1
“حقًّا، ما الَّذي ينبغي أنْ أفعله الآن؟”
أنزلتُ يدي الَّتي كنتُ أعضّ عليها مرارًا مِن شدَّةِ القلق.
وليس ذلك غريبًا، فاليوم هو أكثرُ يومٍ استثنائيّ في تاريخ عائلة ديكارت، إنَّه يومُ “الاتّحاد”.
كان “القمر الأحمر”، مصدرَ قُوَّةِ عائلة ديكارت، مُغطّى بالضباب لسنواتٍ بسبب الجفاف الشديد ولعنةِ الانسجام، فلم يظهر أبدًا… لكنَّ ذلك القمر ظهر هذا العام بالذات.
ولذلك بدأ الناس يهيجون ويصرخون بضرورة إقامة ليلة الاتّحاد لرفع اللعنة، وأُعلِن هذا اليوم رسميًّا “يوم الأزواج”.
مع أنّه كان هناك أصلًا ما يسمّى “يوم الأزواج”، لكنَّ الأمر لم يكن بهذا الجنونِ.
خلاصة القول: كان على الزوجين أنْ يقضيا ليلة الاتّحاد مهما حصل.
إنَّه يومُ حظٍّ مُبارك مِن السماء، ويُقال إنَّ الحمل يحدث فيه بسهولة أكبر وما إلى ذلك.
لكنْ… لم أكن أعلم أنَّ هذا ينطبق حتّى على الزوجين الَّلذين انفصلا ثمّ عادا لبعضهما البعض!
قد يرتكب الإنسانُ أخطاء كثيرة في حياته، لكنَّ خطئي أنا كان مختلفًا قليلًا.
مختصره: أنَّني تجرّأتُ وعدتُ إلى زوجي السابق بعد أنْ كنتُ قد تطلّقتُ منه!
بلْ إنَّني عدتُ لأعيد الأحداثَ الَّتي كنتُ قد شوَّهتُها في الأصل كي أنجو… فأصبحتُ الآن في “ورطة” حقيقيّة، لا مجرّد خطأ.
رفعتُ بصري نحو القمر خلف النافذة، فإذا به يلمعُ أحمرَ قانيًا غيرَ مُبالٍ بحالي.
ولم يكن ذلك كلّ شيء.
ففي منتصف السرير صُنِعتْ زخرفةٌ على شكل قلبٍ مِن ورودٍ ملوّنة،
جميلة حدَّ الاستفزاز.
ثمَّ إنَّ عبيرَ زيوتٍ عطريةٍ حلوة كان يملأ الغرفة منذ مدّة.
ليلةُ اتّحادٍ؟ هراء.
البقاء هنا فقط يُصيبني بدوارٍ ليس موجودًا أصلًا.
“لم أتخيَّلْ أنَّني سأرتدي هذا الثوبَ مرّةً أخرى… هاااه. لا بُدَّ أنّني مجنونة.”
كان ثوبي أكثر ما في الغرفة مبالغةً.
“وما هذا الشريط؟ هل كان موجودًا أصلًا؟”
مرَّتان تزوّجتُ هذه العائلة البائسة؟ يا للغباء.
وبينما كنتُ أحدّق في الفراغ بنقمة، وصلني ذاك الصوتُ العميق المألوف.
“ما الَّذي تفعلينه وحدكِ في هذا الظلام؟”
إنَّه زوجي اللعين… دوق فيرزين ديكارت.
كانت تفوح منه رائحةٌ هادئة كأنَّه خرج للتوّ من الحمّام.
كان يختلف عن بقيّة الرجال الَّذين تفوح منهم رائحة التراب والعرق والدم… كانت رائحته دائمًا جميلة.
لو شبَّهناه بنبات فسيكون وردًا أسود مع شيءٍ مِن الخشب العطريّ.
وعلى الرغم مِن غرابة تركيبتها، فإنَّها تمنحه ثِقَلًا سحريًّا غريبًا.
