الفصل 26 :
لماذا بالطبع.
في الحقيقة، كنتُ قد قلتُ ذلك على سبيل الخجل، لذلك لم يكُن لديّ ما أُجيب به.
حينها مدَّ سيروليان يده نحوي وهو يُحدّق بي، ثم قال بنبرة أخفّ قليلًا:
“إذًا، ما رأيكِ أن نرقص رقصة «باتي كيك بولكا» أولًا لتخفيف التوتّر؟”
رمشتُ بعينيّ من الدهشة.
“نعم؟ هل تعرف كيف ترقصها؟ قبل قليل بدا عليكَ وكأنّك تسمع اسمها للمرّة الأولى.”
“كنتُ أجهل اسم الرّقصة فحسب. لقد رأيتُ الأطفال يرقصونها أكثر من مرّة.”
“آه.”
كما توقّعت. لا يمكن لمواطن من هذا البلد ألا يعرفها.
أدار سيروليان قرص آلة الموسيقى، ثم لفَّ الزنبرك. انطلقت أنغام أغنيةٍ تشبه الموسيقى التي كنتُ أسمعها في الشوارع، وإن كانت مختلفة قليلًا.
“إذًا، لنجرّب؟”
واجهتُ سيروليان وأنا أشعر براحةٍ أكبر بكثير من تلك التي شعرتُ بها حين رقصتُ الفالس قبل قليل.
مددتُ يديّ، فأمسك هو بيديّ بخفّة. ورغم أنّه وضع يده فوق يدي عدّة مرّات من قبل أثناء مرافقتي، فإنّ شعور يدي وهي تستقرّ داخل راحته الكبيرة كان غريبًا.
“ببطء، أطراف الأصابع، الكعب، أطراف الأصابع، الكعب.”
خشيتُ أن نخطئ لأنّ ترتيب الخطوات بين الرجل والمرأة معكوس، فصرتُ أُلقّن الخطوات بصوتٍ مرتفع، لكن سيروليان، بخفّة حركته، أتقن إيقاع القفزات الأربع تمامًا، ممّا جعل تدخّلي بلا داعٍ.
‘كم مضى من الوقت منذ آخر مرّة رقصتُ فيها هكذا؟’
منذ وفاة أمّي، لم أذهب إلى أيّ مهرجان في الشوارع. كنتُ أشعر بالوحدة أكثر حين أكون وسط الناس من حين أكون وحيدة في البيت.
لكن الآن، وأنا أقفز بعد سنوات طويلة، شعرتُ بالبهجة.
‘سعيدة.’
كم مضى منذ آخر مرّة شعرتُ فيها هكذا؟
‘الآن وأنا أفكّر، يبدو أنّني منذ التقيتُ سيروليان وأنا دائمًا بهذا الانتعاش.’
كنتُ أشعر وكأنّي أسير فوق الغيوم، مبتعدةً قليلًا عن واقعي.
ربّما لأنّي أرى أشياء لم أجرّبها من قبل، وألتقي أشخاصًا من نوعٍ لم ألتقِهم سابقًا.
‘أم أنّني فقط أعيش حُلْمًا ساذجًا دون وعي؟’
كنتُ أحدّق في رموشه الذهبيّة المرتّبة، وعينيه الزرقاوين الرقيقتين، عندما توقّفت آلة الموسيقى فجأة.
تركنا أيدينا في الوقت نفسه.
“ذاك…”
شعرتُ بدغدغةٍ في أطراف أصابعي. فمسحتُها بخجلٍ وأنا أبتسم ابتسامةً متكلّفة.
“تُجيد الرقص، أليس كذلك؟”
“أنا بارعٌ في كلّ ما يتطلّب حركة الجسد.”
لسببٍ ما، بدا لي الوقوف أمامه في تلك اللحظة محرجًا للغاية.
قال سيروليان بنبرةٍ لطيفة:
“ما رأيكِ؟ أليست هذه الرقصة أيضًا وجهًا لوجه؟ لا تختلف كثيرًا عن الفالس.”
“صحيح.”
“إذًا، فلنُجرّب مجددًا.”
“أوه.”
توتّرتُ مجددًا حين اقتربتُ منه أكثر.
شرح لي سيروليان بهدوء بينما كنتُ متيبّسة الكتفين ومتوترة للغاية:
“ضعي يدكِ هنا أوّلًا.”
“أحسنتِ. الآن القدم اليسرى، ثمّ اليمنى.”
“بما أنّ الفستان طويل، فلن يُلاحظ أحد إن كانت خطواتكِ فوضويّة قليلًا. لا تقلقي وامشي بثقة.”
وبالفعل، عندما خطوتُ بثقة كما قال، داست قدمي على قدم سيروليان بقوّة.
لم يُظهر أيّ ردّة فعل، لكن وجهي تجمّد حرجًا.
“آه، يبدو أنّ رقصة الفالس صعبة فعلًا. لم أكُن أتوهم.”
