الفصل 16
كيف غسّلوا دماغ هذا الطفل أصلًا حتى صار لا يعرف أن كلامي الآن غريب؟
‘لا، لعلّ الأمر ليس غسل دماغ، بل لأنّه ببساطة لا يعرف أنّ هذا التصرّف خطأ.’
لو أنّني أنا أيضًا نشأتُ في كايلوم ‘بطريقة القراصنة’، لما عرفتُ أنّ القرصنة أمرٌ سيّئ.
لكن نيريوس ربّاني وهو يعلّمني أنّ القراصنة لا يمكن أن يكونوا موضع احترام أبدًا، وأنّهم جماعة فاسدة شريرة.
وفوق ذلك، ومع تلقيّي التعليم في البحرية، ترسّخ لديّ أكثر أنّ القراصنة جماعة من الشرّ.
أنا أعلم أنّ عصابة قراصنة كايلوم شرٌّ اجتماعيّ، ومع ذلك اخترتُ في هذه الحياة أن أحبّهم لأنّهم عائلتي.
‘لكن ما هذا أصلًا؟’
هيبيريون يعتبر أنّ كلّ ذلك الظلم الواقع عليه هو خطؤه هو، ولا يشعر حتى أنّ معاملته الحالية غير عادلة.
‘تُرك، وكاد أن يموت، ومع ذلك هذا موقفه؟ ما هذا بحقّ؟’
هل تعرّض هذا الطفل فعلًا لغسل دماغ؟
جربتُ أن أعجن خدّيه الطريّين الدافئين، مثل خبز أبيض طازج خارج من الفرن.
لم يكن لأنّني أردتُ لمسهما، بل لأتأكّد فقط إن كان قد تعرّض فعلًا لغسل دماغ.
“مـ-ماذا تفعلين؟”
“تكلّم براحة.”
‘استجابته سريعة.’
جيّد، لو كان قد خضع لغسل دماغ بالأدوية لما استطاع الاستجابة بهذه السرعة.
ضغطتُ على خدّي هيبيريون مرّةً أخرى ثمّ رفعتُ يدي.
“ونادِني لارا.”
“لا-لارا؟”
“ليس لالارا، بل لارا.”
عندها احمرّ وجه هيبيريون بشدّة مرّةً أخرى، وتمتم بلقبي ‘لارا’.
حينها فقط شعرتُ وكأنّني عدتُ إلى وضعنا الأصلي.
قبل العودة بالزمن، كان ريون يناديني لارا.
في ذلك الوقت كان اسمي ماري أكيرا، لكن بعد أن تعرّفنا لعدّة سنوات، طلبتُ منه ذلك سرًّا.
حينها لم أفهم أنا نفسي لماذا طلبتُ ذلك.
لكن الآن، عندما أسترجع الأمر، ربّما كنتُ آنذاك أيضًا أشتاق إلى كايلوم طوال الوقت.
هل هو تعلّقٌ أم شيء آخر، لكن لعلّني كنتُ أتمنّى فقط أن يكون هناك شخص واحد على الأقل يناديني لارا باستمرار.
كما في السابق…
‘لن نتمكّن من أن نعود إلى العلاقة نفسها.’
اللقب عاد كما كان، لكنّني كنتُ أعلم أنّنا لن نكون العلاقة نفسها كما في ذلك الوقت.
ريون الذي التقيتُه في الماضي، ربّما أدرك أنّ البيئة التي تحيط به غير طبيعيّة، إمّا من خلال تجارب مختلفة، أو بعد لقائه بأشخاص آخرين.
وربّما كان ذلك بعدما أصبح أدميرالًا وتلقّى الكثير من الحبّ.
ومع ذلك، لم أسمع قطّ أخبارًا عن أنّ ذلك الأدميرال عادى فاروس، أو غيّر هيكل السلطة الداخلية في عائلته.
أي إنّ هيبيريون، من الآن فصاعدًا، سيقضي وقتًا طويلًا وهو يرى عائلةً لا تحبّه، ويعتقد أنّه هو السبب، وأنّ كلّ شيء خطؤه.
