وبينما كانت يده تتحرك بآلية، كان عقله يفيض بالأسئلة حول أنيس.
ضيّق ليونيل ما بين حاجبيه، واتجه نحو الزقاق الذي فرّ إليه الجاني.
داخل الممر حيث يضغط الدخان على الرؤية، كان الفرسان الذين يفتشون المكان يسعلون بشدة، ولا تزال شرارات النيران باقية وسط الضباب الدخاني الرمادي.
تك.
شق صوت تلقيم المسدس سكون المكان.
وتحت حذائه العسكري، تحطم الغبار الحجري.
طق، طق—
من مكان ما، تناهى إلى مسامعه صوت خطوات خافتة؛ كانت تبدو قريبة وبعيدة في آن واحد، وبإيقاع غير منتظم.
اخترقت نظرات ليونيل الظلام في أعماق الزقاق.
ومع تقدمه خطوة تلو أخرى عبر الدخان، لمح عدة ظلال سوداء خلف الضباب.
كان هو، ذاك الشاب من قبل، ومعه شخص يبدو أنه زعيم منظمة ريبلت.
لم يتردد ليونيل، فصوّب مسدسه نحوهما فوراً، لكن بسبب المسافة القصيرة، خدشت الرصاصة جدار الطوب وارتدت، ناثرةً شرارات في الهواء.
“هاه، هذا مزعج.”
أزاح ليونيل خصلات شعره الأمامية المزعجة، ثم اختطف بندقية طويلة من جندي كان بجانبه وثبتها على كتفه.
حبس أنفاسه لحظة، ثم ضغط على الزناد، لتنطلق النيران من فوهة البندقية وتضيء المكان.
!
ملأ صوت اختراق الرصاص للحم أرجاء الزقاق بشكل مرعب.
انطلقت صرخة متألمة من فم الشاب الهارب.
وبفعل الارتداد، اهتز كتف ليونيل المصاب بعنف، لكنه أعاد التلقيم فوراً وحوّل فوهة البندقية نحو من يبدو أنه الزعيم.
بانغ—!
دوى صوت الرصاص مجدداً، لكن الزعيم استخدم جسد زميله المصاب كدرع لصد الرصاصة.
وبلا أدنى مبالاة، ترك زميله الذي صار “كبش فداء” يواجه مصيره، واختفى هو في الظلام، دون أن يدرك سقوط قصاصات ورقية من جيبه الداخلي.
أنزل ليونيل بندقيته واقترب من الشاب الذي كان يزحف على الأرض.
ارتجف الشاب عندما التقت عيناه بنظرات ليونيل الفائضة بالقتل فوق الأرض الحجرية الملطخة بالدماء.
وبوجه خالٍ من التعبير، صوب ليونيل فوهة مسدسه نحو جبهة الشاب.
بسبب حثالة كهذا، كادت أنيس أن تموت.
لمرتين.
عندما تذكر هذه الحقيقة، اشتعلت النيران في عيني ليونيل.
كان ذلك “خوفاً” يتخذ شكل الغضب.
كان غاضباً من حقيقة أنه كاد يفقد أنيس.
لكن كراهيته لعائلة باردو كانت أعمق من أن يعترف بهذا الشعور.
لذا، أوجد ليونيل سبباً متكبراً لغضبه:
هو وحده من يملك حق تقرير مصير من يحملون لقب باردو.
لذا لا يحق لأنيس أن تموت أو تتعرض للخطر دون إذنه.
حتى لو قرر التخلص منها، يجب أن يكون القرار قراره هو.
هذا هو سبب غضبي، لأنهم تجرأوا ولمسوا فريستي دون إذن.
هكذا همس لنفسه، رغم أن غريزته بدأت تتوقف عن ربط اسم أنيس بكلمة “كراهية”.
“هــ…هيبك! اللعنة، هل تتركوني وترحلون؟”
عض الشاب على أسنانه من خيانة زميله، ثم سرعان ما تخلى عن مبادئه وبدأ يتوسل بوضاعة:
“انـ…انتظر. هل ستقتلني؟ سأقول كل ما تريد، فقط أرجوك.. اتركني أعيش!”
“بصراحة، يكفيني شخص واحد ليفتح فمه.”
فكر ليونيل في قتله هنا، لكنه رفع إصبعه ببطء عن الزناد.
كان من المنطقي الإبقاء على شخص آخر حياً كضمان، تحسباً لموت الأول تحت التعذيب.
“اعتقلوه.”
عندها فقط، تحرك الجنود الذين كانوا يحبسون أنفاسهم بنظام.
صرخت الأغلال الحديدية وهي تُقفل على معصميه وكاحليه، وتردد صدى أنينه الممزوج بالصراخ في الزقاق.
