الفصل 13
أخد نيريوس ذلك الطفل دون تردّد.
كان واضحًا من نظرة واحدة أنّ مظهره يحمل مسحة نبيلة، وعادةً ما كان الناس يتغاضون عن طفلٍ كهذا إذا علموا أنّه تُرك مهجورًا.
فالخوض في أمر قد يكون مرتبطًا بعائلة نبيلة لم يكن شيئًا يرغب أحد في التورّط فيه بلا داعٍ.
لكنّ نيريوس كان قبطان قراصنة كايلوم، ولم يكن يُعير مثل تلك النظرات الاجتماعيّة أو العواقب أيّ اهتمام.
‘يعني أنّه لا يلتزم إلّا بقوانين كايلوم، ويفعل ما يشاء فعلًا، أليس كذلك؟’
قوانين كايلوم لم تتضمّن أيّ شيء يخصّ الأطفال.
لكن إذا فكّرتُ في الأمر الآن، بدا أنّ أفراد كايلوم كانوا ليّنين على نحوٍ خاصّ تجاه الأطفال.
‘هل كان ذلك بسببي؟’
لا، ليس تمامًا.
بل لأنّهم كانوا في الأصل عطوفين على الأطفال، ولهذا لم يستطيعوا تركي وحدي هناك.
‘لكن، لماذا تُرك هنا أصلًا؟’
أنا لا أفهم كثيرًا في صراعات النبلاء أو السياسة.
حتّى في أيّام خدمتي في البحريّة، كانوا يقولون لي إنّه لا داعي للاهتمام بتلك الأمور، وبما أنّي لم أكن من أصحاب المناصب العليا، كنت مشغولًا بالعمل لا غير.
لكن كان من المستحيل على سكّان هذه المنطقة ألّا يعلموا أنّ البساتين هنا تُدار ضمنيًّا من قِبل القراصنة.
هم يعلمون ذلك، لكنّ كلفة القضاء على بقايا القراصنة أكبر، كما أنّ استخدام القوّة العاملة هنا أرخص، لذلك تركوهم وشأنهم.
‘وفوق ذلك، من يدري أيّ قراصنة لهم علاقة بهذا المكان؟’
كايلوم أصلًا كانت جماعةً لا تشبه القراصنة إطلاقًا، كانوا أقرب إلى مجموعة من الحمقى السذّج.
في أحسن الأحوال، كان يُشاع همسًا أنّ هذه البساتين القريبة تعود لـ”قراصنة”، دون أن يعرف أحد أنّها تعود تحديدًا لـ”كايلوم”.
‘لو كان شخصًا يعرف كايلوم جيّدًا، لما ترك طفلًا في هذا المكان.’
لو كان الأمر يتعلّق بعصابة قراصنة أخرى، لعرفوا أنّه طفل نبيل، ولتخلّصوا منه إمّا بإغراقه في عرض البحر أو ببيعه في مزاد العبيد، تجنّبًا للتورّط.
أي إنّهم تركوه هنا على أمل ألّا ينجو أصلًا.
لا أعلم أيّ ظروف دفعت الكبار إلى هذا، لكنّ مجرّد التفكير في أنّ طفلًا تورّط في الأمر جعل مزاجي سيّئًا.
‘هل ينوي نيريوس ضمّه لنا؟’
لأنّه يتصرّف دون أن يفكّر بتأثير الفراشة أو ما شابه، لم أستطع توقّع كيف سيؤثّر العثور على هذا الطفل علينا.
‘لكن على الأقلّ، لن يصل الأمر إلى هلاك المجموعة، أليس كذلك؟’
ذلك هو أسوأ الاحتمالات.
أومأتُ برأسي.
لا، لم أُومِئ… بل أُجبرتُ على الإيماء.
‘ما هذا؟’
شعرتُ بثِقَلٍ في رأسي، وأُغلِقت جفناي ببطء، ثمّ انفتحتا أبطأ من ذلك.
أحسستُ وكأنّ وعيي ينزلق تدريجيًّا إلى مستنقعٍ مظلم.
سمعتُ ضحكة من جانبي.
