كانت مفيدة لشخص ما، وزادت سعادتها لأن ذلك الشخص هو ليونيل.
لقد كانت دائماً توصف بـ “الابنة المنبوذة” أو “العبء الثقيل”. وفي حياة لم تكن فيها أكثر من حمل ثقيل يصعب التخلص منه مهما حاولت أن تكون مفيدة، كانت هذه التجربة هي الأولى من نوعها.
“…… أتمنى لو أستطيع مساعدته أكثر.”
انقلبت أنيس على جانبها تاركةً ساقها المخدرة ترتاح.
‘لأجل ذلك، ربما من الأفضل ألا أتحدث عن حادثة العربة……’
في البداية، كان صمتها تجاه ليونيل بخصوص الحادث نابعاً من الخوف، ثم من ظنها أنه لا يرغب في سماع قصتها. أما الآن، فهي لا تريد أن تشعره بالذنب؛ فليونيل لم يفعل ذلك متعمداً. والأهم من ذلك، أنها لم ترغب في إفساد علاقتهما التي بدأت تتحسن لتوها وإعادتها لمربع الجفاء.
“…… هل سأتمكن من إخباره عندما تتحسن ساقي قليلاً؟”
رأى الطبيب أن فرصة شفاء ساقها التي تضررت مرتين شبه معدومة، ومع ذلك، كانت أنيس تواصل تأهيلها بانتظام. لم تكن هناك نتائج ملموسة بعد، لكنها لم تستطع التخلي عن ساقها الملحقة بجسدها. ورغم أن العملية لم تكن سهلة لعدم حصولها على مساعدة احترافية، إلا أنها استمرت.
تلمست أنيس الندوب المتعرجة على جلدها. لقد عانى ليونيل بما يكفي بسبب عائلة باردو، ولم ترغب في أن تكون عبئاً إضافياً عليه.
‘من يراني قد يظنني إيثارية للغاية.’
سخرت من نفسها بمرارة. في الحقيقة، لم يكن هذا إيثاراً بقدر ما كان “طمعاً”؛ طمعاً في ألا تكون عبئاً على ليونيل تحديداً. والآن، بعد أن لاح لها بصيص أمل في أن تكون ذات نفع له، لم تكن تريد هدم ذلك الأمل بيديها.
“سيدة أنيس، هل ستفوتين وجبة الغداء اليوم أيضاً؟”
كانت أنيس كعادتها باقية في غرفتها، همت بالإيماء نفاً لكنها ترددت. لقد مرّت أيام منذ أن زار ليونيل هذه الغرفة، وهي تحاول جاهدة تنفيذ وصيته بتناول الطعام في غرفة الطعام. لكن تحريك الكرسي المتحرك ثلاث مرات يومياً كان مجهداً للغاية، مما جعلها تكتفي بوجبة واحدة في الغالب، وغالباً ما كانت العشاء.
اليوم أيضاً كانت قد فوتت الفطور للسبب ذاته، لكنها شعرت بنظرات الخادمات القلقة؛ فرغم أنها “سيدة القصر” صورياً فقط، إلا أن إهمالها للطعام كان يضعهم في موقف محرج. يبدو أن محاولتها لعدم إزعاجهم قد جعلتهم يشعرون بعدم الارتياح.
أرادت أن تقول إنها لا تحتاج للعشاء، لكنها صمتت. الكرسي المتحرك لا يزال غير مريح، لكنها قررت أن تتحمل المشقة بنفسها بدلاً من إزعاج الآخرين.
وبعد ذلك القرار، سألت الخادمة بحذر عما إذا كان بإمكانها الحصول على كتاب في أصول الإتيكيت.
“كتاب إتيكيت؟ نعم، هذا ممكن، ولكن لِمَ تريدين شيئاً كهذا……”
“فقط هكذا. أنا لا أعرف الكثير عن آداب النبلاء، وأظن أنه من الأفضل أن أتعلمها لتجنب ارتكاب الأخطاء.”
“حاضر، سأبلغ رئيس الخدم بذلك.”
بدت الدهشة واضحة على وجه الخادمة؛ فقد صُدمت لأن أنيس “المغرورة” كما يُشاع عنها تريد تعلم شيء ما.
“شكراً لكِ.”
ابتسمت أنيس بمرارة. لقد أقامت في هذا القصر لفترة، واعتقدت أنها تصرفت بحذر، لكن يبدو أن تغيير نظرة العالم لها ليس بالأمر الهين.
‘عليّ أن أكون أكثر حرصاً في تصرفاتي.’
أمسكت أنيس بالعجلات الخشبية الثقيلة بصعوبة، لكنها لم تكد تحركها بضع مرات حتى اضطرت للتخلي عن فكرة الذهاب لغرفة الطعام؛ فقد وصل زائر غير مدعو.
قطبت أنيس عينيها وهي تنظر للخادم الذي اعترض طريقها.
“زائر يبحث عني؟”
“نعم، لقد جاء والدكِ لزيارتكِ.”
تصلبت ملامح أنيس بمجرد دخولها غرفة الاستقبال.
“أليس هناك شاي بجودة أفضل من هذا؟ نحن في قصر دوق بالاسم فقط، تباً.”