“لو تدربتِ ببطءٍ أكثر قليلًا…”
كنتُ أرغب في أن أترك يده وأهرب فورًا، لكنّني شعرتُ بالذنب حين رأيتُه هادئًا، فلم أستطع أن أقول شيئًا.
كنتُ على وشك أن أقول إنّني سأتمرّن وحدي إلى أن أحفظ الخطوات، لكن…
رنَّ صوتٌ ثقيلٌ وجافّ في أرجاء الغرفة:
“يبدو أنّ المُعلّم ليس ماهرًا بما يكفي.”
“……!”
كان صوتًا يمكن تمييزه من بعيد.
تجمّدتُ أنا وسيروليان في مكاننا ونحن نلتفت بعيونٍ متسعة.
كان الدوق لوك واقفًا هناك، مستندًا إلى إطار الباب.
“أ، أحيّي الدوق!”
انحنيتُ بسرعة لتحيّته، لكنّي وطئتُ طرف فستاني واهتزّ جسدي.
أمسكني سيروليان بثباتٍ وهو يقول بتحيةٍ هادئة:
“حضرتَ، سيدي.”
‘واو، يا له من شخصٌ بارع في ضبط عواطفه.’
كيف يمكن لإنسان أن يخفي مشاعره هكذا؟
حتى الدوق لوك كان يشبهه في ذلك. كان وجهه جامدًا بلا تعبير، وكأنّه غاضبٌ دائمًا، وهو يقترب بخطواتٍ ثابتة.
‘متى جاء إلى هنا؟ هل رأى كلّ شيء منذ البداية؟’
كلّما اقترب، ازداد خفقان قلبي.
‘ربّما يظنّ أنّني لا أليق بعائلة الدوق.’
أخفضتُ رأسي بسرعة.
“أعتذر. لقد كنتُ غير ماهرة.”
أجاب الدوق بصوتٍ خشنٍ وجافّ:
“لا داعي للأعتذار.”
“عذرًا؟”
قال ذلك فجأة، ثم استدار ومشى مبتعدًا كما جاء.
زفرتُ بارتياحٍ عميق وهمست:
“أوه، ظننتُ أنّ قلبي سيتوقّف!”
لكن سيروليان نظر إلى ما وراء ظهري وقال:
“لم يغادر بعد.”
“آه!”
استدرتُ بسرعة مثل قطةٍ فزعت، وفعلاً، كان الدوق لا يزال واقفًا هناك.
قال بصوتٍ بارد:
“تابعا.”
“نعم؟ ن-نعم؟!”
أومأتُ بسرعة دون أن أفهم قصده تمامًا.
لكنّه لم يغادر، بل جلس بجوار آلة الموسيقى!
‘ما الأمر؟ لماذا يجلس هناك فجأة؟’
همستُ لسيروليان وأنا أمسك بيده بتوتّر:
“هل يفعل ذلك لاختباري؟”
“لا أعتقد ذلك.”
أجاب فورًا، لكن في نظري بدا واضحًا أنّه يريد الانتقاد.
‘وإلّا، لماذا يُشاهدنا ونحن نتدرّب على الرقص؟’
لمّا أيقنتُ أنّ أحدهم يُراقبنا، ازداد جسدي تيبّسًا، وصارت خطواتي ثقيلة.
كنتُ أتحرّك ببطءٍ متخشّب مثل درّاجةٍ صدئة، أتبعه بصعوبة.
وطبعًا، دستُ على قدميه مرارًا.
“آسفة!”
“لا حاجة للأعتذار في كلّ مرّة.”
كان من المفترض ألّا أملك فرصةً لدوسه أصلًا، لكنّني اليوم أفعلها بلا توقّف.
‘لم يعُد لي سوى أمنيةٍ واحدة، أن تنتهي هذه الأغنية بأسرع وقتٍ ممكن.’
لكن يبدو أنّه لفَّ الزنبرك أكثر من اللازم، فاستمرّت الأغنية بلا نهاية، ولم أملك إلّا أن أدور وأدور.
ولمّا ظننتُ أنّ الأمر لن يكون أكثر سوءًا، توقّفت الموسيقى فجأة.
تركنا أيدينا وانحنى كلٌّ منّا خطوةً إلى الخلف مؤديًا التحية.
برأيي، كانت هذه التحية الختاميّة أفضل جزءٍ في كلّ الرقصة.
‘هل يتّفق الدوق معي؟’
التفتُّ، لكن…
“إنّه غير موجود؟”
اختفى الدوق من مكانه!
يا إلهي، ماذا حدث؟
نظرتُ إلى سيروليان بوجهٍ متجهم، فقال بهدوء:
“لقد غادر قبل قليل.”
“ماذا؟ إذًا لماذا جاء أصلًا؟”
“ربّما سمع الموسيقى وجاء.”
“ثم عاد بعد أن عرف مصدرها؟”
“إنّه من هذا النوع من الناس.”