أنزل ليونيل سلاحه، ودلك كتفه المرهق ببطء.
وفي تلك اللحظة، وقع بصره على ورقة نصف غارقة في بركة من الدماء.
“…… هاه؟”
التقط ليونيل الورقة الملوثة بدم لزج.
لم تكن الأجزاء السليمة كثيرة، لكنها كانت كافية لفهم المحتوى.
كانت المعلومات المسطرة فيها هي ذاتها التي يعرفها ليونيل؛ كانت تشبه تماماً الوثائق التي أسقطتها أنيس في حديقة القصر الإمبراطوري.
في لحظة، غرق غضبه المشتعل في ماء جليدي.
كيف وصلت هذه الورقة إلى يد ريبلت؟
هل سلمتها أنيس لهم؟
هل أنيس متورطة في هذا العمل أيضاً؟
تحول الشك الصغير في لحظة إلى عدم ثقة عميق كالقاع.
خفض ليونيل عينيه.
كانت الأدلة على تورط عائلة باردو في هذا الإرهاب مؤكدة، وأنيس هي من أكدت تلك الشكوك التي كانت مجرد حدس، حين ظهرت فجأة في المسرح وشهدت بأن صناديق المتفجرات تعود لعائلتها.
لكن الآن، وبعد ظهور أثر لأنيس لدى منظمة ريبلت، أصبحت مصداقية كل أفعالها محل تساؤل.
إذا كانت هذه الورقة قد سُلّمت من قبل أنيس مباشرة، فربما كان كل شيء مخططاً له؛ من مجيئها للمسرح إلى محاولتها إنقاذه قبل قليل.
لربما فعلت ذلك لتجنب الشبهات إذا فشل الأمر، أو لتشتيت الانتباه لمساعدة بقية أفراد المنظمة على الفرار.
لو كان الأمر كذلك، فتمثيلها يثير الإعجاب حقاً؛ لأن القلق الذي ملأ عينيها الرماديتين بدا حقيقياً تماماً.
“….أنيس باردو.”
قبض ليونيل يده التي لا تحمل السلاح ثم بسطها.
كان الدم الذي جف للتو يتشقق فوق خطوط كفه.
أين تبدأ الحقيقة، وأين ينتهي الكذب في هذه المرأة؟
كان الشك والارتباك يتصارعان على الميزان بثقل متساوٍ، دون أن يميل أحدهما كلياً، تماماً مثل غريزة ليونيل التي تسير على حبل مشدود بين الكراهية والانجذاب.
خلف جدار منهار، كان أحدهم يراقب المشهد بأكمله وهو يحبس أنفاسه.
كان أدريان باردو.
كان منكمشاً على نفسه، والعرق يتصبب من أطراف أصابعه.
تحطم غبار الطوب في يده المقبوضة.
“سـ…سأقول كل شيء! أرجوك اتركني أعيش!”
اخترق صوت عضو ريبلت المرتجف مسامع أدريان، فشحب وجهه تماماً.
“اللعنة، اللعنة……!”
إذا استمر الأمر هكذا، فسينتهي أمره.
لو نطق ذاك الحثالة بكلمة واحدة إضافية، فسيُكشف تورطه في أحداث المسرح اليوم.
تدفق الدم إلى وجهه، ثم برد فجأة كالثلج.
“أوغاد ريبلت اللعينون…… أفواههم خفيفة إلى هذا الحد!”
تمتم وهو يكزّ على أسنانه، واتجهت نظراته نحو ليونيل.
كان خيال فالهام الظاهر وسط الدخان يبدو كوحش كاسر.
“…… ماذا أفعل؟”
أمسك أدريان برأسه.
من يستطيع التغطية على هذه الكارثة؟
من يستطيع تقييد يد فالهام الآن؟
دار عقله الذي يملك غريزة بقاء قوية بسرعة، وبالفعل عثر على الحل.
لمع اسم واحد في ذهنه؛ شخص يملك سلطة جبارة ويناصب ليونيل العداء بقدر الإمبراطور نفسه.
“العقيد جيروم وينتربولت.”
إذا كان ليونيل هو سيد الشمال، فجيروم هو سيد العاصمة.
شقيق الإمبراطور وقائد حامية العاصمة، الرجل الذي يحمل عقدة نقص عميقة تجاه ليونيل.
تسلل أدريان من مكانه كفأر قبل أن يُكشف أمره، متجهاً نحو جيروم وينتربولت؛ الرجل الذي سيكون أكثر من يكره رؤية ليونيل يحقق إنجازاً جديداً بالقبض على ريبلت.
التعليقات لهذا الفصل " 29"