لكن بما أنّني التقيتُ ريون الآن، فلن أقف متفرّجة على ذلك.
بصراحة، قد أكون شخصًا غريبًا لا يعرف ما يجري داخل فاروس، وربّما أتدخّل فيما لا يعنيني، لكن هذا الطفل لم يتجاوز الثامنة من عمره.
ما الذي يمكن لطفلٍ في هذا العمر أن يكون قد أخطأ فيه أصلًا؟
خدّاه كانا طريّين كعجين دقيق مخمّر جيّدًا.
كنتُ أتمنّى أن أراوغ نيريوس وأُدخل هيبيريون ضمن طاقم القراصنة، لكنّ هويّتي كجنديّة بحرية لم تمت بعد.
أتذكّر الإنجازات الكبرى التي حقّقها هيبيريون فاروس عندما أصبح أدميرالًا.
إن لم يصبح أدميرالًا، فإنّ عدد المدنيّين الذين سيموتون سيُقاس بجزرٍ كاملة.
لم يكن عبثًا أن تُمنح له ألقاب براقة من قبيل ‘عودةُ فاروس’.
‘إن أخذتُ هيبيريون من هنا، فإلى جانب أنّني سأمنح كايلوم ذريعة ليصبح هدفًا للعائلة السادسة، سيموت عددٌ هائل من الناس.’
لكن إن تركتُه في البحرية، فسيأتي يومًا ليقبض علينا.
ظللتُ أفكّر فيما يجب أن أفعله، ثمّ تذكّرتُ الفكرة التي راودتني أوّل مرّة أدركتُ فيها هويّة هيبيريون.
‘قد لا نصبح مقرّبين كما كنتُ مع ريون سابقًا، لكن ألا يمكننا على الأقل أن نصبح قريبين إلى حدّ يجعله يتردّد قبل القبض عليّ و عائلتي؟’
صحيح أنّ تعليم البحرية صارم إلى حدٍّ ما، وإن افترقنا طويلًا فقد يرى القرصانة التي أنا عليها كعدوّ مطلق…
لكن إن أغدقتُ عليه المعروف مسبقًا، فربّما لا تكون مشكلة.
“ريون، ما رأيك أن نذهب لنتناول الطعام أوّلًا؟”
عند التفكير في نظام تدريب البحرية وتعليمها، بدت فرص النجاح ضئيلة، لكن عندما أتذكّر طيبة ريون في الماضي، لم يكن الأمر مستحيلًا تمامًا.
أوّل خطوة باتت واضحة.
مددتُ يدي إلى هيبيريون، وارتسم على وجهي ألطف وأحنّ ابتسامة أستطيعها.
تردّد قليلًا، لكنّه انخدع بتعبيري ووضع يده الصغيرة في يدي.
“الطعام الذي يصنعه أبي غيلبرت لذيذ حقًّا. سيعجبك.”
“أبوكِ غيلبرت؟”
“نعم، كلّ من هنا عائلتي.
لذلك كلّهم آباء وأمّهات وإخوة لي.
قد يبدو الأمر غريبًا، لكن لا حيلة لي.”
كنتُ أعلم جيّدًا كم سيبدو هذا غير طبيعيّ في نظر الآخرين، لذا سبقتُ بالتمهيد.
“لـ-ليس غريبًا.”
“…حقًّا؟”
“نعم، هذا رائع!”
لا أدري لماذا أثقلت هذه الكلمة خطواتي هكذا بلا سبب.
‘لا أعرف ماذا يجب أن أجيب.’
قراصنة كايلوم، بصراحة، لم تكن مجموعة من البالغين الرائعين.
كانوا يصدّقون كلام طفلة في السادسة بلا تردّد، ويتقبّلونها على أنّها عبقريّة، ويتصرّف أناس في عمرٍ متقدّم كأطفال طائشين.
وفوق كلّ ذلك، كانوا قراصنة، مجرمين.
أي إنّهم، وفق الأعراف الاجتماعيّة، ليسوا رائعين على الإطلاق.