“ما بكِ؟ هل أنتِ متعبة؟”
“…لا أظنّ ذلك.”
ما الذي فعلتُه أصلًا لأتعب؟
لم أتحرّك بالكاد.
عندما أنكرتُ بظلم، ضحك نيريوس مجدّدًا.
“لا بدّ أنّك تعبت. نامي جيّدًا، وعندما تستيقظين سنكون قد وصلنا إلى السكن.”
“آه— لا….”
“لماذا؟”
ولِمَ تسأل؟
“يجب… شراء أوراق الكاكو….”
كان عليّ تحضير الدواء.
كنت قد حصلتُ على أهمّ مادّة، لكن دون أوراق الكاكو لن يظهر التأثير سريعًا.
عند سحق أوراق الكاكو وعصرها ثمّ تنقيتها، تتحوّل إلى محفّزٍ ممتاز.
غير أنّ المشكلة أنّها نادرة وباهظة الثمن.
‘كان هناك بالتأكيد عدد من السفن التجاريّة الكبيرة عندما نزلنا من السفينة.’
كان الميناء يعجّ بالسفن التجاريّة، ما يعني أنّه قد تكون هناك سفينة جلبت أوراق الكاكو.
كان سعر الورقة الواحدة 180 ويتن، وهو سعرٌ وقح بحقّ، لكنّ جمعيّتَي الأطبّاء كانتا تشتريانها عادةً كلّها قبل عرضها للبيع، لذا فإنّ العثور على المتبقّي وشرائه يُعدّ نجاحًا بحدّ ذاته.
أنا، باعتباري طبيبةً سابقة في جمعيّة ويتار و عضوةً في البحريّة، كنت أستطيع الحصول على كميّة صغيرة عند الحاجة، لكن…
‘الآن، لستُ في البحريّة ولا أيّ شيء.’
لا أنتمي إلى ويتار، ولا حتّى إلى جمعيّة ويست الأدنى شأنًا.
أنا مجرّد طفلةٍ في السادسة من عمرها، منبوذةٌ بين المنبوذين، ومنتميةٌ إلى القراصنة.
ليس هذا وقت التراخي.
كان يجب أن أذهب فورًا لأحصل على ما تبقّى من أوراق الكاكو، لكنّ جسدي كان ثقيلًا على نحوٍ لا يُطاق.
“آه… لماذا لم يُعطني أبي وقتًا لأطلب من بقيّة العائلة….”
كان يجب أن أذكر الأمر منذ أن كنا في السفينة.
لم أتوقّع أن يجرّني نيريوس إلى هنا بهذه السرعة.
كانت هذه غلطة قاتلة.
لم يكن ينبغي الاستهانة بسرعة تصرّف نيريوس.
“همم، حسنًا حسنًا. كم تريدين بالضبط؟”
“…أكبر قدر يمكن شراؤه….”
كيف هو وضع أموال سفينتنا الآن؟
لا يبدو سيّئًا جدًّا، لكن من الصعب تقديره بدقّة.
فسمعة القراصنة لا تُقاس بكمّيّة المال، بل بثِقَل الجرائم التي ارتكبوها.
“فقط بقدر ما نستطيع شراءه….”
كان يكفيني أيّ شيء.
صحيح أنّ إعداد قارورة صغيرة من المحفّز الجيّد يتطلّب نحو عشرين ورقة، لكنّي لم أكن أنوي صنع محفّز كامل الآن.
‘أيّ شيء… ولو القليل.’
لو حصلتُ على القليل فقط…
وعند هذه الفكرة، غبتُ عن الوعي.
رأيتُ حلمًا غريبًا جدًّا.
كنتُ في الحلم أتلقّى تدريبًا في البحريّة، وفجأة ظهر نيريوس.
كنتُ أُعاديه في الحلم، لكنّه ابتسم بلا مبالاة.
–”هل يكفي أن أزيل ذاك فقط؟”
ثمّ سلّ سيفه، وفي لحظة شطر المبنى إلى نصفين.
كوا-غوا-غوانغ—!
انهار الفرع الأوّل للبحريّة وسط ضجيجٍ هائل.