ظهر مرتديًا رداء اللّيل فقط، وبسبب ضوء القمر خلفه بدا مشهدُه أشدَّ إثارة.
كافحتُ بصعوبة كي لا أعلّق نظري على صدره المكشوف قليلًا، ثمّ وقفتُ فورًا.
كدتُ أُسحَر.
لا غبارَ على جماله، وهذا هو المزعج.
أجبتُه بخشونةٍ أكثر مِن المعتاد حتى أُخفي ارتباكي.
“كان بإمكانكَ رفضُ ليلة الاتّحاد يا سعادةَ الدُّوق. لماذا قبلتَ؟”
فجلس فيرزين متراخيًا على الأريكة.
“لا أعرف. لأنَّنا زوجان؟”
قالها بلا فكرٍ ولا تردّد.
يا للعجب.
فيرزين يتفوّه بكلمة “زوجان”.
لو سمعنا أحدٌ لظنَّ أنَّنا زوجان حقيقيّان.
مع أنّه يعرف جيّدًا أنّنا لسنا كذلك الآن.
ازددتُ غيظًا مِن هذه النبرة الماكرة فخرجتْ كلماتي حادّة:
“نعم، نحن زوجان… مزيفان. مهما تظاهرنا، فهذا لا يجعل ليلة الاتّحاد أمرًا طبيعيًّا! خاصّةً مع وجود طفلة…!”
وفي اللحظة نفسها، انحدرَ طرفُ عينيه الضيّقتين بمكرٍ أكبر.
كما لو كان ينتظر سماع ذلك.
فتداركتُ الأمر بسرعة:
“بالطبع، ليستْ ابنتي الحقيقيّة… على أيّ حال! قلتَ إنَّه لن تكون هناك ليلةُ اتّحاد بعد عودتنا!”
فأجاب بهدوء، وعيونُه الحمراء تلمع بإزعاجٍ أكثر مِن المعتاد:
“أعرف، ميلا ليستْ ابنتي ولا ابنتكِ أيضًا.”
“أأنتَ تسخر مني؟”
“أبدًا.”
لكنّ نظرته كانت تقول شيئًا آخر.
نظرةُ شخصٍ لا يصدّق أنّ الطفلة ليستْ ابنتي.
“إيفلين… أهي حقًّا ليستْ ابنتك؟”
هكذا كان ينظر إليّ يوم التقينا مجدّدًا.
والآن أيضًا… يبدو أنّه لم يقتنع إلّا ظاهرًا فقط.
“أنتِ تعلمين مدى ثرثرة الشيوخ.
وكلامُهم السخيف لا ينتهي.
ولخداعهم علينا التصرّف كزوجين كاملين. والناس كلّهم يظنّون أنّنا متيّمان ببعضنا. وليلةُ الاتّحاد ليستْ إلّا جزءًا من هذا التمثيل. لا معنى آخر لها.”
“……هَه.”
يبدو واضحًا أنّ الشيوخ تحدّثوا كثيرًا عنّي وعن ميلّا.
أنْ أعود بعد خمس سنوات ومعي طفلة… طبيعيّ أن يعتبروا ذلك فضيحة كبرى.
ولا خيار أمامي سوى مجاراة الوضع.
فاستسلمتُ واتّجهتُ نحو السرير.
“حسنًا. طالما أنّني لا أستطيع الخروج مِن هذه الغرفة، فلنمثّل جيّدًا إذن. أتريد أنْ أصرخ أيضًا؟ لأقطع الطريق نهائيًّا على أي كلام عن ليلة الاتّحاد بعد اليوم.”
اقترب فيرزين وجلس بقربي ضاحكًا بخفة، وزاوية شفتيه تلتوي بمكر:
“هل عليَّ أنْ أحطّم السرير كما في ذلك اليوم أيضًا؟”
“لماذا تذكّرني بهذا فجأة… كـ… كياااه!”
