عند كلمات كيرتيس القصيرة، لاذت المرأة بصمتٍ للحظة، وكأنها تختار كلماتها.
في تلك الأثناء، ابتعدت قليلًا ثم عادت واقتربت حتى التصق نصف جسدها العلوي بصدره. لكن كيرتيس أسرع في إبعادها، تاركًا بينهما مسافةً تعادل مفصل إصبعٍ واحد فقط. للآخرين، بدا وكأنهما ملتصقان تمامًا.
“أن ترقصي الباساكاليا بهذا القرب… هذا ابتكارٌ مثيرٌ للإعجاب. بإمكانكِ الصعود إلى المسرح الكبير.”
لكن حتى التهكّم لم يجدِ معها.
“هل تفضّل الممثلات على الفتيات النبيلات الهادئات؟”
“لا هذا ولا ذاك.”
“إذًا، ما الذي تحبّه؟”
‘أستطيع أن أخمّنه.’
عيون المرأة التي همست بذلك بدت غايةً في الجمال. حتى إن كيرتيس شعر برغبةٍ في أن يجرّ السيدة باسيلور التي كانت قد مدحت عقد الدوقة إليه ليُريها هذه المرأة.
‘لو كانت تلك السيدة باسيلور هنا، لكانت سعيدةً حتى لو أمرتها بقلع عيني هذه المرأة وصنع عقدٍّ منها.’
كان هذا التفكير مرعبًا لو سمعه أحد، لكن لولا أنّهما في حفلٍ عظيم، لكان كيرتيس قد قاله فعلًا: ‘إن لم تُغلقي فمكِ، سأقتلع عينيكِ وأصنع منهما عقدًا.’
لكنّه لم يستطع ذلك. كلّه بسبب تلك المساعدة الحمقاء التي طلبت منه أن يرقص. أو ربما بسبب الدوقة نفسها.
“أما تظنين أنّكِ عروسٌ وضيعة الشأن أكثر مِما ينبغي؟”
وبينما كان يفكر في كلوي، قال الرجل ذلك. عندها رمقت إيزابيلا بعينيها اللامعتين.
“قسوتَ عليّ. أنا على ما أظن امرأةٌ لا بأس بها. صحيح أنّ غلينترلاند مقارنةً بإيفانيس ليست…”
“من الأفضل ألّا تقولي ذلك أمام سفير غلينترلاند، وإلّا بكى.”
“صحيح أنّها منطقةٌ هادئة، لكنها أيضًا مسالمة.”
استدارت إيزابيلا بخفة لتلصق ظهرها مجددًا بصدر كيرتيس، ثم التفتت إليه مائلةً لتهمس في أذنه. فاحت رائحة عطرها بقوة، وكاد كيرتيس أن يُبدي اشمئزازه، لكنه كبَت ذلك.
“على الأقل، ليس هناك كبارٌ يتلهّفون لالتهام الفتيات الصغار.”
“للأسف، أنا متزوّجٌ بالفعل.”
“في هذه الأيام، الطلاق لم يعد عيبًا على الرجال. خصوصًا إن كانت الزوجة امرأةً أدنى مقامًا بكثير.”
آه. انقبض صدر كيرتيس. عقله أخبره أن كلامها ليس كلّه خطأ، لكنه مع ذلك شعر بانزعاج شديد.
“أدنى مقامًا؟”
“أوه، لم أقصد ذلك…”
لكن إيزابيلا أمسكت بيده مجددًا وخطت خطواتٍ خفيفة معه. عندها كشف الرجل عن ابتسامةٍ متهكّمة وهمس في أذنها:
“ليس من حقكِ أن تتفوهي بتلك الكلمات.”
“….”
“هذا كلامٌ لا يصدر إلّا مني أنا.”
وبينما قال ذلك، رفع يده التي كانت تمسك خصرها، ومرّر ظهر كفه بخفّة على طول عظم ترقوتها حتى كتفها.
كانت حركةً انسيابية وجميلة، حتى إنّ أحدهم في الجهة الأخرى أطلق شهقة إعجاب.
“يبدو أنّ غلينترلاند تعتبر حتى المرأة التي لديها طفلًا امرأةً جديرة.”