هيبيريون لم يكن سوى يعبّر بإيجابيّة عن هذا الشكل من العائلة، ومع ذلك اضطرب قلبي بلا سبب.
‘لكن… أليس هناك ضجيج ما؟’
حين وقفتُ أمام الباب، سمعتُ جلبة خفيفة.
دفعتُ قلقي إلى الخلف وفتحتُ الباب…
“أيّها المجنون! أعطني ذاك! هذا خمري!”
“ومن قال إنّ هناك لك ولي؟ اعتبره ثمن المرّة الماضية حين صدَدتُ عنك السيف!”
“لقد نقعتَ ذاك منذ ثلاث سنوات، أيّها الوغد!”
“هذا لذيذ، أليس هناك المزيد؟!”
“آه! انقلب الطبق!”
“هيه، يا هذا. جيرالد! أحضر مزيدًا من الخبز!”
كان مشهدًا يخلو تمامًا من أيّ ذوق أو نظام.
“……”
السكين الصغيرة التي وُضعت لتقشير الفاكهة كانت تتطاير، والطعام مكدّس إلى حدٍّ يشعر معه المرء بالعنف.
هذا المشهد، حيث يلتهم الجميع الطعام بأيديهم… كان غريبًا جدًّا.
-طَقّ.
أغلقتُ الباب، فشعرتُ بهيبيريون المتجمّد إلى جانبي يراقبني بحذر.
‘يا للجنون.’
على متن سفينة القراصنة، كانت تحدث شتّى الحوادث، وبما أنّ جسدي لم يكن بحالة جيّدة آنذاك، لم أكن أرى مثل هذه المشاهد.
وفوق ذلك، أثناء الإبحار، نادرًا ما تتوفّر فرصة لتكديس الطعام بهذه الطريقة.
ولهذا السبب…
‘كيف نسيتُ هذا؟’
لقد نسيتُه تمامًا.
شعار البحرية هو العدل، والصرامة، والتواضع.
وينعكس ذلك حتّى في الطعام، حيث تُقدَّم وجبات مضبوطة التوازن الغذائيّ، ويُعدّ الالتزام بآداب المائدة أمرًا بديهيًّا.
كما أنّ الحديث كان ممنوعًا ما لم يكن متعلّقًا بالعمل، لذلك كان وقت الطعام هادئًا ومريحًا.
‘هل هذا… بخير؟’
من مظهر هيبيريون الواقف بلا كلمة، بدا أنّه لم يجد ما يقول.
“هيه! لارا، لماذا تغلقين الباب؟ ها؟!”
ثمّ جاء صوت نيريوس من خلف الباب مباشرة، وبدأ مقبضه يدور.
“هيه؟ هيه؟!”
كان أسرع ممّا توقّعت.
حين أفقتُ، كانت يدي قد أمسكت بالمقبض بقوّة، وجسدي يدفع الباب للخلف.
“هيه، لارا؟ يا أميرة؟”
اهتزّ الباب، في شدٍّ وجذبٍ على وشك أن ينفتح أو لا.
“ابتعدي عن الباب! هذا خطر! ما بكِ؟!”
“هذا مُـ-مُحرِج!”
دفعتُ الباب بكلّ قوتي وصرختُ، فتوقّف الباب فجأة عن الاهتزاز.
“……”
“ُمُـ-مُحرِج؟”
نيريوس، الذي كان يصرخ بصوتٍ أجشّ قبل لحظات، هدأ فور سماعه صرختي الخجولة، وشعرتُ بشيء من الذنب.
“لا، ليس مُحرجًا تمامًا، بل…”
أنا قد أتحمّل، لكن بالنسبة لهيبيريون، أليس هذا مشهدًا غريبًا جدًّا؟
هو سيدخل البحرية قريبًا، وعندما يرى بيئتها ويعتادها، ألا يقارننا بها؟
لم أكن شخصًا يهتمّ كثيرًا بنظرة الآخرين، لكن ماذا لو اعتاد هيبيريون بيئة البحرية، ثمّ تذكّر هذه المشاهد وشعر بالنفور؟
إن حدث ذلك، فلن تهمّ صداقة الماضي ولا غيرها، سنأمر حينها لاميس أو ديكستر بتوجيه المدافع إلى رأسه فور أن نراه.
