الفصل 10 :
كنتُ أُطعِن جانبَ سيروليان بخفّة عدّة مرّات، بنيّة أنْ ننسحب بانسجام.
ولحسن الحظ، فهم سيروليان الإشارة وتراجع خطوةً خطوة خلفي.
وبالطّبع، حتّى أثناء هروبي بخطواتٍ خلفيّة كشرّيرة، لَمْ أتوقّف عن الحديث.
“بما أنَّ زوجي قد جاء ليأخذني، فسوف ننسحب الآن. أشكركم على دعوتكم لحفلٍ قيّمٍ كهَذا، ويؤسفني أنّي لَمْ أتمكّن مِن البقاء طويلًا.”
كان قلبي ينقبض خوفًا مِن أنْ تصرخ في وجهي قائلة: كيف تجرئين على الانسحاب كما تشائين أمام الكبار؟ لكن سايجي لَمْ تُركّز على ذَلك، بل عَلِقت عند اللّقب الذي ناديتُ بهِ سيروليان.
“زوجكِ؟”
“هل تعبير ‘زوجي’ غيرُ مناسب؟ إذًا، ‘عزيزي’؟ ‘حبيبي’؟”
“كيف تجرئين على استخدام ألقابٍ تافهةٍ كهَذهِ دوّن أيِّ احترام؟!”
آه. في الحقيقة، أنا أيضًا أظنّ ذَلك.
لكنّني بدأت أُطلق الأكاذيب بسلاسة مِن دوّن أنْ أُبلّل شفتيّ بلعابي.
“قد أبدو جريئة بعض الشّيء، لكن لا يُمكنني كبح مشاعري. نحن نُحبّ بعضنا بصدق. لقد تزوّجنا عن حبّ.”
“هاه!”
كلّما واصلتُ الحديث، ازداد وجه سايجي عبوسًا وخشونة. ويبدو أنّها لَمْ تعُد تملك حتّى الطاقة للسّخريّة، إذ صرخت فجأةً في وجه سيروليان.
“لَمْ أكُن أعلم أنّكَ تملك معدةً قويّة كفاية لتلهو بالحبّ مع فتاةٍ مِن عامّة الشّعب، يا سيروليان! ألا تشعر بالخزي؟!”
ما هَذا. منذُ متى كانت المكانة الاجتماعيّة عائقًا أمام الحبّ؟
لكن، في العادة، التّعامل مع هَذا النّوع مِن الأشخاص بالمنطق يجعل الأمور تسوء أكثر. لذا احمرّ خداي خجلًا كحبّة خوخ، وصرختُ بصوتٍ نقيّ كما لو أنّني فتاة بريئة.
“إنّه انتصار الحُبّ الحقيقيّ. لذا أرجوكم، اعتنوا بي جيّدًا، يا أمّي.”
كنتُ أستفزّ بارينين لتُسكت سايجي بسرعة.
لكن، متى أخفت بارينين مشاعرها؟ لقد رسمت ابتسامة هادئة على وجهها كالعذراء المقدّسة. وفي اللّحظة التي رأيتُ فيها تلكَ الابتسامة الكاملة، ومض ضوء التّحذير في رأسي.
“وأنا أيضًا أرجو منكِ ذَلك، عزيزتي الكنة. إنَّ ثقتكِ وبشاشتكِ تُذكّرني بلقائي الأوّل مع صاحب السّموّ، وهَذا يُشعرني بسعادةٍ كبيرة.”
“لكن مِن الأفضل أنْ تُراقبي ألفاظكِ. ففي حال تخلّلت كلماتكِ ذرّة كذب، فقد تجدين نفسكِ في موقفٍ رهيب لا يُمكن حتّى لشخصٍ رحيمٍ مثلي أنْ يُدافع عنكِ فيه. جريمةُ إهانة العائلة المالكة في هَذا البلد، تشمل كافّة المستويات، وعقوبتها الشّنق.”
ثم لوّحت لنا بيدها وكأنّها تأمرنا بالرّحيل.