على وجه المرأة التي كانت تبتسم طوال الوقت، ظهرت شقوقٌ للحظة ثم اختفت. أجل، لو كانت من النوع الذي ينهار باكيةً أمام كلمة كهذه، لما جعلها ملك غلينترلاند أميرة.
تابع كيرتيس كلامه بهدوء:
“لكن لسوء الحظ، أنا من إيفانيس.”
“…..”
“لا أعلم ما هي خطتكِ، لكن من الأفضل أن تعودي إلى منزلكِ.”
ما زال أمامهما وقتٌ طويل حتى ينتهي اللحن الثاني. رغب بشدةٍ في أن يزيحها عنه فجأةً ويتوقف، لكن ذلك كان سيجرّ وراءه المزيد من المتاعب.
“لا أعلم ما هذه المهزلة. بسبَبكِ أشعر بمللٍ قاتل.”
“….”
“لو كان الأمر بيدي، لقتلتكِ الآن.”
أطبقت إيزابيلا شفتيها الورديتين أخيرًا بصمت. عندها نظر الرجل بطرف عينه نحو الملك. لم يكن فضولًا بشأن الملك، بل ليرى ما تفعله تلك الدوقة المتعجرفة التي وعدته بأن تقدّم له امرأةً إن هو رقص.
طموحها بدا مقبولًا إلى حدٍّ ما، لكن للأسف، لم يكن ممكن التحقيق. أجل، صحيح أنّ دوقته كانت وقحةً بما يكفي وماهرة في التصرّف، لكن لم تكن بتلك البراعة الكبيرة. خصوصًا والملك جالسٌ هناك بثقله، فهي لم تكن بارعةً كفاية للتجول بخفّةٍ وسط النبلاء.
وكما توقّع. كان يراها بعينيه وسط النبلاء الكبار بوجهٍ مرتبك، تدور بعينيها في حيرة. انفلتت ضحكةٌ خفيفة من بين أسنانه.
“ها.”
مخلوقٌ طويل بلا فائدة.
كون كيرتيس هو القائد الذي قاد الهدنة مع الممالك الثلاث يعني الكثير. فهو الرجل الذي يحسب كل الاحتمالات، ويضع في ذهنه الخطة الثانية والثالثة إن تعثرت الأولى.
لو سمعت كلوي لربما رغبت بقتله، لكن الحقيقة أنّ كيرتيس لم يتوقّع منها الكثير أصلًا.
زواجه من كلوي كان خيارًا لا مفرّ منه، لكنه اختار هذا الطريق لأنّه الجواب الأكثر كمالًا.
لذا، كل الأخطاء والإحراجات التي ترافق الأمر كانت ضمن ما يستطيع تحمّله.
يعلم. لقد تزوّجها لأنها ضابطة جيدة قبل كل شيء. كانت تؤدي عملها بكفاءة ولديها دهاءٌ لا بأس به. لكن لا يمكن مقارنة الضابطة المثالية بالسيدة المثالية.
صحيحٌ أنه تحدّث معها عن “واجبات الدوقة”، لكنه لم يظنّ يومًا أنّها ستصبح دوقةً مثالية. ارتباكها وما يجلبه من أحداث عاصفة كان جزءًا من توقعاته منذ البداية.
آه، باستثناء أمرٍ واحد لم يكن في حسبانه: أنّ تلك الضابطة تحمل له قدرًا كبيرًا من الكراهية.
ومع ذلك، الغريب أنّه لم يجده أمرًا مزعجًا. بل كان شيئًا مثيرًا لدهشته، هو كيرتيس شان بيرك الذي يفضّل دائمًا التخطيط المنظم.
على أيّ حال.
ذلك المخلوق الطويل، الذي لا يعرف سوى أن يكون وقحًا معه، كان يتصرّف أفضل مِما توقع. مثل فرخ بطٍ رُمي في الماء الكبير للمرة الأولى. بدا وكأنه سيغرق فورًا، لكنه سبح بجنون ليطفو بطريقةٍ ما، وهذا جعله يثير إعجاب كيرتيس.
بل والأكثر إرضاءً أنّ كل ذلك الجهد كان في سبيله هو.