“آه.”
بدأتُ أشعر بالضيق بعد أن زال التوتّر.
عبثتُ بشعري بعصبيّة وأنا أفكّر.
‘كان يمكنه ببساطة ألّا يأتي من البداية! لماذا جاء، يجعلني متوترة، ثم يرحل دون سبب؟’
كلّما فكّرتُ أكثر، ازددتُ غيظًا.
لكن في تلك اللحظة سمعتُ صوتًا خافتًا غريبًا عند أذني.
كان كصوتِ فأرٍ صغيرٍ يقضم قطعة بسكويت، خفيفًا ومتحشرجًا قليلًا.
رفعتُ رأسي بسرعة.
“لقد ضحكتَ الآن، أليس كذلك؟”
أمال سيروليان رأسه قليلًا بوجهٍ خالٍ من التعبير.
“لم أفعل.”
“بل ضحكتَ.”
“مستحيل.”
لكنّني سمعتُها بوضوح! كان ضحكًا خافتًا بلا شكّ!
غير أنّ وجه سيروليان بقي هادئًا بلا أيّ إشارة، فبدأتُ أشكّ في سمعي.
تنهدتُ مرّةً أخرى.
“إنّه يومٌ غريبٌ حقًا.”
“يبدو أنّكِ متعبة. ما رأيكِ أن نشرب كوب شاي ونعود إلى الرقص بعده؟”
كان عرضه الفجائيّ هذا مريبًا.
نظرتُ إليه بعينين ضيّقتين، فقال بنبرةٍ هادئة:
“لقد أعددتُ أيضًا كعكة الشيفون بالجريب فروت التي تُحبّينها.”
“……حسنًا.”
كعكة الشيفون بالجريب فروت لا يُمكن مقاومتها.
أومأتُ برأسي موافقة.
***
تبعته بخطواتٍ سريعةٍ كالعصفور، فوجدتُ طاولةً كبيرة في الحديقة قد أُعدّت عليها الحلويات مسبقًا، كما لو أنّ أحدهم رتّبها من قبل.
‘واو، تبدو لذيذة.’
كعكة الشيفون بالجريب فروت، كعكة الليمون، فطيرة التفاح… كلها حلوياتٌ فاكهيّة مقطّعة بأناقةٍ ومصفوفةٍ بشكلٍ جميل.
قلتُ بعينين لامعتين:
“يا إلهي، كلّها من الأشياء التي أحبّها! كيف عرفتَ ذلك؟”
“إن راقبتِ المرءَ باهتمامٍ كافٍ، فستعرفين.”
“هاه؟”
لكنّني ما زلتُ لا أعرف الكثير عنه!
أحسستُ بالحرج وأشحتُ بنظري وقد احمرّ وجهي، وهناك لمحتُ كرةً صغيرةً ناعمةً ذهبيّة اللون.
“هاه؟”
حين أصدرتُ صوت الدهشة، اتّجهت أنظار سيروليان إلى ما كنتُ أنظر إليه.
وهناك كان ابن بارينين، تشارلز، واقفًا.
“أ، أحيّيك يا أخي. و، وأيضًا…”
احمرّ وجهه الأبيض الممتلئ بسرعة، وتجمّعت قطرات العرق على جبينه.
نظر إليّ بعينيه الدائريتين كحَبّات الزجاج، متردّدًا.
فقال سيروليان بنبرةٍ صارمة:
“قُل: سيّدتي.”
“……سعيدٌ بلقائكِ، سيّدتي.”
حتى صوته المؤدّب كان لطيفًا للغاية.
غطّيتُ فمي بكفّي كي لا أصرخ.
‘يا للعجب، إنّه لطيف جدًّا!’
وجهه المستدير، وعيناه الزرقاوان، ويداه الصغيرتان الممتلئتان، وصوته الرقيق…
‘إنّه مثل دبٍّ محشوّ!’
كأنّ كلّ ما أحبّه مجتمعٌ فيه.
قلتُ له بصوتي الأكثر رقة:
“ما الوقت الآن؟ هل كنتَ ذاهبًا للدراسة؟”
“أ، أمم، لا، ليس تمامًا…”
تردّد قليلًا، لكن يبدو أنّ صوتي اللطيف هدّأه، فبدا أكثر ارتياحًا.
ابتسمتُ له وسألته بلطف:
“إن كان لديك وقت، فاجلس معنا. لقد أُعدَّت كعكاتٌ كثيرة لا أستطيع أكلها وحدي.”
“الكعك…”
كانت على الطاولة ثلاثة مقاعد، ونحن ثلاثة أشخاص.
طرقتُ بيدي على أحد الكراسي، فأخذت عينا تشارلز تتنقّلان بين الكعك ووجه سيروليان.
“……”
ثمّ أخيرًا، بعد أن ألقى نظرةً أخيرة على الكعك، هرول وجلس على المقعد الفارغ.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 26"