تجمّدتُ في مكاني للحظة، ثمّ استدرتُ وأنا أُومئ برأسي بالكاد.
وبمُجرّد أنْ خرجنا مِن مجال رؤية بارينين، اهتزّت ساقاي. ولو لَمْ يُمسكني سيروليان، لكنتُ سقطتُ بشكلٍ مخزٍ.
ضوء التّحذير في رأسي لَمْ ينطفئ بعد. عضضتُ شفتي.
‘لقد ضربتُ عشّ الدّبابير بعصًا وأنا مغمضة العينين.’
اندفعتُ بغضبٍ كبير. قلتُ إنَّ الدّوق يُحبّني، رغم أنّني لَمْ أقابله حتّى الآن…
‘كان يجب أنْ أستعدّ أكثر قبل أنْ أُواجهها.’
لَمْ أكُن أملك أيَّ معلومةٍ تُعينني على محاربتها بعد. لكنّني أغضبتُها بالفعل. ما أثار أعصابي هو رؤيتها تتجاهل سيروليان تمامًا.
وحين ابتعدنا بما فيه الكفاية عن الحديقة، توقّف سيروليان واستدار إليّ.
“إيديل، قبل قليل…”
لكنّني لَمْ أتمكّن مِن سماع بقيّة حديثه.
‘آه، أشعر بدوار… وكأنَّ العالم يدور حولي.’
يبدو أنّني كنتُ مشدودة الأعصاب طوال الوقت. لَمْ أستطع التغلّب على موجة الدّوار المُفاجئة، فتمسّكتُ بذراع سيروليان.
“سيروليان.”
“نعم؟”
اتّسعت عيناه دهشة.
لماذا، يا تُرى، أشعر بالرّاحة حين أُقابل عينيه؟
ناديتُ اسمه بصوتٍ ضعيف يكاد ينطفئ.
جسده ارتجف قليلًا حين اقتربتُ فجأةً بهَذا الشّكل.
ثمّ همستُ في أذنه بصوتٍ خافت:
“لا أستطيع المشي أبدًا…”
هَذا هو الدّوار فعلًا.
رفعتُ ضغط الآخرين، لكن ضغطي أنا هو مَن انخفض في النّهاية.
* * *
بعد ذَلك، لَمْ يكُن لديّ حتى القوّة لأفتح عيني، فاكتفيتُ باللهاث بصعوبة.
حملني سيروليان بصمت. ورغم ذَلك، كنتُ بين ذراعيه أعتذر له بصوتٍ خافت متسلّل.
“لا بدّ أنني ثقيلة… أنا آسفة.”
“ليست ثقيلةً إلى درجةٍ لا تُحتمَل.”
“ألا يجدر بكَ قول ولو مجاملة، أنْ تقول بإنّني خفيفة كالرّيشة؟”
“……ليس مِن طبعِي قول الأكاذيب.”
وبينما كنتُ أغمض عيني وأتنفّس بصعوبة، أخذني سيروليان إلى غرفة الاستقبال.
هناك، بعد أنْ شربتُ شاي البابونج المُحلّى بالعسل بكثرة، استعدتُ صفائي الذهني، وهدأتُ نفسيًّا مِن جديد.
أخذتُ الكوب الدّافئ بكلتا يديّ وأطلقت تنهيدةً خفيفة.
“الآن فقط أشعر وكأنّني على قيد الحياة بعد هَذا الشاي الدّافئ.”
ومع دفء معدتي، بدأت ألاحظ أشياء لَمْ أكُن أراها مِن قبل. زخارف الجدران المذهّبة، وجداريّة كأنّها تجسيدٌ للحاكم، والأريكة المخمليّة.
وحتّى منظر سيروليان الجالس في الطرف الآخر بينما أجلسُ في هَذا الطّرف.
“لكن، لماذا تجلس بعيدًا هَكذا؟”
فأجاب سيروليان وهو يقطّب حاجبَيه برفق:
“لا تُلقي لي بالًا. إنَّ اقترابي منكِ يجعل حواسي شديدة الحساسية، لذا أُفضّل ترك مسافة.”
