1
عام 1318، شهر أغسطس.
العاصمة “رينور” من مملكة بيلوف.
كانت «غاليري سولز موسيه » صالةً فنية تُعرض فيها لوحات ومنحوتات من أفخر أنواع الترف، تُباع فيها الفنون كما تُباع المجوهرات.
أما رينور نفسها، فهي مدينة تدّعي النُّبل والرُّقيّ، يعجّ وسطها بأثرياء يتباهون بالبذخ، فازدهار مثل هذه المعارض أمر طبيعي فيها.
وكان موقع الغاليري في شارع سولز، حيث تسكن الطبقة الوسطى، سببًا كافيًا لبقائها على قيد الحياة رغم عجزها الدائم وخسائرها المتراكمة.
صاحب الغاليري، البارون “كوبيين”، رجلٌ غارق في الديون حتى أذنيه، إلا أنّه لا يزال يصرخ باسم الشرف كما لو كان كنزًا مقدّسًا.
رجل لا يطيق الفضيحة، فيكدّ ليل نهار ليدفع أجور موظفيه.
لم يكن ماضيه مشرفًا، لكنه تظاهر بذلك بإتقان، وكأن في ادعائه فائدة لمن ينامون مطمئنين في هذه المدينة.
لكن، لسنا هنا لنضيّع وقتنا في تقييم رجل أشبه بعربة خالية تآكلت عجلتها.
ما يهمّنا حقًّا هو “هي” — المرأة التي ظهرت يومذاك في «غاليري سولز موسيه».
في ذلك اليوم، كان أحد الموظفين يحارب وحش الكسل الصيفي بينما يقبض صحيفة رينور بوست بيده.
رنّ جرس الباب بخفة، ودخلت امرأة تبدو في العشرين من عمرها، يرافقها رجلٌ أشيب الشعر، يبدو أنه تجاوز الثلاثين بسنوات.
لم يكن الموظف يعرف من تكون، لكن ملامحها الفاخرة أفصحت عن نشأةٍ مترفة.
شَعرٌ أسود طويل لامع، وبشرةٌ بيضاء تتورد بحمرةٍ دافئة، وعينان ناعستـان يفيض منهما الكِبر والرّزانة.
عيناها، المرتفعتان في أطرافهما كعيني قطة، كانتا آية في الجمال، تلمعان كأنّ النور ينبع من خلفها.
ارتبك الموظف أمام ذلك المشهد حتى كاد يهمس إعجابًا: “واو، كأن الضوء يحيط بها.”
قالت المرأة برقة:
“الظلّ هنا يُنقذ الأرواح من لهيب الشمس.”
كانت تحمل مظلّة بيضاء تتخلّلها زخارف مرجانية بديعة. لكن الحقيقة أنّ الجمال لم يكن في المظلّة، بل في صاحبتها.
ابتسمت وقالت:
“يبدو أنّ شمس رينور الحارقة قد أنضجت عقول أهلها.”
فبادر الرجل الأشيب بنبرةٍ حازمة:
“آنِت، لا تتفوّهي بمثل هذا الكلام في العلن.”
أجل، قلّما تجتمع الحُسن والكمال في شخصٍ واحد. استعاد الموظف رباطة جأشه، وأخذ يتفحص أناقتها.
كانت قفّازاتها الرقيقة الشفافة من ماركة «أوديت» الشهيرة، وقبّعتها البنية المزينة بريشة أنيقة من تصميم «بيتينكورت » — وكلتاهما من أغلى الماركات.
ربما كانت سيّدة ثريّة جاءت من خارج المدينة للسياحة؟
أما مرافقها، فقد بدا غريبًا أيضًا؛ ملامحه صارمة، وثيابه متواضعة، لكن الساعة الجيبية التي يحملها كانت فاخرة على نحو يثير الريبة.
“أيعقل أن تكون من إصدار بيرلكس؟ النسخة المحدودة لعام 1111 من كوكلاينغر؟ أم أنها مقلّدة؟”
تساءل الموظف في نفسه وهو يراقبه بعينٍ فاحصة.