كان أدريان يحمل فنجاناً من البورسلين الثمين ويسخر بلسانه، بينما يلمع خاتمه الذهبي في إصبعه تحت ضوء الشمس. كانت زيارته خرقاً واضحاً للقواعد؛ فعدا عن عدم إبلاغه المسبق، فقد جاء فجأة في وقت الغداء دون سابق إنذار.
“ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
“أوه، ابنتي. لا، هل يجب أن أناديكِ بالدوقة الآن؟”
فتح أدريان ذراعيه نحو أنيس بمودة زائفة. يا لها من وقاحة لشخص ألقى بابنته في غرفة التحقيق منذ أيام قليلة.
“لقد جئتُ قلقاً من أن تكون شهادتي السابقة قد تسببت لكِ في مشكلة. لا تفهميني خطأ، لم أكن أقصد إحراجكِ أبداً.”
وتجنباً لأي عواقب قد تطاله، أضاف بزيف: “سأجد بالتأكيد الشخص الذي سرب بيانات التجارة، فلا تقلقي كثيراً.”
رفع أدريان فنجانه، وانعكس بخار الشاي في عينيه اللتين تلمعان بخبث كالأفاعي.
“قرأتُ في الصحف أنكِ كنتِ في موقع إرهاب المسرح الكبير. هل أصبتِ بأذى؟”
“كما ترى، أنا بخير.”
“وهل رأيتِ شيئاً هناك؟”
كان يسأل بلامبالاة مصطنعة، لكنه كان يحاول سبر غورها؛ ليرى إن كانت قد رأت أي دليل قد يربطه بالحادث، أو إن كانت شكوك ليونيل قد اتجهت نحوه. كان أدريان يعيش أياماً من التوتر الخانق، خوفاً من أن يُشار إليه كشريك في الإرهاب. لكن مع مرور الأيام وعدم صدور رد فعل من ليونيل، جاء بنفسه ليتأكد ويقطع الشك باليقين.
لم تخفَ نواياه على أنيس، التي رفعت فنجانها بوجه جامد. لم تكن ساذجة لتقع في الفخ الذي نصبه أدريان؛ فإخباره بأنه مشتبه به لن يؤدي إلا لمنحه فرصة لقطع “ذيله” والهروب.
“لا أدري، كنتُ فاقدة للتركيز فلا أتذكر شيئاً.”
“وهل قال الدوق شيئاً؟ بخصوصي مثلاً؟”
“لا شيء. الدوق لا يهتم بشيء سوى منظمة ريبلت.”
“آه، هاه هاه. صحيح، إذن هو لا يهتم بي على الإطلاق.”
ارتفع طرف فم أدريان، وظهرت الراحة على وجهه بوضوح.
“على كلٍ، ماذا قد تعرفين أنتِ أصلاً.”
ظهر الاحتقار الذي لم يستطع إخفاءه في نبرة صوته. كان يؤمن أن أنيس لا تملك الشجاعة لتكذب عليه. ولإشباع غروره، خفضت أنيس بصرها كمن لا يعرف شيئاً.
حينها، استعاد أدريان غطرسته ورفع ذقنه بتكبر:
“بالمناسبة يا أنيس، كيف كنتِ تديرين الأمور في الفترة الماضية؟ وضع التجارة هذه الأيام لا يبشر بخير.”
“ماذا تقصد بذلك؟”
فتح حقيبته الجلدية وأخرج حزمة من الأوراق. كانت الأوراق القديمة مليئة بإخطارات فسخ العقود وجداول الخسائر المالية.
“ما كل هذا—”
اتسعت عينا أنيس. في وقت قصير جداً، تحولت كل العقود التي كانت تشرف عليها إلى خسائر. امتلأ وجهها الجميل بالذهول.
“كيف ستتحملين مسؤولية هذا؟”
“ولماذا تسألني أنا؟”
“أليس هذا بسبب عدم إتمامكِ للأعمال بشكل صحيح؟ حقاً، أنتِ بلا فائدة.”
راح أدريان يصدر صوتاً بلسانه تذمراً: “على أية حال، بما أنكِ السبب في هذه الخسارة، فعليكِ تعويضها.”
“ماذا؟”
“هل أنتِ غبية لدرجة أنكِ لا تفهمين؟ لقد أصبحتِ دوقة، ولا بد أنكِ تتقاضين مبلغاً جيداً. استثمري ذلك المبلغ أو افعلي شيئاً!”
كان يطلق عليه “استثماراً”، لكنه كان طلباً يشبه السطو المسلح؛ خاصة وأنه يعلم جيداً أن ميزانية عائلة فالهام ليست في أفضل حالاتها رغم استعادة مكانتها. لقد كان طلباً تعسفياً تماماً.
“آه، اعذريني. لقد نسيتُ للحظة أن عائلة فالهام تبدو براقة من الخارج فقط بينما هي خاوية.”
“والدي!”
“إذا كانت الظروف سيئة حقاً، فسلميني المهر الذي أعطيتكِ إياه. ما فائدة العائلة إن لم نتساعد في مثل هذه الأوقات؟”
بينما كان أدريان يمارس وقاحته المعتادة، كان ليونيل في غرفة الطعام ينظر بملل إلى عقارب ساعة الحائط. كان الطعام مجهزاً لشخصين على الطاولة، بما في ذلك وجبة أنيس.
التعليقات لهذا الفصل " 35"