“……؟”
‘هل أعني ذَلك؟ هل تصدر مني رائحةٌ غريبة؟ يبدو أنّني سأتألّم الآن.’
‘إنّه شخصٌ غريبٌ فعلًا.’
كانت كلماته تُعدّ جارحة، لكن أسلوبه الجافّ جعلها لا تُشعرني بالإهانة، وهَذا بحدّ ذاته غريب.
تابع سيروليان بصوته الرّزين المألوف:
“لقد أدهشتني في وقت سابق. لَمْ أرَ أحدًا يواجه السيدة سايجي وزوجة الدوق بشجاعةٍ هَكذا مِن قبل.”
كنتُ أظن أنّه سيتحدّث عن كيف أنَّ قوّتي خانتني فسقطت أرضًا، لكنّه اختار الحديث عمّا أغضب السيدة سايجي.
ضحكتُ قليلًا.
“أيُّ شجاعة؟ لقد كنتُ فقط أُثير الفوضى. ثمّ إنّني أغمي عليَّ في النّهاية.”
حين نظرتُ إلى نظرات الاحتقار التي رمقَت بها السيدة سايجي سيروليان، أحسستُ وكأنّني عدتُ إلى تلكَ الأيّام التي اتُّهِمتُ فيها ظلمًا بسبب بارينين.
“قلتُ مِرارًا! أنا لَمْ أفعل ذَلك!”
لكن أتباعها كانوا يُوبّخونني رغم نفيي القاطع، دوّن أنْ يصغوا لكلمةٍ واحدة منّي.
“أمثالُكِ، الوضيعة، تجرؤ على إنكار ما قالته الأميرة؟”
في البداية، ظننتُ أنَّ الحرس الملكي سيتولّى التّحقيق وستظهر براءتي تلقائيًّا. لكن لَمْ يُجْرِ أحدٌ تحقيقًا، ولَمْ يستمع أحدٌ إليّ، وسارت التّحقيقات وفقًا لشهادة بارينين.
كانت الخادمة، وهي الشّاهدة الوحيدة والمجنيّ عليها، لا تزال غائبةً عن الوعي، والطّبيب الملكيّ شهد بأنَّ الاعتداء دام لأكثر مِن ساعة.
لحسن الحظ، في ذَلك الوقت، كان هناك زملاءٌ يعملون معي على مراجعة الوثائق، لذا لَمْ يتمكّنوا مِن الإيقاع بي أكثر.
ومع ذَلك، وعلى الرّغم مِن أنَّ براءتي كانت واضحة، فقد أمرت الأميرة بارينين المحقّق.
“لكن، ما دامت هناك ضحية، فلا يُمكن أنْ نترك الأمر دوّن اتخاذ إجراء.”
وكان تعبير وجه الأميرة حينها بريئًا للغاية، إلى درجة أنَّ مَن حولها صدّقوا كلامها غير المعقول، وردّدوا: “حقًّا، يا لها مِن أميرةٍ رحيمة.”
“لَن أتراجع! أنا بريئة! سأقاضيكم حتى النّهاية!”
احتججت، لكن في النّهاية، طُردتُ خارج القصر وأنا أحمل صناديق أمتعتي.
غير أنَّ الخبر الذي استقبلني عند خروجي مِن القصر كان كافيًا لكسر إرادتي.
“أين كنتِ الليلة الماضية، يا إيديل؟ والدتكِ خرجت تبحثُ عنكِ، ثمّ وقعت في قبضة لوار…”
كان ذَلك الخبر بأنَّ أمي قُتلت على يد لوار.
‘نظرة السيدة سايجي كانت تمامًا مثل أولئكَ الذين دعموا أكاذيب بارينين في ذَلك الوقت.’
لهَذا السبب لًمْ أتحمّل. نظراتُ الصّمت المهينة التي كان يتحمّلها سيروليان، مِن المؤكّد أنّه تحمّل ما هو أكثر منها بكثير.
ولَمْ أفعل ما فعلتُ لأجل سيروليان، بل لأجل نفسي التي رأيتها فيه.