لو سمعت كلوي، لكانت قالت: “لا، ليس الأمر كذلك! أبدًا!” ولوّحت بيديها نافية.
ومع ذلك.
مشهدها الآن، وهي ترتدي فستانًا وحُليًا لا تفهم قيمتها أصلًا، وتدور بعينيها وسط القاعة، كان مثيرًا للسخرية لدرجة أنّه لم يستطع كبح نظره عنها.
لكن فجأة، توقف كيرتيس عند تلك الفكرة.
‘أضحك لأنني أريد أن أراها أكثر؟’
هذا أمرٌ لم يألفه من قبل.
‘ما هذا؟’
“يبدو أنّ الدوق يحبّ الدوقة حقًا.”
في تلك اللحظة، كانت من قالت ذلك هي إيزابيلا لا غلينترلاند.
وبسبب كلماتها، أدرك كيرتيس فجأةً أنه ما زال ممسكًا بيدها طوال هذا الوقت. لقد غرق في تفكيرٍ واحد بعمق. تجعّد جبينه بشدة. لقد تغيّر تعبيره كليًا عما كان عليه حين كان يبتسم.
“أنا؟”
“ألستَ كذلك؟ كنتَ تبتسم وأنتَ تنظر إليها باستمرار.”
كلمات إيزابيلا، التي تظاهرت بأنها تكشف خباياه، بدت غبيةً إلى أقصى درجة. ردّ عليها بصرامة:
“هل هناك من يحبّ مهرجًا؟”
قال ذلك، وفجأةً شعر براحة غريبة.
‘صحيح. هذا أشبه بالإعجاب بمهرجٍ.’
“… أليس من غير اللائق أن تقول لي هذا؟”
ابتسامتها العريضة جعلت كيرتيس يعضّ شفتيه داخليًا. تبا. لقد كان صريحًا أكثر مما ينبغي.
لكن إيزابيلا، مبتسمة، همست بخفوت.
“أنتَ أيضًا وريثٌ تابع لسوليريا، أليس كذلك؟ هذا يعني أنّ عليك أن تؤدوا واجبًا مشرّفًا تجاه غلينترلاند أيضًا.”
“لم أطلب تلك الرتبة أصلًا.”
“إذًا، أعِدها.”
ضحك بسخرية. لقد اختفت نبرتها المغرية بالكامل، وحلّت محلها جدّيةٌ حادّة وهي تحدّق فيه. لكنه تقصّد أن يبتسم براحة.
“لا. تلك الوراثة هي الإرث الوحيد الذي تركته لي والدتي الراحلة.”
“لكنّك ثري. أما سوليريا فهي فقيرة. إن لم ترغب بي، فأعد سوليريا إلى غلينترلاند على الأقل.”
‘الآن تتحدثين عن سوليريا؟ أليست أرضًا بلا قيمةٍ لملك غلينترلاند؟’
أزاح التساؤل جانبًا. حتى لو سألها، فلن تُجيبه. وإلا لما تصرّفت بهذه الطريقة أصلًا.
“يبدو أنّ الدوقة غلينترلاند لا تفهم.”
اقتربت الموسيقى من نهايتها. رفع كيرتيس ذقنها بخفة.
“تركُ طريقٍ للهروب واجبٌ على كل قائد يتجه إلى ساحة المعركة.”
مظهرهما كان يوحي بأنهما على وشك تبادل قبلة، ما جعل من حولهما يتهامسون. إيزابيلا، التي ظلت صامتة تحدّق به مباشرةً، ابتسمت فجأة.
“هل وصلتكَ المزهرية التي أرسلتها لكَ؟”
“كانت رخيصة الثمن.”
“أبدًا.”
تبادلا الابتسام لبعضهما، ثم ابتعد كلٌ منهما عن الآخر منهين الرقصة. كان ختامًا مثاليًا في نظر الجميع.
لكن بعد أقل من نصف ساعة من رقصها مع الدوق، أفصحت دوقة غلينترلاند إيزابيلا أمام الحاضرين عن الفضيحة التي ارتكبتها الدوقة.
التعليقات لهذا الفصل " 80"