في تلك اللحظة أمسك جسدي الَّذي حاولتُ النهوض به، وأعادني إلى السرير.
كما في ذلك اليوم قبل خمس سنوات.
ارتبكتُ كثيرًا حتّى إنَّني لم أستطع ابتلاع ريقي.
“فـ… فيرزين…”
“أيكفيكِ مجرّد الصراخ؟ لقد حطّمنا السرير سابقًا، ألا تذكرين؟”
“ذلك الـ…!”
وما إنْ بدأتُ أفتح فمي لأشرح، حتّى قاطعني بصوته تاركًا كلماتي تذوب:
“ميلّا… تشبهكِ كثيرًا يا إيفلين. وتتصرف مثلكِ تمامًا.”
“……”
“أأنتِ متأكدة أنّها ليست ابنتي؟”
سقطت خصلة مِن خصلات شعره السوداء على شرشف السرير.
“لكنْ… لا بأس.”
ابتلع بقيّة جملته.
كانت أصابعه تربتُ على شعري بنعومةٍ تحمل شيئًا مِن الأسى.
ثمّ تلألأتْ عيناه ببريقٍ لم أره عليه مِن قبل.
“فقد عدنا زوجين مجدّدًا.”
ثمّ قبَّل طرفَ شعري بابتسامةٍ دافئة بطيئة.
“فيـ… فيرزين! انتظر! قلتَ تمثيلًا فقط! هل خدعتني؟”
“ربّما… لقد تغيّر رأيي للتوّ.”
“……ماذا؟”
“أريد أنْ يكون هذا حقيقيًّا. معكِ.”
وبينما كانت أفكاري تتلاشى بعيدًا، خطر ببالي سؤالٌ واحد:
لماذا وصلنا إلى هنا؟
أجل… بدأ كلّ شيء عندما التقى زوجي اللعين بتلك الطفلة الَّتي يظنّها ابنته الحقيقيّة.
أو بالأحرى… “ابنتها”.
* * *
كلُّ شيءٍ يبدأ صدفةً في يومٍ معيّن.
فقد أدركتُ أنّني قد بُعِثتُ داخل رواية قبل خمس سنوات، يومَ تزوّجتُ صديقي منذ الطفولة، والرجلَ الَّذي سيصبح لاحقًا معلّمًا للبطل… فيرزين ديكارت.
في الرواية، كانت إيفلين مجرّد شخصيةٍ ثانوية… وقد ماتت قبل بداية الأحداث.
إنَّها الزوجة الأولى لدوق فيرزين ديكارت.
تلك هي الشخصية الَّتي حللتُ محلَّها.
حتى في زمن كهذا… أنْ أكون ميتةً في أصل الرواية؟ مستحيل أن أسمح بحدوث مصيري الأصلي.
‘نَحْنُ سنَتَطَلَّقُ.’
طبعًا بادرتُ إلى الطلاق أوّلًا.
ففي النهاية، في النِّصِّ الأصلي كانت الشخصية تَموت فلا تَظْهَر أصلًا، فليكن، سأختفي تمامًا من الحكاية.
ثمّ مَرَّت خمسةُ أعوام، والآن.
كانَت حياتي تَسيرُ على أتمِّ وجهٍ دون أنْ تتأثّر بالنِّصِّ الأصلي.
“لكن لا مالَ لديّ.”
سوى شيءٍ واحد، وهو أنّه لا مال عندي.
أطرقتُ رأسي وأنا أُحدِّق في كومةٍ من رسائل المطالبة بالدَّين فوق المكتب.
“لِماذا يا تُرى يستمرُّ الدَّين في التراكُم ولو سَدَّدْتُه يا هيوبرت؟”
تنهّد كبيرُ الخَدَم هيوبرت، ذو الملامح الهادئة، وهو يمرّر يدَه على لحيته الكثيفة كما لو كان يُدلِّك فروةَ حيوان.