أسندت ظهري إلى أريكة المخمل وأطلقت تنهيدةً عميقة.
“آه، لكنّي أرتحت الآن، حتى وإنْ كنتُ أخشى العواقب.”
يا لَلعجب مِن الزّمن. ها أنا اليوم أثير غضب الأميرة بكلّ سلاسة. لقد كانت تجربةً ثمينة لا تُشترى بالمال.
“وكلّ هَذا لأنّكَ جئتَ إليّ. لو لَمْ تكُن هُنا، لكنتُ التزمتُ الصّمت. حسنًا، لرُبّما لًمْ أتحمّل الإهانة بسهولة، لكن…”
لعلّني كنتُ سأذرف الدّموع بعد الحفل، ثم أُجري مقابلةً مع إحدى الصّحف.
النّاس يعشقون قصص سندريلا، لذا فإنَّ قصّتي – فتاة مِن العامّة ستُصبح زوجة الدّوق القادم – ستُثير تعاطفهم ودعمهم بسهولة.
“لكن، كيف وجدتَني؟ هل كنتَ تعرف أنّني قادمة اليوم؟”
“لقد… شعرتُ بوجودكِ.”
“ماذا؟”
شعرتَ بوجودي؟ في هَذا القصر الواسع؟ أهَذا ممكن؟
كنتُ أريد أنْ أسأله بمزيد مِن التّفاصيل، لكن سيروليان هزّ رأسه.
“حتى لو شرحتُ، فلًن تفهمي. هَذهِ أوّل مرّةٍ أشعر فيها بشيءٍ كهًذا، لذا لا أستطيع الشّرح بدقّة. على أيِّ حال…”
ثمّ نظر إليَّ بعينيه الزّرقاوين الغارقتين في العُمق، وكأنّه يُحاول أنْ يقرأ أفكاري كلّها.
“قلتِ مِن قبل إنّكِ تُضمرين لها الضّغينة، أليس كذلك؟”
كان هَذا تعبيرًا أنيقًا تمامًا كطريقة حديثه. فابتسمتُ وأنا ألوّح بيدي نفيًا.
“ضغينة؟ هَذا تعبيرٌ خفيفٌ جدًّا. أتمنّى لو تصيبها صاعقة ثلاث مرّات وتموت. ولا تبقى منها حتّى ذرّة رماد.”
فور أنْ تذكّرت بارينين، خرجت كلماتي بسخريةٍ حادّة. لكنّ هَذهِ الحِدّة سرعان ما تبخّرت حين تذكّرت نظرة الدّوقة الأخيرة. وارتجف كتفي.
“أوه، لكن حين واجهتُ ابتسامتها بالفعل، شعرتُ وكأنَّ قلبي توقّف. كدتُ أموت رعبًا.”
تلكَ الابتسامة، رغم كونها دافئة ووديعة، لَمْ أشعر منها إلّا بدرجة حرارة دوّن الصّفر. قلتُ لسيروليان بعينين متألّقتين:
“لهَذا، عليكَ أنْ تحميني! فهمتَ؟”
أمال سيروليان رأسه قليلًا.
“أنا لستُ نذلًا يتخلّى عن زوجته، إنْ كان هَذا ما تقلقين بشأنه.”
أنا أثق بأخلاقه، لكنّ الإنسان يفعل أشياء سيّئة أحيانًا ليس بسبب طبيعته، بل بسبب الظّروف. شبكتُ ذراعيّ وعبستُ قليلًا.
“من، يدري؟ لعلّكَ تفكّر في أنَّ التّرمل أفضل مِن الطّلاق لكسب تعاطف النّاس، فتتركني أموت.”
“يا لها مِن تحليلاتٍ صحفيّة بارعة.”
رمش سيروليان ببطء كما لو كان مندهشًا بصدق. فابتسمتُ بابتسامةً محرجة وأنا أحكّ خدّي.
‘يبدو أنّني سمعتُ الكثير مِن القصص الفاضحة أثناء عملي في قسم أخبار الفضائح.’
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 10"