“أيّها اللقيط—!!”
وفي اللحظة نفسها استيقظتُ.
بعد أن التقطتُ أنفاسي بخشونة، بدأتُ أرى ما حولي بوضوح.
“آه.”
آيزاك، نانسي، وكلارا كانوا ينظرون إليّ وقد تجمّدوا في أماكنهم.
“لــ-لارا؟ من أين تعلّمتِ مثل هذا الكلام؟”
تلعثم آيزاك، وهو أمر نادر.
“الـ-القبطان؟ أنتِ تقصدين القبطان، صحيح؟”
وكانت كلارا شاحبةً على غير عادتها.
“إذا فكّرنا في الأمر، ألسنا جميعًا من علّمها؟ نحن لا نستخدم دائمًا كلمات لطيفة.”
“…….”
عندما أبدت نانسي، الوحيدة الهادئة هنا، ملاحظة منطقيّة، تبادل آيزاك وكلارا النظرات بوجوه متيبّسة.
‘لماذا؟’
ثمّ أومآ برأسيهما وغادرا الغرفة، وبقينا أنا ونانسي وحدنا.
“ما- ما الأمر؟”
“همم، لا شيء. ابنتنا لا داعي لأن تقلق. بدلًا من ذلك، ما رأيكِ أن نذهب لرؤية ما طلبته لارا؟ قالوا إنّه في المخزن.”
“ما طلبتُه؟”
“نعم، أوراق الكاكو. قالوا إنّ جيرالد اشتراها مع نائب القبطان.”
ما إن سمعتُ عن أوراق الكاكو حتّى ابتسمت نانسي، ثمّ رفعتني بين ذراعيها.
‘أشعر أنّ الجميع، وليس نيريوس فقط، بدأوا يستمتعون بحملي.’
راجيةً أن يكون ذلك مجرّد وهم، توجّهتُ معها إلى المخزن.
لكن… مخزن؟
أليست أوراق الكاكو صغيرة الحجم؟
‘آه، لأنّها موادّ طبيّة؟’
الأعشاب الطبيّة تُعدّ من المستلزمات الطبيّة، أي ممّا يشرف عليه إيثان أساسًا.
حتّى لو استخدمتُ بعضها، فإنّ التحقّق من الكميّة المتبقّية وتسجيلها ثمّ إبلاغ نيريوس أو غيلبرت يقع في نهاية المطاف على عاتق إيثان، الطبيب المسؤول عن السفينة.
‘هكذا يصبح الأمر منطقيًّا.’
لكن ما إن فُتح الباب، حتّى لم أستطع سوى التحديق وفمي مفتوح كالأبله.
“ما، ما هذا؟!”
“هم؟ أليست أوراق الكاكو؟ كما أرادت لارا.”
أعرف ذلك! أعرف!
‘لكن لماذا هذا العدد الهائل؟!’
ما رأيته كان— مهرجان أوراق الكاكو، كانت هناك أكوامٌ من أوراق الكاكو، بالتحديد بحرًا من أوراق الكاكو.
‘كم من الأدوية يمكن صنعها بهذه الكميّة؟!’
ثمّ خطر ببالي سؤال أخطر.
هل أوضاعنا الماليّة بخير فعلًا؟
ابتلعتُ ريقي وأنا أحدّق في الأكوام.
“ألم يكن هذا غاليًا؟ ألن نضطرّ لرهن السفينة للبنك بهذا القدر؟”
مع أنّه لا أحد سيقبل برهن سفينة قراصنة لا يُعرف صانعها.
“ماذا؟”
ضحكت نانسي بصوتٍ عالٍ، وقد بدا أنّ قلقي الصادق أضحكها.
“آه— لو كان القبطان هنا وسمع هذا الكلام لغضب! لارا، هل نبدو فقراء إلى هذا الحدّ؟”
“لـ-لكن…”
حتّى جمعية ويتار لن تستطيع شراء هذه الكمية إلّا بعد استعدادٍ كبير.