“ذلك لأنّ العائلة لا مالَ لديها يا سيدتي.”
“مُستفِزٌّ للغاية، لكنّه مُحِقٌّ لدرجةٍ لا تُتيح لي الاعتراض.”
كما قال هيوبرت، كانت الحالة الماليّة لأسرة رُويلّا قد بلغت أسوأ مراحلها.
فقد كانت العائلة تُعاني من الدُّيون بسبب الجرائم التي ارتكبها الكونتُ السّابق.
“كلّما فكّرتُ في الأمر ازداد غيظي. أين ذهب ذلك الأخ عديمُ الفائدة؟!”
وتلك مصيبةٌ أخرى.
فأخي الوحيد المتبقّي، “لويس”، اختفى بعد صدمة وفاة والدنا، وما زال مفقودًا إلى الآن.
ولذلك بات المصدرُ الوحيد للمال هو القافلةُ التجاريّة التي أُديرها سرًّا، “كارِينسيا”.
آه، لو أنّني وُلِدتُ من جديد في روايةٍ عائليّة دافئة، لكان أفضل بكثير.
أو في روايةٍ تكون فيها البطلةُ فائقةَ القوّة، من نوع “الأكشن”.
بل حتى كونُها فائقةَ الجمال ويطارِدها الوسيمون من كلّ الجهات — عادي، مقبول.
“آه، لا يهمّ! إذا كانوا يريدون سدّاد الدَّين، فلْيأخذوا ذراعي ويَرتاحوا!”
هززتُ رأسي لأطرد تلك الأفكار السخيفة، ثمّ زحزحتُ رسائل الدَّين إلى طرف المكتب وانهرتُ فوقه.
والآن وقد تذكّرتُ… لقد مَرَّت خمسُ سنوات منذ أن وُلِدتُ داخل الرواية.
والآن نحن في العام 1509 من تاريخ إمبراطوريّة آفيرك.
أي أنّه بقيَ نحو خمس سنوات على بداية أحداث الرواية الأصلية.
خمس سنوات صمدتُ فيها… وها هي خمس أخرى بانتظاري.
لحظة… إذًا البطلة الآن في نحو الخامسة من عمرها؟ لا بدّ أنّها لطيفة للغاية.
ومع ذلك، بما أنّني تجسّدتُ في هذا العالم، فلا بأس لو قابلتها يومًا ما.
لكن، هه… لا يُوجَد احتمالٌ لِمثل ذلك لشخصيّةٍ ثانويّة مثلي.
تخلّيتُ عن الفكرة وأطلقتُ بعض الثرثرة المعتادة.
“آه… ألا يمكن أنْ تسقط من السماء جوهرةٌ ثمينة؟ أو يسقط مالٌ كثير؟ فقط لأستطيع سداد الدُّيون.”
وفي تلك اللحظة بالذات.
كوااااااع!
جاء صوتُ شيءٍ يقتحم النافذة، تلاه انفجارٌ مُدوٍّ.
“كُح! كُح!”
لم أستطع حتّى أنْ أستوعب ما يحدث، واكتفيتُ بالسعال بينما أنظر إلى المكان الذي انقشعت عنه سحابةُ الدُّخان السوداء.
“ما هذا بحقّ…؟”
وحين انكشف الدُّخان، لم يكن هناك مال، ولا جواهر.
بل كانت هناك فتاةٌ صغيرة لا أعرفها، ساقطةً أرضًا وهي تُقَبِّض يدَها على ورقةٍ تحمل رسالةً لا معنى لها سوى التهديد:
“رَبِّيهَا.”
“مستحيل…”
ولمّا أدركتُ حقيقة هذه الطفلة، لم أستطع إلا أنْ أرتجف صدمةً ورعبًا.
فهي لم تكن أيَّ طفلة.
بل كانت — بلا أدنى شك — البطلة الأصلية للرواية!
التعليقات لهذا الفصل " 1"