لم أكن أريد أن أقتل صديقًا بيدي.
“هـ-هناك طفل لا نعرفه، وإذا تناولنا الطعام براحة زائدة، ألن يشعر بالضيق…؟”
“آه.”
خرجتْ تأوّهة قصيرة على شكل إدراك.
-دويّ! طَخّ! قَعقعة!
ثمّ تتابعت أصوات صاخبة مختلفة…
“حسنًا، اخرجي الآن.”
بدل طرقٍ يوحي بأنّ الباب سيُكسر، جاء هذه المرّة طرقٌ لطيف.
فتحتُ الباب بحذر، فاستقبلنا نيريوس بمظهرٍ منتصر.
“هل استفاق الصغير؟ دعني أرى. آه الحمى زالت أيضًا.”
بعثر نيريوس شعر هيبيريون بعفويّة وهو يتفقّد صحّته.
كان مشهدًا حميمًا لدرجة أنّ أيّ شخص قد يظنّهما عائلة.
“حسنًا، أيّها الصغير، ما اسمك؟”
“ذ-ذلك…”
“لا تريد أن تُنادى بالصغير طوال الوقت، أليس كذلك؟”
ظننتُ أنّ من الأفضل لنيريوس وبقيّة الطاقم أن يعرفوه بأشم الـ’صغير’.
“إنّه يُدعى هيبيريون.”
لكنّ فمي خانني، فأعلنتُ اسمه بوضوح.
“…أوه، اسم جميل.”
“هيبيريون فاروس.”
“…أوه.”
“وقد انضمّ إلى البحرية منذ فترة.”
“……”
كلّما استمرّ التعريف بهيبيريون، ازداد الصمت الثقيل ضغطًا علينا.
حتّى بقيّة العائلة خلف نيريوس توقّفوا عن الحركة، واختفى صوت احتكاك الصحون.
“مـ-مرحبًا بكم.”
هيبيريون وحده، الذي لم يفهم معنى هذا الصمت، ألقى التحيّة بتردّد.
“أحم!”
“كحّ، كحّ.”
“يعني هذا الصغير هو…”
“ا-اسكت أيّها الوغد! أطبق فمك!”
-دويّ.
رأيتُ لاميس يدسّ حبّة بطاطا مشويّة كاملة في فم أحد الرفاق الذي كان على وشك التفوّه بكلامٍ غير ضروريّ.
نظر نيريوس إلى الفوضى خلفه، ثمّ استدار إلينا، ورسم على وجهه ابتسامة مرعبة كفيلة بإبكاء الأطفال.
‘سيخاف.’
وكما توقّعت، اتّسعت عينا هيبيريون واضطربتا، ثمّ نظر إليّ مستطلعًا.
أومأتُ برأسي قليلًا وأنا أشير إلى نيريوس.
“هذا أبي.”
“لـ-لارا، هذا أبوكِ؟”
“لارا؟”
لا أدري لماذا تفاعل نيريوس مع مناداتي بلارا.
“لارا.”
“نعم؟”
“صحيح أنّ مظهر هذا الطفل لا يُقارن بكِ أبدًا، لكن من بين الأطفال في عمركِ الذين رأيتُهم، يبدو لطيفًا إلى حدٍّ لا بأس به.
وهو يلمع كعملة ذهبيّة جديدة صدرت في فارمس.”
‘ما هذا الهراء الآن؟’
قبل أن أفهم الوضع، انحنى نيريوس وخفّض مستوى نظره.
“لكن، برأي أبي، ما زال الوقت مبكّرًا على المواعدة.”
كان صوته وتعبيره جادّين جدًّا.
“أيّ هراء هذا…”
وكان هذا كلّ ما استطعتُ قوله له.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 16"