أكان قلقي مضحكًا إلى هذا الحدّ؟
“ربع هذه الكميّة تقريبًا حصلنا عليه مجّانًا، فلا تقلقي. يبدو أنّها لم تكن تُباع جيّدًا.”
“ماذا؟”
“قال نائب القبطان إنّها مجرّد شيء يأكله سكّان جزيرة أودلو. ومن سيشتري مكوّنًا غذائيًّا لا يؤكل في أماكن أخرى؟ كان يجب أن تري كيف تغيّر موقفه فورًا عندما قال القبطان إنّها من أجل لارا.”
“همم؟”
“ما بكِ؟”
“نائب القبطان غيلبرت قال ذلك؟”
“نعم.”
هذا غير معقول.
“غيلبرت يحبّكِ أكثر ممّا تظنّين. إن أظهرتِ هذا التعبير أمامه لاحقًا، قد تجرحين مشاعره.”
أنّ رؤية ذلك سيكون نادرًا ومثيرة للفضول.
يبدو أنّ نانسي ظنّت أنّ ما أدهشني هو تغيّر موقف غيلبرت، لكنّ دهشتي كانت في مكان آخر.
‘قال إنّها مكوّن غذائي لا يؤكل في أماكن أخرى؟’
أوراق الكاكو كانت منتجًا خاصًّا بجزيرة أودلو.
وفي هذا العالم المليء بالدول الجزريّة، كثيرًا ما كانت كلّ جزيرة تملك مناخًا وبيئة فريدة، ما يجعل زراعة نباتاتها خارجها أمرًا فاشلًا في الغالب.
وبسبب قيمتها الطبيّة، حاولت ويتار مرارًا زراعتها في البيوت الزجاجيّة، لكنّ جميع المحاولات فشلت.
لذلك أتذكّر الأمر جيّدًا.
‘أوراق الكاكو ليست طعامًا… بل دواء.’
“…….”
وبدأ رأسي يدور.
مكوّن غذائي، جزيرة أودلو، سعر رخيص.
وفجأةً—
ضربتني لحظة إدراك.
‘آه!’
تأثير أوراق الكاكو لم يُكتشف إلّا لاحقًا.
المرض الناتج عن الشمس البيضاء سُمّي لاحقًا بالجذر الأبيض، وكانت العلاجات الأولى له ضعيفة التأثير.
لهذا، بيعَ علاجٌ إسعافي يعتمد على ذلك الشراب السيّئ المذاق “بركة الفاكهة” بيعًا هائلًا، وأصبح يُستخدم أكثر من أوراق الكاكو.
لم يُعرف التأثير الحقيقي لأوراق الكاكو إلّا بعد أشهر.
وبعد فترة قصيرة من بدء تصديرها، اندلعت حربٌ في جزيرة أودلو.
أتذكر أنّ السبب كان تعاظم ثروة سكّان أودلو فجأة، ما جعلهم كسالى ومتعجرفين في التجارة.
وبسبب ذلك، أصبحت أوراق الكاكو نادرة للغاية، وانخفضت قيمة عملة أودلو.
مفارقة مأساويّة أن تقود أوراقٌ تساوي وزنها ذهبًا إلى خراب جزيرةٍ كاملة.
‘على أيّ حال، هذا يعني أنّ سعرها الآن كان سخيًا.’
الدواء المصنوع من أوراق الكاكو يمكنه أن يصمد لأكثر من خمس سنوات إذا حُفِظ بإحكام.
بمعنى آخر، كنتُ قد التقطتُ لؤلؤة سوداء ضخمة من قلب البحر.
هذا مذهلٌ بحقّ.
بهذا وحده، أستطيع تنفيذ كلّ الأبحاث التي حلمتُ بها طوال حياتي.
في البحريّة، كانت الأبحاث الشخصيّة بدافع الرغبة الذاتيّة ممنوعة.
كان يجب توثيق أيّ فكرة لدى جمعيّة الأطبّاء ثمّ رفعها إلى القادة قبل تنفيذها.
‘لكن الآن؟ أنا مجرّد قرصانة.’
لا حاجة لمراعاة أحد.
كان هذا حقًّا… ضربة حظّ لا تُصدّق.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"