وبينما كان غارقًا في مراقبتهما، كانت المرأة قد تجاوزته دون التفات، وتوقفت أمام لوحة معلّقة على العمود الأوسط في الصالة.
أفاق الموظف سريعًا وقال بأدب:
“لابد أنكما متعبان من الحرّ، سأُحضِر شرابًا بار—”
فقاطعته قائلة بنبرة هادئة:
“لا داعي، لو كنت أريد الشراب لذهبتُ إلى مقهى.”
تابعت تأمل اللوحة دون أن تنظر إليه، وكأنها لا ترى في البشر ما يستحق الانتباه.
قال الرجل الأشيب وهو ينظر إلى ساعته:
“ليس لدينا وقت نضيعه.”
بدا واضحًا أنّ هذين الزائرين لم يأتيا ليُبديا إعجابًا بالفن، بل لهدفٍ آخر.
سأل الموظف متردّدًا:
“إذن، كيف يمكنني مساعدتكما؟”
فابتسمت قائلة:
“رفيقي مستعجل فلا مجال لجولة فنية. جئنا للبحث عن البارون كوبيين.”
“أنتم من ضيوف البارون؟”
“نعم، ضيوفٌ مميّزون. هل تعلم أين يمكن أن نجده الآن؟”
تردد الموظف وقال بحذر:
“أنا مجرد موظفٍ هنا، سيدي. البارون لا يأتي إلا نادرًا، ولكن… إن حضر، سأنقل له رسالتكم. عمّ أبلغه تحديدًا؟”
في تلك اللحظة، لم يكن يعلم أنه على وشك أن يشهد أغرب مشهد في حياته الوظيفية.
قالت المرأة بابتسامة هادئة:
“أخبره، رجاءً، أنّه مهما حاول الهرب، فعليه أن يبيعنا هذا المكان.”
“عفواً… ماذا؟”
“نحن بحاجة إلى هذا المبنى.”
“ماذا… تقولين؟!”
رفعت المرأة يدها برشاقة، فاستخرج مرافقها فورًا دفتر شيكات وقلمًا وزجاجة حبر.
ثم انحنت تلك الأصابع المغطاة بالقفازات الفاخرة وكتبت بخطٍّ أنيق:
[شيك صادر من بنك بيلشوتييه
إلى المستفيد: جوليان بييري
المبلغ: 3,000 ليفر بيلوفي
الموقِّعة: آنيت ر. بونيل.]
حدّق الموظف في الورقة مذهولًا.
اسمه مكتوبٌ كمستفيد! والمبلغ يعادل راتبه لنصف عام!
لكن ما صعقه أكثر هو الاسم في خانة التوقيع — «بونيل»!
نعم، «تلك البونيل» بعينها.
قالت بابتسامةٍ تنضح بالثقة:
“اعتبر هذا إكرامية. فقط بلّغ البارون رسالتنا كما ينبغي. وإن أخبرتنا الآن بمكانه، فقد أُظهر لك امتنانًا أكبر.”
كانت عائلة بونيل من أشهر الأسر الثرية في مدينة “شابان” الساحلية، البعيدة عن رينور، ومحورًا للجدل بسبب فضائحهم المتكررة.
وأشهرها تلك التي عُرفت باسم قضية بيع الألقاب الأرستقراطية قبل عامين فقط.
ظهور واحدة من آل بونيل في رينور لم يكن حدثًا عابرًا، بل نذيرًا لشيءٍ جلل.
وفي اليوم نفسه، أغلقت ثلاثة متاجر في الجهة المقابلة للغاليري أبوابها، بعد أن بيعت جميعها لعائلة بونيل.
وبعد يومين، شاع خبر بيع متجرٍ ضخمٍ للأقمشة ومساحةٍ خالية قربه للعائلة ذاتها.
وفي اليوم الثالث، امتلأت صفحات صحيفة رينور بوست بعنوانٍ عريض:
«عائلة بونيل تدمر شارع سولز العريق!»
هكذا بدأ كلّ شيء… بقدوم تلك المرأة.
التعليقات لهذا الفصل " 1"